الخارجية التركية (AA)
تابعنا

مع صعود حزب العدالة والتنمية التركي إلى السلطة في البلاد عام 2002، دخلت تركيا عهداً جديداً في سياستها الخارجية، ووضعت نصب عينيها أهدافاً كبرى على المستوى الداخلي والخارجي، تليق بمكانة تركيا السياسية والاقتصادية، وهو ما تطلب منها انتهاج سياسة خارجية خلاقة تتناسب وهذه الأهداف.

ولم يكن الطريق معبّداً لتحقيق هذه الأهداف، إذ اعترضت تركيا عوائق نُصبت لها من قبل دول وجهات أخرى، لا تريد لأنقرة أن تتحوّل إلى قوة إقليمية ودولية مؤثرة تتمتع باقتصاد متين ومزدهر، وقدرات عسكرية رادعة.

"صفر مشاكل"

ابتدأت تركيا العهد الجديد بسياسة عرفت باسم "صفر مشاكل"، إذ عمدت إلى سياسة التقارب مع جميع الدول والكيانات التي تربطها بها تاريخياً علاقات متوترة وخلافات عميقة متجذرة، بهدف إطفاء بؤر التوتر، بما يسمح للاقتصاد المحلي بالنمو ومن ثم تحقيق مستويات رخاء وازدهار متقدمة.

وبالفعل مدت تركيا يد التقارب والتصالح مع أرمينيا، التي تتهمها بارتكاب "إبادة" بحق الأرمن في أواخر عهد الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى عام 1915، وقدمت بديلاً عن الاتهامات الباطلة مفهوم "الذاكرة العادلة"، وكذلك قامت ببذل جهود كبيرة لتسهيل عملية توحيد جزيرة قبرص ضمن جهود الأمم المتحدة. والأمر نفسه ينطبق على العلاقات مع اليونان. كما أنها حثت الخطى في تلبية شروط الاتحاد الأوروبي ومطالبه من أجل تفعيل عملية الانضمام إلى هذا التكتل وهو ما أثمر بالفعل إطلاق المفاوضات الرسمية وفتح عدة فصول في هذا الإطار.

تركيا اضطرّت إلى تغيير استراتيجية تصفير المشاكل بسبب التطورات المتسارعة الإقليمية من الناحية السياسية والأمنية والعسكرية والشعبية.

سمير صالحة، خبير في العلاقات الدولية والشأن التركي

وبعدما لبت سياسة "صفر مشاكل" الغرض الذي وضعت من أجله، استجدّت بعض العوامل والظروف في المشهد الإقليمي اعتباراً من أواخر العقد الماضي لتضغط على الدبلوماسية التركية دفعتها إلى التخلي تدريجياً عن هذه السياسة، وذلك بعد ارتكاب إسرائيل مجازر كبيرة خلال حربها على قطاع غزة نهاية 2008 وبداية 2009، ما حدا بتركيا لترفع صوتها تنديداً بهذه المجازر، وانتهجت سياسة أكثر صراحة ونشاطاً في دعم حقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة آلة الحرب والقمع الإسرائيلية. وكذلك الأمر بعد انطلاق موجة الربيع العربي.

الخبير في العلاقات الدولية والشأن التركي، الدكتور سمير صالحة، يرى أن تركيا اضطرّت إلى تغيير استراتيجية تصفير المشاكل بسبب التطورات المتسارعة الإقليمية من الناحية السياسية والأمنية والعسكرية والشعبية.

ولفت صالحة في حديث مع TRT عربي إلى أن "بعض العواصم العربية والغربية مع الأسف دخلت في عملية اصطفاف ضد السياسة التركية، لأنها وجدت أنها تتعارض مع مصالحها وحساباتها وطموحاتها في العديد من دول المنطقة. فالمسألة إذن لا تقتصر على الاعتبارات التركية، بل تشمل مواقف الدول الإقليمية ومدى استعدادها لهذه الاستراتيجية والانفتاح عليها".

ثوابت ونشاط مؤثر

وعلى مدى سنوات، أرسى صانع القرار التركي ثوابت جديدة في السياسة الخارجية للبلاد، تقوم على ثلاثة مبادئ، وهي: أولاً، تفعيل دور تركيا في الكيانات الإقليمية والدولية، ولا سيما في الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وثانياً، اعتماد التوازن في العلاقات بين الشرق والغرب وجميع الدول، وبخاصة خلال إدارة أنقرة للأزمات، بدلاً من التبعية المطلقة للغرب في العهود السابقة. وثالثاً وأخيراً، زيادة الانخراط الإيجابي والفعال في جميع القضايا العادلة والإنسانية في العالم، وبشكل خاص في الشرق الأوسط، وذلك باعتبار هذه المنطقة تشكل عمقاً استراتيجياً لتركيا.

بدأت تركيا تلعب دوراً خارجياً نشطاً مع بداية 2002، بحسب محمود عثمان، المحلل السياسي المتخصص في الشأن التركي.

يقول عثمان في حديث مع TRT عربي، إن "محوراً يتشكل في الشرق الأوسط تحت عنوان صفقة القرن يضم إلى جانب إسرائيل عدة دول إقليمية ويستهدف تركيا بشكل مباشر. وكان لا بد لتركيا من هجوم معاكس لإيجاد بديل عن هذا المحور. فذهبت إلى الاتفاق مع ماليزيا وإندونيسيا وباكستان".

تركيا تتفق مع روسيا جزئياً في سوريا وفي مسار أستانا لكنها لا تتوانى عن دعم المعارضة السورية وتتفق اقتصادياً مع إيران لكن يوجد خلاف كامل في السياسات بين البلدين سواء في العراق أو سوريا أو لبنان.

محمود عثمان، محلل سياسي ومتخصص في الشأن التركي

وفي السنوات الأخيرة اكتُشف مخزون هائل من الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وسعت بعض دول المنطقة وفقاً للمحلل السياسي، مثل اليونان ومصر وإسرائيل وقبرص الرومية إلى تشكيل حلف يطوق تركيا، لكن الأخيرة "استطاعت من خلال عمقها التاريخي ودورها النشط الذي تلعبه في جميع الساحات كسر هذا الطوق. فوقعت مع حكومة الوفاق الوطني الليبية الاتفاق حول الجرف القاري واستطاعت أن تعيد ترتيب الخارطة من جديد".

ويرى عثمان أن تركيا تتفق مع روسيا جزئياً في سوريا وفي مسار أستانا لكنها لا تتوانى عن دعم المعارضة السورية، وتتفق اقتصادياً مع إيران لكن يوجد خلاف كامل في السياسات بين البلدين، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان. ويوجد اختلاف الآن بين تركيا وروسيا في الساحة الليبية، مما يجعل كلاً منهما على طرفي نقيض. لكن على الرغم من ذلك فتوجد عملية دقيقة في سياسة التوازنات التي تتبعها الدبلوماسية التركية، بحيث لا تطغى هذه الخلافات، على الرغم من أنها كبيرة وحقيقية، على العلاقات المستمرة مع موسكو.

ويؤكد أن "الدبلوماسية التركية نجحت في سحب فتيل الأزمة مع واشنطن أكثر من مرة، واستطاعت كسب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تحديداً إلى طرفها في كثير من المواقف، وأحدث الأمثلة على ذلك تصريح ترمب الأخير عن أن تركيا تسعى لوقف المجازر التي ترتكبها روسيا والنظام السوري وإيران في سوريا".

من جهته، يرى الدكتور باسل الحاج جاسم الباحث والمستشار السياسي، أن تركيا اليوم تخوض أكثر من حرب، ولديها عدة جبهات في الوقت نفسه، مؤكداً أن "أنقرة دخلت منذ فترة في عملية تدريجية ومعقدة معاً، وعملت في بدايتها على تغيير موازين القوى من حيث إقامة توازن بين اللاعبين العملاقين روسيا وأمريكا، ونجحت حتى الآن في ذلك إلى حد كبير في جبهة سوريا. كما أنها بدأت في خلق بدائل تحسّباً لأي طارئ، عندما اتجهت إلى اختيار نظام الدفاع الروسيS-400، بعد أن رأت خذلاناً من حلفائها في الناتو في هذا السياق".

ولفت الحاج جاسم في حديث مع TRT عربي، إلى أن "أنقرة اليوم تتعرض لضغوط كبيرة من حلفائها في الناتو لأسباب كثيرة، إلا أنها أيضاً تدرك أنها قوة إقليمية، وتريد أن تلعب دوراً يليق بمكانتها في وسط مشتعل، وفي عالم لا أحد يعترف فيه بمكانة أحد، وإنما على كل من يريد أن يثبت نفسه أن يفعل ذلك بنفسه وفي الميدان".

أنقرة اليوم تتعرض لضغوط كبيرة من حلفائها في الناتو لأسباب كثيرة إلا أنها أيضاً تدرك أنها قوة إقليمية.

باسل الحاج جاسم، باحث ومستشار سياسي

تعظيم القدرات الذاتية

بالتوازي مع السياسة الخارجية النشطة، انتهجت تركيا داخلياً استراتيجية تقوم ليس على تحقيق نمو اقتصادي فحسب، بل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من كل السلع الضرورية، وعلى رأسها السلاح، ومن ثم التحول إلى قوة اقتصادية وعسكرية كبرى.

نهج تعظيم القدرات الذاتية من التسلح والدفاع إلى الاقتصاد والصناعات الثقيلة، وكذلك مشاريع البنى التحتية العملاقة، بما فيها جسور مضيق البوسفور ومطار إسطنبول الثالث وقناة إسطنبول المائية، لا تتسم ببعد اقتصادي بحت، فهي ذات أبعاد استراتيجية طويلة الأمد يراد منها استكمال عناصر القوة الداخلية لتساند القوة الخارجية وتدفعها نحو الأمام، كما أنها تساعد تركيا على تحقيق استقلال أكبر في قراراتها الخارجية، إدراكاً منها أن القوة الذاتية هي أحد أهم العوامل الحاسمة في أن تكون الدولة طرفاً كاسباً في اللعبة الدولية.

والعكس صحيح أيضاً، فالسياسة الخارجية الفعالة تنعكس إيجاباً على توسيع القدرات المحلية، وتمنح الاقتصاد المحلي فرصاً جديدة وآفاقاً أوسع، من خلال التشبيك في العلاقات مع الكثير من الدول ذات الأدوار والإمكانيات المتفاوتة في العالم.

المحلل السياسي المتخصص في الشأن التركي محمود عثمان، أشار إلى ما يصفه أردوغان باستمرار بـ"تركيا الجديدة".

"يرى الرئيس أن تركيا الجديدة تختلف عن تركيا القديمة بعد عام 2002 إذ تحولت إلى قوة إقليمية معتبرة، وقوة اقتصادية كبيرة ضمن الدول الـ20 الأغنى والأكثر تقدماً عالمياً"، يشرح محمود عثمان.

ويرى أن "تركيا وضعت لنفسها هدفاً كبيراً أن تكون ضمن الاقتصاديات العشر الكبار وهذا لا يتحقق إلا باتباع سياسة خارجية نشطة بتشكيل وإرساء لتحالفات دولية تقتضي أن تتدخل تركيا بالقوة الناعمة وأحياناً بالقوة الخشنة، كما هو الحال الآن في سوريا وأيضاً في العراق، والآن استحقاق التدخل العسكري في ليبيا بعد طلب الحكومة رسمياً المساعدة العسكرية من تركيا".

ويختم عثمان بالقول: "هذا الدور الذي تقوم به هذه الدبلوماسية يأتي متساوقاً مع تطلعات تركيا وأهدافها في أن تكون تركيا الجديدة وتركيا الإقليمية التي تشارك في صنع القرارات الدولية وصياغة التوازنات في الساحة الدولية وبخاصة في الشرق الأوسط".

TRT عربي