عبد الفتاح السيسي قاد انقلاباً عسكرياً على الرئيس المنتخب في حينه محمد مرسي عام 2013 (AFP)
تابعنا

لا يمثل الحديث عن سيطرة النظام في مصر على كل نواحي الحياة حديثاً مُدهشاً للمتابعين للحالة المصرية بعد عام 2013 وحتى اليوم، فبُعيد إعلان قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي بيان عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وتعطيل العمل بالدستور، كانت الآراء في الداخل المصري لا تزال مُنقسمة حول قادم الأيام.

أجنحةٌ داخل التيار المدني، كانت تعوِّلُ -بخوف- على وزير الدفاع ومجلسه العسكري لقيادة المرحلة الانتقالية ثم تسليم السلطة للتيار المدني، حتى أن رموز هذا التيار، مثل حمدين صباحي وعمرو موسى ومحمد البرادعي -بدرجة أقل- شاركوا في صياغة مشهد ما بعد الثالث من يوليو، حيث ترأس موسى لجنة الخمسين لتعديل الدستور، وشارك صبَّاحي في أول انتخابات رئاسية بعد الانقلاب، وعُيِّن البرادعي لعدة أسابيع نائباً للرئيس المؤقت عدلي منصور.

لكنَّه وبناء على إجراءات تم اتخاذها على مدار أكثر من ست سنوات، فإن ممارسة السياسة أو العمل العام، على المستوى الاجتماعي والثقافي أصبح من الخطر ما قد يعرضك لانتهاكات أقلها السجن، فما الذي حدث؟

"أنا مش سياسي"

في معرِض افتتاحه لعدد من المشروعات نهاية يناير عام 2018، علَّق عبد الفتاح السيسي على بعض الدعوات المعارضة لاستمراره في السلطة، قائلًا: “أنا مش سياسي" ومن ذلك التصريح، يمكن تكهّن، كيف يُدير السيسي النظام السياسي في البلاد.

"كُل شيء يُدار من مكتب الرئيس ومعاونيه". هذا ما صرح به الباحث القانوني محمد عادل في حديثٍ لـTRT عربي حيث تابع: "فبعد تنظيم دورتين انتخابيتين هزليَّتين نجح فيهما السيسي، بأصواتٍ زادت على 90%، وبعد خمس سنوات من إقرار دستور عام 2014، واقتراب البرلمان من نهاية دورة انعقاده الأخيرة، لم نرَ انتخابات محلية تحدث حتى الآن".

يُفسر عادل ذلك قائلًا: "من الصعب السيطرة على الانتخابات المحلية، فرغم محاولة جهاز المخابرات الحربية تجهيز قوائم لهذه الانتخابات، إلا أنه يصعب السيطرة على كل ذلك".

وينص الدستور المصري، في المادة 87، على أن الدولة تضمن سلامة إجراءات الاستفتاءات والانتخابات وحيدتها ونزاهتها، ويحظر استخدام المال العام والمصالح الحكومية والمرافق العامة في الأغراض السياسية أو الدعاية الانتخابية.

في مطلع يناير عام 2016 قال حازم عبد العظيم المسؤول السابق في حملة ترشح السيسي للرئاسة، إن جهاز المخابرات العامة ومعاوني الرئيس قادا تشكيل قائمة انتخابية موالية للرئيس بشكل كامل. تلك القائمة التي حازت على المقاعد المخصصة للقوائم في الانتخابات البرلمانية.

اختار السيسي إذن برلمانه بعناية، حتى لا يجد عراقيل تمنعه من تمرير القرارات والقوانين. فوجود أصوات معدودة معارضة داخل البرلمان قد يمثل إزعاجاً للرئيس؛ ففي فبراير عام 2016 أسقط مجلس النواب عضوية محمد أنور السادات رئيس حزب الإصلاح والتنمية، بحجة "الحط من قدر" المجلس وذلك بسبب تصريحات صحفية حول أداء المجلس و "تراجع" حالة حقوق الإنسان في البلاد.

ويحاول مجلس النواب حاليّاً إسقاط عضوية، النائب أحمد الطنطاوي، بعد إطلاقه مبادرة "الإصلاح السياسي" كما سمَّاها، حيث دعا الطنطاوي عبد الفتاح السيسي إلى التنحي عن السلطة بحلول العام 2022، وإعادة النظر في التعديلات على الدستور، التي تم تمريرها رغم الرفض الشعبي، ليُحال بذلك إلى لجنة القيم بالمجلس لاتخاذ إجراءات عقابية ضده.

صوتٌ واحد

للسيطرة على الحياة العامة في البلاد، أدرك نظام السيسي أن تأميم الإعلام سلاح مهم لبث خطاب إعلامي موحد. كانت مجموعة "إعلام المصريين" هي الخطوة الأولى، تحركت المجموعة لشراء وسائل إعلام مكتوبة ومرئية ومسموعة، بواجهةٍ مدنية، هو رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة.

إلا أن سُرعان ما أُخرِج أبو هشيمة من المشهد نهاية عام2017، باستحواذ شركة "إيجل كابيتال" التي تترأسها داليا خورشيد وزيرة الاستثمار السابقة، وهي الشركة المملوكة لجهاز المخابرات العامة المصرية، وتتولى إدارة جميع الوجهات المدنية للجهاز.

ويُعلِّق الإعلامي المصري ومقدم البرامج الساخرة يوسف حسين، على سيطرة الأمن على الإعلام قائلاً: أضحت المنصات الإعلامية تُدار من خلال "سكريبت" موحَّد؛ فتجد خلال تغطية حدث أو موضوع يشغل الرأي العام أن وسائل الإعلام ومذيعيها يتحدثون من وجهة نظر واحدة، لا أحد يختلف عن الآخر. جميعهم يتحدثون في السياق ذاته وفي الإطار ذاته وحتى المصطلحات ذاتها.

ويتابع يوسف، في حواره مع TRT عربي: "في البرنامج الذي نعده، نشاهد هذه التوجهات في كل الموضوعات تقريباً، ونرصد تغيير وجهة نظر الإعلاميين مع تغيير النظام لتوجُّهه".

ويضرب يوسف مثالاً لذلك بأزمة"الدجاج الفاسدة" عام 2018، حيث انتشرت أخبار عن دجاج مستورد يتم بيعه في الأسواق بأقل من دولار للدجاجة الواحدة. في هذه الأثناء ظلَّ المذيعون يهاجمون مستورِد هذا الدجاج، حتى ظهر أن المستورد هو "جهة سيادية\القوات المسلحة". يقول يوسف، أنه وفريق برنامجه رصدوا نفس المذيعين الذين هاجموا مستورد الدجاج، وهم يأكلون نفس الدجاج على الهواء، حتى يُثبتوا للمشاهدين أنه صالح للتناول.

وفي نهاية يناير عام 2019، قالت منظمة مراسلون بلاحدود، أن جُل المنابر الإعلامية في مصر أصبحت تحت سيطرة النظام الحاكم، وباتت خاضعة مباشرة لسلطة الدولة أو أجهزة المخابرات أو في ملكية أثرياء مقربين من الحكومة.

تقنين القمع

في الرابع عشر من يوليو 2019 وافق البرلمان المصري على قانون جديد لعمل المنظمات غير الحكومية، وهو القانون الذي امتلأت بنوده، بالقيود الجديدة ضمن السعي الحثيث للأجهزة الأمنية المصرية لقمع المجتمع المدني بلا هوادة، حسبما علَّقت هيومن رايتس ووتش، التي طالبت السيسي بعدم الموافقة على القانون، وهو الطلب الذي تجاهله المشير بطبيعة الحال. وتقول المنظمة الدولية، إن القانونَ يُظهِرُ نيَّة الحكومة المصرية في سحق المنظمات المستقلة.

"قوانين أمنية بامتياز"، هكذا وصف الباحث القانوني محمد عادل قانون الجمعيات الأهلية، وغيرها من القوانين التي يجري تمريرها من قِبل مجلس النواب، ويضيف: هذه القوانين يكتبها موظفون أمنيون وليست اللجان التشريعية في البرلمان، وتمثِّل هذه القوانين المنشورات الأمنية التي تدار البلاد طبقاً لها.

لم يكُن قانون الجمعيات الأهلية هو القانون الأول الذي قيَّد الحريات والعمل العام في البلاد، فقد جرَّم قانون التظاهر أي تجمعات لأي غرض، وهو القانون الذي طالبت ست عشرة منظمة مصرية مستقلة بإلغائه في بيانٍ مشترك، بسبب ما يتعرض له عشرات الآلاف من المواطنين المصريين من ملاحقات قضائية واحتجاز، وهو ما حذرت منه المفوضية السامية لحقوق الإنسان السابقة بالأمم المتحدة نافي بلاي، من أن القانون قد يؤدي إلى انتهاكات خطيرة تمس الحق في حرية التجمع السلمي.

وتتسع القائمة للعديد من القوانين التي مررها البرلمان بين ليلةٍ وضحاها، زادت من خنق المجال العام في البلاد مثل قانون الطوارئ وقانون الإرهاب، وقانون مكافحة جرائم الإنترنت، وهي القوانين التي تجرِّم، تقريباً، كل أشكال التعبير عن الرأي.

يقول مدير مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف، أحمد سميح، "لكل ديكتاتور وصفة سابقة التجهيز يعمل عليها ليل نهار ليصنع دولة يحكمها وحده، أهم مكوناتها، هو السيطرة على المجال العام الذي من خلاله ينظم المجتمع علاقاته الديمقراطية والتي تؤثر على الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع".

ويضيف سميح في حديثه لـTRT عربي: "يسمح المجال العام لِطاقات الإبداع الكامنة في التشكل والظهور والانتشار ممثلةً كلَّ الثقافة العامة للمجتمع أو جزءاً منها، لكن عندما يتم إغلاق المجال العام يصبح الديكتاتور هو المسيطر الوحيد والفاعل الأوحد في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. يمنحها لمن يشاء ويمنعها عمّن يشاء، ويتحكم في القدر الذي يستطيع من خلاله تحريك المجتمع والدولة في الاتجاه الذي يعتقد أنه الأنسب له ولحُكمِه".

ويحذر سميح من خطورة إغلاق المجال العام فيؤكد: "الدول التي تعرضت لإغلاق كامل في المجال العام انتهت بالعنف الكبير الذي لم يستطع الديكتاتور أن يواجهه أو يمنعه، وهو ما حدث في العراق وسوريا وليبيا".

ويتفق الناشط السياسي المصري محمد عبَّاس مع ما قاله سميح. ويعبِّر لـTRT عربي عن خوفه من حدوث انفجار كبير في البلاد، سيصعب السيطرة عليه نتيجة خنق المجال العام، مؤكداً "أن هذا الخنق سيؤدي بدوره إلى تحلل الدولة المصرية من الداخل، نتيجة انتشار الفساد والمحسوبية وعدم وجود نظام محاسبي وتحجيم لدور الشفافية والتحقق من الكسب غير المشروع، الذي قد يؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة".

ويتابع عبّاس، الذي كان عضواً لائتلاف شباب الثورة: "الدولة المصرية تُقنّن القمع وتحوَّل الأوضاع الاستثنائية، إلى أوضاع طبيعية تفرض على المجتمع أن يتعامل معها بصفتها مُسلَّمات، ويتم السيطرة على المجال العام بكل أنشطته، بشكل مستمر وقانوني؛ فعبد الفتاح السيسي، يرى في نظام عبد الناصر المُسيطر على كُل شيء هو النموذج الأمثل، ويرى في الوقت ذاته أن نظام مبارك كان ضعيفاً لأنه ترك مساحات محدودة للتعبير عن الرأي. لذلك هو يرى دوماً في مواقع التواصل الاجتماعي تهديداً، ويعتبرُ النَّشاط الإلكتروني حرباً، سمَّاها "حروب الجيل الرابع".

TRT عربي