رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون
تابعنا

اجتماع لحكومة محافظين في ساندرلاند وقبل ساعات من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لم تكن ثمة ضرورة لعناء تنقُّل رفاق بوريس جونسون من مكاتبهم في شارع وايت هول إلى أحد معاقل حزب العمّال في شمال إنجلترا، كأنهم حكومة حرب. الخطوة لا تخلو من رمزية، ودافِع الضرائب هناك يحبّ أن يُحترم رأيه.

تردّد اسم ساندرلاند في فورة استفتاء بريكست كحالة قصوى تعكس تحولاً عاماً. بلدة نقضت في ليلة واحدة ما غزلته في57 عاماً حين صوّت سكانها بكثافة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهم الذين يعتمدون في معاشهم على التجارة مع أوروبا، في نزوع جماعي يستعصي على الفهم بمعايير الرّبح والخسارة.

اختيار بوريس جونسون لهذا المكان، الرمز، يُفسّره أيضاً وعدٌ قطَعه لسكّان شمال إنجلترا حين صوّتوا بكثرة لصالح حزبه في الانتخابات الأخيرة وأدخلوا المحافظين إلى مواقع لم تطأها أقدامهم من قبل.

حينها وعدهم أن "يكافئهم" بسخاء ويعيد إلى مصانع الشمال التي يعلوها الصدأ وهجها السابق. وانعكس ذلك على موازنته التي تحلّل فيها من كثير من قواعد حكومات المحافظين بشكل يتيح لهإنفاق أكثر من مائة مليار دولار، أي ما يقرب من 4% من الناتج المحلي الخام، في مشاريع تحديث البنية التحتية على مدى السنوات الخمس القادمة (ذي إيكونوميست، 18 ديسمبر).

المحافظون عادةً لا يحملون نوستالجيا الشمال المزدهر، مهد الثورة الصناعية. ومن غرائب تقلبات السياسة أن يتقاسم جونسون هذا الحلم مع النقابات العمالية، لدرجة اتهامه بسرقة "مانيفستو" حزب العمّال.

ولكن ليس لـ جونسون ما يخجل منه وهو الذي لم يبد التزاماً قطّ بأية عقيدة سياسية ولا وفاء لأي حليف. وبوسعنا أن نلاحظ دون عناء تغيراً في الخطاب واقتباساً من خارج مرجعيات "التوريز" عند الحديث عنالحدّ من مركزية المصالح الحكومية ونقل ما أمكن نقله منها إلى خارج لندن، وتعديل قيود التمويل لمصلحة مناطق الهامش، وتحديث البنيات التحتية وزيادة الدعم للصناعات الاستراتيجية المتداعية.

وقد تنبّه لاري إليوت، رئيس تحرير "الغارديان" للشؤون الاقتصادية، إلى مؤشرات لا تخطئ على تغير المزاج العام وانحراف مركز الوسط في السياسة البريطانية إلى اليسار قليلاً. منها تقبل الجميع لتأمين شركة "نورث ريل" للقطارات من قبل الحكومة كحل منطقي لمتاعب قطاع النقل التي تفاقمت تحت إدارة القطاع الخاص، والنفور العام من سياسات التقشّف حتى في وسط المحافظين، والدعوات من مختلف ألوان الطيف السياسي لمزيد من الإنفاق على نظام الصحة العامّ والخدمات الاجتماعية.

ثمّة قناعة عامة بأن أزمة الرهون العقارية والاختلالات المالية التي أعقبتها أضحت ذكرى بعيدة ولم تعد تبرّر تدني مستوى الأجور الحقيقي (باعتبار التضخم) واعتماد نسب متزايدة من الأسر على "بنوك الطعام" لإطعام أطفالها، واتساع الفوارق بين الفئات إلى حدود لم يعد التغاضي عنها ممكناً؛ والأغرب من ذلك تخلّي حكومة المحافظين عن مبدأ توازن المدفوعات وتقليص عجز الموازنة الذي كان سبباً في هذه الكلفة الاجتماعية الباهظة، دُونَ أن يشيع ما كانت تراهن عليه من أجواء الثقة لدى رجال الأعمال ويطلق موجة من الاستثمار. يرى إليوت ومعه آخرون من نقاد العولمة، أن تعاليم الاقتصاد الليبرالي المحض أضاعت على البريطانيين عقداً كاملاً.

علىهذه الخلفية يحاول جونسون أن ينتقي ألواناً من خارج طيف المحافظين ليرسم حدود اللعبة السياسية من جديد ويعدّل بالمرّة ملامح حزبه، وهذا ورش سياسي ضخم قد يفوق قدرات فريقه والبُعد الزمني لولايته. لا يتطابق هذا الطموح مع صورة الفتى الأبلهالأشعث التي أشاعها رسّامو الكاريكاتير، بل هو على الأرجح لسان حال جيل من المحافظين لم يعِش ليلَ الرّكود الطويل وإضرابات المناجم ويشدّه الحنين إلى رخاء الإمبراطورية لا إلى واقعية ثاتشر الصّارمة.

لإدراك مدى واقعية المشروع من عدمها يكفي استحضار محاولاتِ سابقيه. فمتاعبالشمال ليست وليدة أمس، وانهيار اقتصاده بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر مع بداية هجرة النشاط الصناعي الرأسمالي من أوروبا إلى حواضر أقلّ كلفةً في المستعمرات.

وتفاقمت في ثمانينيات القرن الماضي إبّان حكم مارغريت ثاتشر التي فرضت تغييرات جوهرية سخرّت بموجبها كل مقدرات بريطانيا لدعم موقع لندن كمنصّة مالية عالمية، وقطب يستأثر بنصيب وافر من صناعة الخدمات وتنتهي إليه "مدّخرات" أثرياء العالم، وأقدمت على بيع ممتلكات القطاع العام إلى المستثمرين الخواص ونفذت قرارات ما زال سكّان الأحزمة الصناعية المتداعية في شمال إنجلترا وميدلاندز وويلز يُكنّون من قسوتها عليهم، واستخفافها بمصيرهم ضغينة أسرّوها في أنفسهم حتى ظهرت جلية في نتائج استفتاء بريكست.

ليست هذه المرة الأولى التي يسمع فيها الشماليون هذه النغمة، فقد سبق أن وقف ديفيد كامرون على أطلال المدن الصناعية ووعدهم بتحويل منطقتهم إلى قاطرة للرخاء وقِبلة للاستثمار كما كانت، ثم ألقت تيريزا ماي بالفكرة من ضمن ما ألقت به من مسوداته في آلة فرْمِ الأوراق. وبعد استفتاء بريكست والزلزال الذي أحدثه في السياسة البريطانية عام 2019 كثُرَ الحديثُ عن أنّ النظر في أحوال المهمّشين ضرورةٌ ملحّة وأنه أثناء انشغال الحكومات في مناوشات ويستمنستر نشأ جيلٌ من الناخبين الناقمين ورأي عام لا أحد يدري كيف تشكّل.

بريكست شقّ الرأي العام البريطاني إلى نصفين، وأحدث صدعاً اخترق خطوط الأحزاب والاصطفافات العريقة وأطلق طاقةً جديدة يريد جونسون أن يسخّرها ليُخَلخِل مبدأ راسخاً لدى المحافظين منذ حكم ثاتشر: حدود تدخّل الدولة في توجيه الاقتصاد ودعم الفئات الأقلّ دخلاً. في هذه النافذة الزمنية الفريدة رهنت جماهير الشمال العمالية أصواتها "وديعة" لدى المحافظين وقد تسترجعها في أقرب فرصة، بحسب تعبير الفايننشال تايمز، فماذا هم فاعلون بها؟

جونسون ورفاقه يعتقدون أن بمقدورهم إصلاح أعطاب الاقتصاد الليبرالي كما يضغط المرء على زرّ إعادة التشغيل حين "يُفرّز" الكمبيوتر. آخرون ومنهم مايكل غوف، أحد رموز حكومة جونسون، يرَون على النقيض من ذلك، بأنّ بريكست يمنحهم فرصةً ذهبيةً للتوغّل أكثر على خطى ثاتشر بالضرب صفحاً عن كل قوانين الاتحاد الأوروبي التي تحمي حقوق العمّال والبيئة، وهدم كل جدران التعريفات الجمركية والضريبية، وإشراع باب المنافسة على مصراعيه. فكرةٌ بلغت مداها مع وزير المالية في حكومة تيريزا ماي فيليب هاموند الذي لوّح بها في وجه الموقف الأوروبي المتصلّب أثناء مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي.

وحذّرت الصحافة الفرنسية حينها من خطر تحوّل بريطانيا إلى باخرة حاوياتٍ ضخمة محمّلة بالبضائع الرخيصة على أبواب أوروبا. وهو ما سخر منه الخبير الاقتصادي هاورد ديفيس، مدير البنك الملكي الأسكتلندي، بقوله إنّ مشروع "سنغافورة على نهر التايمز" لن يرى النور أبداً.

رؤيتان على طرفَي نقيض قد لا تكفي براغماتية جونسون وأسلوبه المطّاطي للتوفيق بينهما، وهو الذيوصفه اللورد مايكل هيزلتاين، القيادي المخضرم في حزب المحافظين بـ "أكثر السّياسيين مرونةً في هذا العصر"، وفي ذلك تعريضٌ يدركه اللبيب.

TRT عربي