تابعنا
مع حلول الذكرى التاسعة للثورة التونسية في 14 يناير 2011 يترقب التونسيون اسم شخصية رئيس الحكومة المكلف الذي يتعين على الرئيس قيس سعيد اختياره وفقاً للفصل 89 من الدستور بعد أن أسقط البرلمان حكومة الحبيب الجملي.

لقد عاين الشعب التونسي في ليلة العاشر من كانون ثاني/يناير 2020 سقوط حكومة رئيس الوزراء المكلف حبيب الجملي بواقع 134 صوتاً رافضاً لها، في حين أيدها71 صوتاً وتحفظ ثلاثة آخرون.

كان اختيار شخص رئيس الحكومة محل جدل كبير داخل مجلس شورى النهضة الذي انعقد لمدة يومين ليخرج في آخر المطاف بتأجيل النظر في اختيار رئيس الحكومة بعد أن تتم الجلسة الأولى للبرلمان والتي يُنتخب فيها رئيسه، الأمر الذي أثار حفيظة بقية الأحزاب التي اعتبرت بأن النهضة تريد التغول على السلطة بالسعي لحصد الرئاستين (رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة) فيما اعتبر بعض رؤساء الأحزاب المعنيين بالتفاوض مع الحزب الفائز أن الاتفاق على التحالفات يجب أن يكون قبل انتخاب رئيس للبرلمان لا بعده. لتكون المفاجأة آنذاك بفوز راشد الغنوشي برئاسة البرلمان حاصداً أصوات النهضة وحليفها ائتلاف الكرامة مع أصوات من كتلة حزب قلب تونس الذي يتزعمه نبيل القروي وهو الحزب الذي وعد الغنوشي في حملته الانتخابية بألا يتحالف معه أبداً معتبراً أن عديد شبهات الفساد تحوم حوله.

التصويت على منصبي رئيس البرلمان الذي فاز به زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ونائب الرئيس الذي فازت به سميرة الشواشي من حزب قلب تونس كان منعرجاً حقيقياً في مسار المفاوضات منذ بدايته حيث اعتبرت النهضة أن التصويت لا يعبر عن تحالف مع حزب القروي إنما هو مجرد اتفاق.

فيما اعتبرت بقية الأحزاب المحسوبة على الخط الثوري على غرار التيار الديمقراطي وحركة الشعب أن الغنوشي أراد بشتى الطرق ضمان منصبه في رئاسة البرلمان قبل أن يقسم الكعكة على حد تعبيرها. وهو ما اعتبروه مساراً مرفوضاً مطالبين بأن تكون شخصية رئيس الحكومة مستقلة عن النهضة لضمان التفاوض معها من جديد. الأمر الذي لم تتأخر عنه النهضة باختيارها للحبيب الجملي رئيساً مكلفاً للحكومة بعد جلسة لمجلس الشورى طرحت خلالها عديد الأسماء الأخرى.

إلا أن المفارقة العجيبة هو أن المجلس ذاته انعقد بعد شهرين من تكليف الجملي للنظر في إمكانية سحب الثقة منه، وإن كانت حكومته تستحق التصويت لصالحها أم لا. هذا الاجتماع أتى بعد حديث عن خلافات بين الجملي والغنوشي في خصوص الحكومة المعلنة. وهو ما أكده تصريح لزعيم حزب النهضة على موجات راديو موزاييك بقوله "إن الجملي حاد عن المسار الذي أرادته النهضة". وهو تصريح إن دل على شيء فهو يدل على أن النهضة لم تكن جادة ليلة العاشر من يناير في الحشد لدعم حكومة الجملي ربما لأسباب عدة أبرزها أن الجملي غير منسجم مع سياسات الغنوشي.

وهو ما عبر عنه الكاتب والمحلل سليم الحكيمي في حديثه مع TRT عربي معتبراً أن "عدم اقتناع الغنوشي بما اقترحه الجملي من شخصيات حال دون دعم النهضة له بالشكل اللازم. فضلاً عن تعمق الخلاف معه لأنه اتجه إلى تكوين حكومة غير متحزبة. وهو ما أثار ضده حفيظة السياسيين النهضويين الذين تحفّزوا للوزارات وتهيأوا لها ثم وجدوا أنفسهم خارج القائمة".

كما أضاف الحكيمي أن "عدم مرور حكومة الجملي كان منتظراً نظراً لواقع التشظي البرلماني الذي فرضه القانون الانتخابي، وضعف كاريزما الشخصيات وضعف الأحزاب، وترهل نتائج الاقتصاد ونكث العهود الانتخابية لمن سبق لهم الحكم".

من المسؤول عن سقوط حكومة الجملي؟

مع انطلاق مشاورات تشكيل الحكومة سعت حركة النهضة إلى تقريب وجهات النظر بين ما تسمى أحزاب الخط الثوري (التيار الديمقراطي وحركة الشعب القومية وائتلاف الكرامة) إلا أن بعض هذه الأحزاب رفعت سقف مطالبها بسبب أزمة الثقة الحاصلة مع النهضة عقب تولي راشد الغنوشي رئاسة البرلمان. فيما يرجع بعض قيادات هذه الأحزاب مثل محمد عبو زعيم حزب التيار الديمقراطي "أسباب الأزمة إلى سياسة النهضة المتقلبة منذ وجودها في الحكم سنة 2011" على حد تعبيره واصفاً إياها "بالسياسة التي تقضي على وجود أي أصدقاء لها".

إلا أن المفارقة هنا هي أن التيار الديمقراطي وحركة الشعب حصلا على ما طلباه من حقائب وزارية وهو ما أكده الجملي في جلسة منح الثقة، لكنهما انسحبا من المفاوضات دون أي حجة تُذكر على حد تعبيره.

وفي هذا الصدد قال الكاتب والمحلل السياسي سليم الحكيمي لـTRT عربي بأن "سقوط الحكومة يعزى وزره إلى حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب. فهما من كانا بإمكانهما الموافقة على الحكومة خاصة بعد إقراراهما بالحصول على ما أرادا من وزارات. خاصة حزب التيار الديمقراطي. إلا أن هذين الحزبين هما من كانا سبباً في غرق مركب الجملي بالقفز منه دون أي مبرر حسب وصفه".

وعقّب الحكيمي في كلامه بأن الجملي "كان ضحية لمسار خاطئ. وأن عدم التصويت للحكومة كان إهانة للرجل وللفريق الذي جمعه من وزراء وكُتّاب دولة. ففيهم شخصيات مرموقة ووطنية رغم وجود شخصيات عليها شبهات فساد".

أما الكاتب والصحفي محمد بوكوم وفي حديثه لـTRT عربي اعتبر أن من "يتحمل مسؤولية سقوط الحكومة هو حزب النهضة الذي ألقى بالجملي في أتون الفوضى، وحمّله مسؤولية لا تتماشى مع إمكانياته. فيما أريد للقرار الحقيقي أن يدار من وراء الستار هروباً من المسؤولية في حين أن البلاد لم تعد تحتمل الألعاب السياسية".

كما أضاف بوكوم أنه "من المهم أن تتحمل النهضة مسؤوليتها بشفافية وأن تتخلى عن بعض النرجسية المتمثلة في شخصية راشد الغنوشي. والذي للأسف يعتقد بأنه الوحيد الذي يملك إمكانيات إدارة اللعبة".

كما قال بوكوم إن "رفض حكومة الجملي كان متوقعاً منذ البداية. فالرجل بدا مشوشاً، ومرتبكاً. فضلاً عن الفسيفساء البرلمانية المليئة بالتناقضات. كما أن الرجل لم يكن خريج معاهد السياسة. وقدم نفسه على أساس شخصية مستقلة تقنية. في حين أنه شغل مناصب مع حكومة النهضة في فترة سابقة. أضف إلى ذلك أن المشكل في تونس ليس تقنياً بل هو سياسي بالأساس. ومن جهة أخرى بدا الفريق الذي جاء به الجملي متواضعاً إضافة إلى برنامج عام وغير واضح ولا يتماشى مع مقتضيات المرحلة.

الدولة والفراغ السياسي الحاصل

مع سقوط حكومة الجملي يُطرح السؤال: من الذي يمثل السلطة اليوم في تونس ومن الذي يمثل المعارضة؟

سؤال ربما حاول زعيم حزب قلب تونس نبيل القروي الإجابة عنه سريعاً فور التصويت على الحكومة بعقد ندوة صحفية رفقة بعض النواب من الأحزاب التي صوتت ضد الحكومة، معلناً تكوين جبهة تضم أكثر من 90 نائباً من أحزاب قلب تونس وتحيا تونس وحركة الشعب والإصلاح الوطني مع نواب مستقلين متعهداً بأن تتعاون هذه الجبهة مع رئيس الجمهورية لتحديد ملامح رئيس الحكومة القادم وأن يكون له حزام سياسي في البرلمان.

تصريحات القروي فُهم منها على الفور أنها قلب المشهد السياسي رأساً على عقب عبر تأسيس هذه الجبهة ما يجعل حركة النهضة في المعارضة، مقابل تحول أحزاب المعارضة إلى السلطة. إلا أن ندوة القروي سرعان ما سقطت في الماء عبر تنصل حركة الشعب من الانضمام لهذه الجبهة وهي ثاني أكبر مكون لها بعد قلب تونس.

وفي هذ السياق اعتبر الكاتب والصحفي زياد المزغني في حديثه لـTRTعربي أن ما سُمّيت بالجبهة البرلمانية الجديدة "ما زالت غير واضحة لا سيما مع ما بدر خلال اليومين الأخيرين من تصريحات متضاربة خاصة حول انضمام حركة الشعب لها".

مضيفاً أنه "لا يمكن اليوم بعد عدم منح الثقة لحكومة الحبيب الجملي، توصيف أي كتلة سياسية بالمعارضة أو الموالاة. فالكتل التي أيّدت الحكومة المقترحة وأساساً حركة النهضة ما زالت تحتفظ بتوصيفها الحزب الفائز في الانتخابات. وهو ما لا يمكن إسقاطه عنها إلا عبر انتخابات أخرى، في المقابل تحاول بقية الأطراف السياسية أن تصنع توافقات وتنسيقاً من أجل القيام بأداء سياسي أفضل".

حكومة الرئيس

بعد فشل تمرير الحكومة تتجه كل الأنظار الآن صوب الرئيس قيس سعيد الذي يخول له الدستور تعيين الشخصية الأقدر لرئاسة الحكومة.

مراقبون يرون أن سعيّد فشل حتى الآن على المستوى الخارجي من خلال عدم تأديته زيارة خارجية رسمية ما عدا زيارته لسلطنة عمان لأداء واجب التعزية في وفاة السلطان قابوس. كما اعتبر العديد من المحللين أن موقفه بالحياد كان سلبيّاً تجاه الأزمة الليبية. فضلاً عن انتقادات كثيرة بخصوص سياسته التواصلية مع الشعب.

الآن يقف الرئيس أمام أول امتحان حقيقي على المستوى الداخلي عبر اختياره الشخصية الأقدر لتولي منصب رئيس الحكومة. فأي حزام سياسي سيختاره سعيّد؟ وهل سيختار شخصية تحظى باحترام الجميع أم شخصية تخدم مصالح كتل دون أخرى؟ أم شخصية غير معروفة بالنسبة للنخبة وللرأي العام؟

الكاتب والصحفي زياد المزغني يرى أن توصيفها بحكومة الرئيس غير سليم وغير دقيق معتبراً أنه "مصطلح مُنح لها من أجل إعطائها قيمة اعتبارية مستمدّة من شعبية الرئيس الكبيرة".

أمّا بالنسبة للسيناريوهات الممكنة، فرأى المزغني أنه أمام الرئيس 10 أيام فقط بعد سقوط حكومة الجملي من أجل عقد توافقات بين مختلف الكتل النيابية لتكليف شخصية وطنية تكون قادرة على إدارة الحكومة. 

كما استبعد المزغني أن تكون الشخصية المقترحة منتمية إلى أحد الأحزاب. ولكن من الطبيعي أن تنال ثقة الكتل من أجل دعمها في البرلمان وأن تنال الحكومة الثقة.

وختم المزغني بالقول "المبادرة الآن عند الرئيس، وهو أمام خيارين؛ إما الالتزام بالخط الذي اختاره لنفسه خلال الانتخابات، من حيث دعم مبادئ الثورة ومحاربة الفساد، أو اختيار طريق الحسابات؛ حيث من الممكن أن يسعى لتأسيس حزام برلماني قوي عددياً ومن خلال ذلك تكون الجبهة البرلمانية الجديدة أكبر على هذا الصعيد".

وصول الرئيس التونسي قيس سعيّد لسلطنة عمان للتعزية بوفاة السلطان قابوس
نبيل القروي زعيم حزب قلب تونس  (AP)
الرئيس التونسي قيس سعيد يصافح رئيس الوزراء المعين حبيب الجملي في تونس العاصمة (Reuters)
رئيس الوزراء التونسي المكلف حبيب جملي (أدناه) يلقي كلمة أمام البرلمانيين خلال جلسة عامة في العاصمة تونس ، في 10 يناير 2020، للحصول على تصويت بالثقة في تشكيلة مجلس الوزراء المقترحة. (AFP)
TRT عربي