مجموعة من الفتيات يصرخن في مظاهرة لدعم حقوق المرأة  (Getty Images)
تابعنا

اللغة والبيان شقّ أصيل في علم الاجتماع، وهو سابق عليه، ولا يمكن التعاطي مع الظواهر الاجتماعية بمعزل عن اللغة، فهي متشابكة معها في مرحلتين على أقل تقدير.

المرحلة الأولى تبدأ ببناء الوعي بالظاهرة عبر توصيفها وانتقاء المفردات الدلالية التي تعبّر عنها، وهو سلوك غير موضوعي بالضرورة، بمعنى أنه خاضع للتوجيه، ونجد أشباهه كثيراً في الإعلام، على سبيل المثال: تتراجع قيمة صرف العملة المحلية أمام الدولار لأسباب اقتصادية وسياسية، ثم تتدخل الحكومة ببعض سياسات الإنقاذ التي تخلق تحسّناً ما، فيُعَنوَن الإعلام المُوالي بالقول: "تراجع الدولار أمام عملتنا الوطنية"، والإعلام المُضاد بالقول: "تواصل انهيار العملة الوطنية"، والإعلام الذي يدّعي الحيادية: "محاولات تعافي للعملة أمام الدولار".

وفي الأمثلة السابقة تظهر أهمية البيان المقالي المتعلق بالمعاني المُعجمية للمفردات ووقعها الذهني والاجتماعي لدى المتلقي.

أما الاشتباك الثاني بين اللغة والظاهرة فهو شق مقامي تبرز فيه حجّة كل طرف، وتبدأ بالوعي بظروف أداء المقال، وما يتصل بذلك من القرائن الحالية الملموسة مثل وقائع وعلاقات وأحداث وظروف اجتماعية تسود لحظةالنقاش.

ويجتهد كل فاعل اجتماعي على تشكيل وعي بالقرائن يخدم حجّته. ويرى الخبير بعلم الكلام تمام حسان أن تجاهل هذه الظروف أو تزييفها أو تلبيسها على الناس لا يُعطي إلا المعنى الحرفي كما يقول النقاد، أو ظاهر النص كما يقول الأصوليون، وهو سلوك فارغ من محتواه الاجتماعي والتاريخي، منعزل عن محيطه.

وسأذكر هنا مثالاً فجّاً لتوضيح المعنى، فقد رفع الخوارج شعاراً سليماً مقالياً وفاضلاً دينياً هو "لا حكم إلا لله" في معرض رفعهم السلاحَ في وجه الصحابة وجموع المسلمين، لكنها كانت كلمة حق قيلت في غير مقامها، أو كلمة حق أريد بها باطل، كما علّق عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لجأ إليها الخوارج في محاولة الإيهام بالتفوق الديني والأخلاقي أمام أزمة لا تمتّ بصلة إلى سؤال الحاكمية.

ما يحصل اليوم من انحراف غير واعٍ عن جوهر نقاش التحرش والاغتصاب في المجتمع العربي شبيه إلى حد ما بالنقاش المعروض هنا.

دعونا نعُد بالأمور إلى نصابها الأول: خلال أقل من شهر وجدنا أنفسنا أمام ثلاث جرائم غطاها الإعلام: جريمة تحرش واغتصاب متسلسل (في مصر)، جريمة اغتصاب متكررة ضد طفل لاجئ (في لبنان)، جريمة اغتصاب متكررة مارسها أب على ابنته القاصر (في فلسطين).

وإزاء هذا التزامن المثير للأسف، تنحرف النقاشات عن جوهرها نحو مسألة غير مركزية في الجرائم سابقة الذكر هي الجدل على لباس المرأة و كونه سبباً من أسباب التحرش والاغتصاب.

وإن كانت مقولات الحجاب والستر والحشمة الجسدية والسلوكية دعوات سليمة مقالياً وفاضلة دينياً وأخلاقياً، فإن الانجرار إلى فخ استدعائها التلقائي إزاء جرائم الاغتصاب يحوّلها إلى كلمة حق يُراد بها باطل، والباطل هنا: ليس فقط التخفيف من شناعة الجرم في حد ذاته، الذي لا يطال النساء فقط بل يشمل الذكور والقاصرين والأطفال، بل يقود هذا الاستدعاء إلى تعزيز الشعور بالذنب أو العار نحو الجسد body shaming لدى ضحايا التحرش والاغتصاب، وهو أقسى الآثار النفسية التي يكابدونها بعد الجريمة.

هذا إلى جانب تضخيم مشاعر العار لدى الأطفال والنساء المهددين، بحيث تقف حاجزاً نفسياً يحول دون لجوئهم إلى أحد من العائلة أو الكبار، ودون رفع صوتهم محتجّين عند تعرضهم للتحرش مسكونين بهاجس أنهم لا بد قد فعلوا شيئاً خاطئاً استدعى انتهاك حرمة أجسادهم.

فالطفل غير الواعي سينسب الخطأ إلى نفسه، وغير المحجبة ستشعر بالعار لأنها لم تغطِّ شعرها، والمحجبة لأنها لم تغطِّ وجهها، والمنتقبة بالعار لأنها خرجت واختلطت بالناس، وهكذا دواليك.

يقدم الجدل حول ثنائية التحرش وحجاب المرأة صك براءة على طبق من ذهب للدولة والقضاء والسلطات التشريعية والعشائر والأسرة، فيُخلي مسؤولياتها جميعاً مع أنها تقع في قلب المشكلة، ويصوّر الحلّ كأنه فردي منوط بالضحية.

ولا شك أن تفكك البنى الاجتماعية والدولاتية في العالم العربي وتفاقمه خلال السنوات الأخيرة ضاعف مشكلة العنف الجنسي، فلا حواضن تربوية تصحح التصورات المشوهة للذكورة التي يضخّها الإعلام والشارع، ولا قانون رادع يؤدّب المتجاوزين، ولا ثقة بالدولة تشجع على اللجوء إلى القانون.

في أغلب الحالات يكون الانجرار خلف نقاش لباس المرأة محكوماً بالرد على دعوات الانحلال من الضوابط الاخلاقية التي قد تنشط على هامش نقاش التحرش وتستفزّ الردّ، لكن التمادي في الأخذ والردّ يصبّ في صالح مثل هذه الدعوات، لأنها تجعل وَسْم من يدعو إلى الحشمة بأنه يبرر للمتحرشين والمغتصبين جرائمهم، مسألة يسيرة للغاية.

اللافت للنظر أن السردية التي تركّز على لباس المرأة كسبب للتحرش لديها أزمة بشأن تصوراتها للتيار النسوي العربي بكونه "يتمركز حول الأنثى" في فضائه الاجتماعي، فيما يبدو تقريع ضحايا التحرش والاغتصاب بحجة عدم الحشمة تمركزاً فاحشاً حول الذات الذكورية التي ترى في المتحرش شخصاً غير ذاتي الشر؛ لا ينبع الشر من ذاته بل هو انعكاس لخطيئة أصيلة مغروسة في المرأة التي تغريه وتحرّك غرائزه الطبيعية، وهذا تصوُّر وثني تسرّب إلى الأديان وانعكس صوراً لا واعية في المجتمعات (تقول الأسطورة إنه حتى آدم عندما أخطأ لم تكن الخطيئة أصيلة في ذاته بل انعكاساً لغواية حواء)، لكن الإسلام نبذ كل ذلك.

التمركز ذاته حول الذكر وحماية امتيازاته الاجتماعية يبرز أيضاً في التصدي السلبي لأي تعديلات قانونية أو اتفاقيات دولية لصيانة حقوق المرأة، إذ يُبنَى الرفض على إنكار وجود مشكلات وردّ أي حلول غربية لا تحتاج إليها المجتمعات المسلمة.

وفي الوقت نفسه ينحرف النقاش القانوني نحو التأكيدات الاجتماعية والدينية للحجاب وحماية الأسرة ومحاربة العلاقات خارج نطاق الزواج، وهي دعوات سليمة مقالياً، لكنها في غير موضعها، إذ إنه ليس كل دعوة صالحة هي محقة في كل وقت، ويوجد متسع دائم للحشد لهذه القضايا يكفي مؤونة استدعائها في مواضع المظلومية، فالنقاش المأمول هو التداعي لتشخيص المشكلات المركبة التي تعاني منها المرأة من تحرش وجرائم شرف وعنف أسري ومنع من التعليم والميراث وغيرها، والدفع باتجاه سنّ قوانين محلية تردع هذه المشكلات يشارك المجتمع في صياغتها عوضاً عن استيرادها، لكنّ أياً من هذا لا يُطرح في غالب الأحيان.

وفي كل مرة تقع فيها المرأة ضحية للعنف الجنسي أو الجسدي، ويقوم المجتمع المسلم/المحافظ بحرف النقاش عن جوهرانية مظلوميتها، نحو تقريعها أو تحميلها عقدة الذنب أو فرض مزيد من القيود الاجتماعية عليها، فإن الصور الذهنية اللا واعية تتشكل في أذهان جيل جديد من النساء حول وقوف الدين (الاسلام) والثقافة (المشرق) في خانة الضدّ من حقوقهن، ولعلّ ما يضاعف أثر هذه التصورات حالة السيولة الدينية والأخلاقية التي أفرزتها إحباطات ما بعد الربيع العربي، وارتطام جيل من الشبان والشابات بجبل من أسئلة الشك والتشكيك بكل ما هو موروث، وتأخر الخطاب الديني عن مواءمة التعاطي مع الأسئلة، وتراجع مناخ الحريات الذي كان يتيح الحركة والتجمع وتبادل الأفكار وتوفير المحاضن الاجتماعية الآمنة.

يكبر اليوم جيل جديد من النساء يفتقر إلى دوائر الأمان الدولاتية أو الاجتماعية أو الأسرية أو الدينية، يصفعه سيل التقريع والتحقير والاستخفاف بمعاناته وتجييرها إلى معارك لكسب النقاط وكسر الأعداء، يهيم باحثاً عمن يحاكي عوزه للأمان، وتوقه إلى الحرية، وجموحه نحو التمرد وإثبات الذات، فيجد ذلك لدى عناوين ومؤسسات ورموز دخيلة، تنتهز الفرص، وتخدم أجندات لا تناسب خصوصية مجتمعاتنا ولا ثقافتها، ويتحول المطلب البسيط بالأمان والحرية إلى صراع مع الذات وتمرد غير منضبط عليها.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي