تابعنا
بعد التقارير التي نشرتها محكمة الحسابات الموريتانية، اشتعل جدلٌ كبير بخصوصها، وحولَ ما إذا كانت إشارةً إلى بدايةٍ عهد يتّسم بالشفافية، أم مجرد استهداف سياسي على خلفية الخلاف بين الرئيسين الحالي والسابق.

نواكشوط ـــ أزمة أخلاقية، يقول مواطن موريتاني بعد نشر تقارير محكمة الحسابات، إننا أمام تماسيح المال العمومي يقول مواطن موريتاني آخر، وصدمة لمن له ضمير.

محكمة الحسابات الموريتانية (هيئة عليا للرقابة على الأموال العمومية حسب الشروط المحددة في الدستور الموريتاني لعملها ومهامها)، نشرت أربعة تقارير حول تسيير المال العمومي من 2007 إلى 2017، وبيّنت تقاريرها فساداً في التسيير والاختلاس والتحايل على عشرات ملايين الدولارات الأمريكية، وقد أثارت هذه التقارير جدلاً واسعاً وسخطاً شعبياً كبيراً على المسؤولين الذين بينت التقارير فسادهم واحتيالهم.

وفي ظل الظرفية السياسية التي يعيشها البلد تحت الخط العريض "الخلاف بين الرئيسين الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني والسابق محمد ولد عبد العزيز"، اعتبرها البعض استهدافاً سياسياً لصورة العشرية الفارطة التي كانت في نظرهم عشرية التأسيس وإعادة التأسيس.

فساد واحتيال

أظهرت تقارير محكمة الحسابات التي رصدت عشر سنوات من 2007 إلى 2017 مستوى من النهب والاحتيال والسرقة فاق التوقعات، شمل إدارات ووكالات وبلديات ومؤسسات وشركات حكومية، كما أظهرت التقارير فساداً وتسيباً وإهمالاً وتبديداً للمال العام بمستوى غير متوقع.

تقول التقارير إن في إدارة المحروقات على سبيل المثال اختفت 30 مليون دولار من 2007 إلى 2009، وفي الإدارة نفسها تظهر التقارير تعويضاً لعدة شهور لصالح مدرّس لغة إنكليزية بمعدل 2300 دولار يومياً، نعم يومياً!، يرفع أحد المطالعين للتقرير رأسه ساخراً من هول الفساد قائلاً لا بد أن هذه يومية ملاح مركبة فضائية.

وفي التقارير نفسها يظهر عمدة بلدية لديه ثلاثون سكرتيرة مرة واحدة، وتظهر التقارير أيضاً ضياع 46 مليار أوقية من مركز الاستطباب الوطني، كما تظهر اختلاس 7 مليارات أوقية من ميناء نواكشوط، وليس هذا إلا قليلاً من كثير أوردته التقارير.

وعلى الرغم من حجم الفساد، لم تتخذ أي إجراءات تجاه من أوردت التقارير فسادهم واحتيالهم حتى الآن، وهو ما يثير أكثر من سؤال.

شفافية أو استهداف؟

نشر التقارير في المرحلة الحالية التي يجري فيها الحديث عن خلاف بين الرئيسين الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني والسابق محمد ولد عبد العزيز فسره البعض استهدافاً سياسياً للأخير، بينما اعتبره آخرون إجراء قانونياً كان معطلاً في المرحلة السابقة.

يقول النائب البرلماني محمد الأمين سيدي مولود لـTRT عربي إن نشر تقارير المحكمة تنفيذ للإلزام القانوني الصريح، وهو إلزام كان معطلاً خلال السنوات الماضية بتدخُّل من رأس السلطة وكبار معاونيه، وقد حرَم هذا التعطيل المحكمة من فرص كثيرة تمويلية وتكوينية.

ويضيف سيدي مولود: "الآن هذا الإجراء خطوة معنوية مفيدة، لكنه إذا لم يُشفع بخطوات فعلية وردعية فسيبقى مجرد تمييع واستعراض، وأول هذه الإجراءات هو استرداد الأموال وعزل المفسدين، ثم بعد ذلك العمل على أن يكون التقرير والتحقيقات شاملة وليست متجزئة أو موجهة بشكل انتقائي".

وبشأن الجدل حول طبيعة نشر تقارير محكمة الحسابات لتقاريرها في الفترة الحالية، يقول الدكتور بشير شيخنا محمدي (كاتب موريتاني وأستاذ جامعي بفرنسا) لـTRT عربي، بأن نشر تقارير محكمة الحسابات ليس استهدافاً لأي أحد، وإنما هو قيام بواجب قانوني، ومكسب وطني كبير لبلادنا على مسار الرقابة المؤسسية والدور المنوط فيها بالهيئات الدستورية، لكن رمزياً، يضيف الدكتور، فإن توقيت نشر التقرير أو تزامنه مع مطلع المأمورية الجديدة يحمل رسالةً إداريةً وتعبيراً قوياً عن إرادة إصلاحية لدى فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، ويأتي انسجاماً مع معايير الشفافية المتعلقة بتلك الهيئة الدستورية، وتحديداً أحكام المادة 67 من القانون النظامي رقم 2018-032.

ويضيف الدكتور بشير: "أعتقد أن الإجراء هو من ناحيةٍ مكسب رقابي مؤسسي لبلادنا، ومن ناحية أخرى إجراء قانوني ضمن التزامات بلادنا في إطار ترسيخ الشفافية المالية وليس في ذاته استهدافاً للعشرية، ولا ينبغي التعسف في تحميل تلك الإجراءات والمساطر القانونية بحمولات خارجة عن كينونتها الوظيفية، أما مُحتملات الاستغلال السياسي للتقارير من طرف البعض، فأمر مشروع وطبيعي في كل البلدان وكل الدول التي تعتمد هذا الأسلوب الرقابي".

تحقيق في الصفقات العمومية

22 نائباً برلمانياً تقدموا بتوصية لدى إدارة التشريع بالبرلمان الموريتاني يطالبون فيها بالتحقيق في 7 صفقات عقدها النظام الموريتاني السابق في فترات مختلفة من عشرية حكمه، وطالبت التوصية بالتحقيق في صندوق العائدات النفطية، وعقارات الدولة التي بيعت في نواكشوط، ونشاطات شركة "بولي هوندونغ" الصينية العاملة في مجال الصيد البحري، وتسيير الهيئة الخيرية للشركة الموريتانية للصناعة والمناجم "أسنيم"، وصفقة الإنارة العامة بالطاقة الشمسية، وصفقة تشغيل رصيف الحاويات بميناء الصداقة المستقل، وتصفية الشركة الوطنية للإيراد والتصدير "سونمكس".

يحتاج تفعيل التوصية والبدء في التحقيق بهذه الصفقات إلى مسار قانوني يمر بعدة مراحل، كما يحتاج رفضها إلى مراحل مماثلة، لكن السؤال الأهم حولها، هل ستتأثر بتغير الخلاف بين الرئيسين الحالي والسابق؟، لا شك أن للسياسة في موريتانيا تأثيراً مباشراً حتى على تسيير المال العمومي، أو على الأقل هذا ما أثبته تاريخ البلاد.

TRT عربي