تابعنا
وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر كشف في أواخر يناير/ كانون الثاني عن استراتيجية جديدة قد تنتهجها بلاده في ليبيا، حينما أكد أنها لن تسحب كامل قواتها من إفريقيا، وأن المراجعة جارية لوضع استراتيجيةٍ جديدة تجعل "مواجهة روسيا والصين هي الأولوية".

في واحد من أكثر الملفات تعقيداً بالنسبة لها، تنتهج الولايات المتحدة في الملف الليبي سياسة ملتبسة، تتسم بضعف الانخراط ومحدودية التدخل، وأيضاً عدم الميل إلى أحد طرفي النزاع بالكلية، إلا أنها في الآونة الأخيرة بدأت تعبر عن مخاوفها من التمدد الروسي في هذا البلد الواقع في شمال إفريقيا، ولم تتوان في التنديد بدعم موسكو لزعيم الحرب المتمرد على الحكومة الشرعية خليفة حفتر، بالمرتزقة والسلاح.

ورغم اعتراف الولايات المتحدة بحكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فايز السراج في العاصمة طرابلس والتي تعترف بها الأمم المتحدة، إلا أنها لم تتخذ خطوات فعلية تترجم هذا الاعتراف بمواجهة التمرد والهجوم الذي يقوده حفتر مدعوماً من دول إقليمية للسيطرة على طرابلس وإسقاط الشرعية.

وجاءت تصريحات عدد من المسؤولين الأمريكيين المنددة بالدعم الروسي لحفتر بالإضافة إلى رفض الولايات المتحدة القاطع للانقلاب الذي أعلنه الأخير بتعيين نفسه حاكماً على ليبيا، لتطرح تساؤلات حول طبيعة الموقف الأمريكي من الملف الليبي ككل، وما إذا كانت واشنطن تتقارب شيئاً فشيئاً مع حليفتها أنقرة، التي تتبنى سياسة داعمة لحكومة الوفاق تتجلى على أرض المعركة، وإمكانية التنسيق والتعاون بين الطرفين على أساس التقارب المفترض في المواقف.

رفض الانقلاب

دعوات واشنطن لحفتر لوقف هجومه على العاصمة الليبية ليست جديدة تماماً، فقد دعت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية مورغان أورتاغوس في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني حفتر لوقف هجومه على طرابلس "لمنع المحاولات الروسية لاستغلال الصراع ولتسهيل التعاون الأمريكي الليبي".

عرف بالتأكيد أن الروس يعملون مع نظام بشار الأسد على نقل مقاتلين ربما من دولة ثالثة وربما من السوريين إلى ليبيا إضافة إلى العتاد.

جيمس جيفري، مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا

ورغم ذلك فإن انقلاب حفتر، الذي أعلن نفسه في 26 أبريل/نيسان الماضي قائداً عاماً للبلاد في خطاب متلفز، بعد خطاب آخر دعا فيه إلى "إيقاف العمل بالاتفاق السياسي، ليصبح جزءاً من الماضي" على حد قوله، قاصداً اتفاق الصخيرات قد يكون بداية فاصلة في مرحلة جديدة من الصراع الليبي.

ووقع طرفا الصراع اتفاق الصخيرات في المغرب العربي برعاية الأمم المتحدة عام 2015، ونتجت عنه حكومة الوفاق قبل أن تتنكر لها قوات حفتر مجدداً بشن هجومها على طرابلس منذ أبريل/نيسان من العام الماضي.

من جهتها، أعلنت الولايات المتحدة، في بيان للسفارة الأمريكية بطرابلس، عن أسفها لإعلان حفتر تنصيب نفسه حاكماً لليبيا وإسقاط الاتفاق السياسي، وشددت على أنّ التغييرات في الهيكل السياسي الليبي، لا يمكن فرضها من خلال إعلان أحادي الجانب، مرحبة في الوقت نفسه بأي فرصة لإشراك حفتر وجميع الأطراف في حوار جاد حول كيفية حلحلة الأزمة وإحراز تقدّم في البلاد.

وفي أحدث المواقف الأمريكية من حفتر والدعم الذي يتلقاه من روسيا، قال مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، الخميس الماضي 7 مايو/أيار، في اجتماع لعدد من المسؤولين في الخارجية الأمريكية: "نعرف بالتأكيد أن الروس يعملون مع نظام بشار الأسد على نقل مقاتلين، ربما من دولة ثالثة، وربما من السوريين إلى ليبيا إضافة إلى العتاد".

من جهته، رأى نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأوروبية، كريستوفر روبنسون في الاجتماع ذاته أن "ليبيا أصبحت المحطة الجديدة لمساعي روسيا الخبيثة التي تتمحور حول مكاسب سياسية واقتصادية ضيقة"، مشدداً على أن بلاده لم تدعم هجوم قوات حفتر على طرابلس لأنها تعتبر أنه أضر بالمهمة الأساسية المتمثلة بمحاربة تنظيمي داعش والقاعدة، منتقداً الأنشطة الروسية في ليبيا، قائلاً إنها "تضعف عملية السلام السياسي بالبلاد، وتعزز من وتيرة الصراعات هناك".

موقف سلبي

عبد الرحمن السراج الباحث المتخصص في الشأن الأمريكي، يرى أن تصريحات جيفري وروبنسون تمثل موقف وزارة الخارجية الأمريكية، كما هي تصريحات جيفري بشأن سوريا، مضيفاً: "موقف الإدارة الأمريكية ما زال سلبياً تجاه الملف الليبي رغم تصريحات مسؤوليها المتكررة بتأييدهم واعترافهم بحكومة الوفاق، وذلك بالنظر إلى ارتباط حفتر بحلفاء آخرين لواشنطن في المنطقة مثل مصر، وتوتر علاقات واشنطن مع تركيا الداعمة لحكومة الوفاق".

موقف الإدارة الأمريكية ما زال سلبياً تجاه الملف الليبي رغم تصريحات مسؤوليها المتكررة بتأييدهم واعترافهم بحكومة الوفاق.

عبد الرحمن السراج، باحث متخصص في الشأن الأمريكي

ومنذ مقتل السفير الأمريكي في بنغازي كريستوفر ستيفينز في هجوم من قبل مسلحين في سبتمبر/أيلول 2012 سحبت الولايات المتحدة قواتها التي شاركت ضمن عملية لحلف شمال الأطلسي الناتو في الإطاحة بنظام الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، واتجهت نحو موقف أكثر سلبية يقوم على تحجيم دورها المباشر في ليبيا والاقتصار لاحقاً بعد ظهور تنظيم داعش على ضربات بطائرات مسيرة تستهدف مقاتلي التنظيم.

ويرى "السراج" في حديث مع TRT عربي أن الموقف الأمريكي من الملف الليبي هو "موقف سلبي" بشكل عام، بسبب اعتماد مكافحة الإرهاب عسكرياً كأولوية أو سياسة وحيدة في هذا الملف. ويضيف: "هذه السياسة أثبتت فشلها في العراق قبل عقد من الآن، وهي تعكس إلى حد ما نزول ترتيب المنطقة في سلم أولويات واشنطن منذ فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما".

خيارات صعبة

لكن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر كشف في أواخر يناير/كانون الثاني عن استراتيجية جديدة قد تنتهجها بلاده في ليبيا، حينما أكد أنها لن تسحب كامل قواتها من إفريقيا، وأن المراجعة جارية لوضع استراتيجيةٍ جديدة تجعل "مواجهة روسيا والصين هي الأولوية".

وعلى خلفية هذا الإعلان، عبر وزير الداخلية في حكومة الوفاق الليبية فتحي بشاغة في فبراير/شباط الماضي عن استعداد بلاده لاستضافة قاعدة عسكرية أمريكية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والتصدي للنفوذ الروسي في إفريقيا.

لكن الحسابات الأمريكية في ليبيا ومنطقة شمال أفريقيا قد لا تقتصر على التموضع العسكري ومواجهة النفوذ الروسي، فالملف الليبي لم يكن حتى الأمس القريب بين أولويات الولايات المتحدة، ومع تصاعد التوتر في هذا الملف ورسم سياسات الطاقة المرتبطة بشرق المتوسط بدأت الولايات المتحدة تراجع هذه السياسات، كما يرى الأكاديمي الخبير في العلاقات الدولية والشأن التركي سمير صالحة.

"صالحة" يقول في حديث مع TRT عربي إن الولايات المتحدة عانت كثيراً في التعامل مع ملف الأزمة الليبية "بسبب تباعد سياسات ومواقف شركائها وحلفائها في في ليبيا وشمال إفريقيا". وأضاف أن هذا التضارب في المصالح ترك الولايات المتحدة أمام "خيارات صعبة جداً" وحتى الآن لم تحسم موقفها في هذا الملف.

ويتجلى الموقف الصعب لواشنطن في ليبيا، يقول الخبير التركي، في محاولتها الضغط على حفتر بشكل أو بآخر لإرضاء أنقرة، لكنها لم تتخل عنه تماماً، لأنها لم ترد إغضاب الداعمين الإقليميين لحفتر خصوصاً أنها دول تنسق مع الولايات المتحدة في ملفات إقليمية أخرى.

الولايات المتحدة عانت كثيراً في التعامل مع ملف الأزمة الليبية بسبب تباعد سياسات ومواقف شركائها وحلفائها في في ليبيا وشمال إفريقيا.

سمير صالحة، أكاديمي وخبير في العلاقات الدولية والشأن التركي

تقارب حذر

وفي ظل حقيقة أن الولايات المتحدة لا تخفي انزعاجها من التمدد الروسي في ليبيا عبر دعم حفتر، ووضع استراتيجية في شمال إفريقيا تتضمن اعتبار مواجهة النفوذ الروسي والصيني في المنطقة أولوية، فإن المزيد من التقارب في الموقف مع تركيا من المفترض أن يظهر إلى الواجهة وينعكس على المشهد، لكن هذا التقارب قد لا يهدف إلى الاصطفاف الواضح مع تركيا بقدر ما يهدف إلى منع حصول تنسيق بينها وبين روسيا.

يقول "صالحة" إنه "كلما صعّدت روسيا في التقرب من حلفاء وشركاء الولايات المتحدة صعّدت الأخيرة باتجاه تليين مواقفها أكثر فأكثر حيال تركيا ومراعاة عدم إغضابها، فهي لا تريد أن ترى تركيا تقترب أكثر من روسيا في الملف الليبي وفي شمال إفريقيا".

ويضيف: "ليس من مصلحة الولايات المتحدة إطلاقاً أن يكون هناك تنسيق روسي تركي على غرار ما حدث في سوريا لأنها تعرف أنه سينعكس على مصالحها ومصالح حلفائها، هذا التقارب التركي الروسي في التعامل مع الملف الليبي هو الذي ترصده واشنطن عن قرب".

وأدت جهود تركية روسية مشتركة قبيل مؤتمر برلين حول ليبيا في يناير/ كانون الثاني الماضي إلى جمع السراج وحفتر في موسكو والإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار، وهو ما تنصل منه زعيم الحرب الليبي لاحقاً.

ويرى "صالحة" الخبير في العلاقات الدولية أن واشنطن ستعتمد في المرحلة المقبلة في ليبيا "سياسة أكثر عملية وأكثر انكشافاً وأكثر سرعة باتجاه عرقلة أي مشروع تمدد روسي في المنطقة، وعرقلة أي تفاهمات تركية روسية أوسع في الملف الليبي".

وختم المحلل التركي حديثه بالقول: "اذا واصلت واشنطن ترددها وتأخرها في التعامل مع ما تراه أنقرة في ليبيا فهي تعرف تماماً أن تركيا ستنفتح أكثر على روسيا وستنسق معها في هذا الملف، ولذلك الكرة الآن في ملعب الإدارة الأمريكية".

TRT عربي