تابعنا
رغم أن طرفي النزاع المباشرَين هما تركيا من جهة واليونان وقبرص الرومية من جهة أخرى، فإن هذا لا يعني أن دولاً أخرى، ولا سيما الدول العربية المطلة على المتوسط، ليست طرفاً في النزاع أو معنية بنتائجه، فالأطماع اليونانية لا تقتصر على حصة جارتها تركيا.

لم تكن منطقة الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط يوماً أقل أهمية ممَّا هي عليه اليوم، وذلك نظراً للموقع الجغرافي المميز الذي تتمتع به كصلة وصل بين ثلاث قارات، ومجمع لمعظم الدول الإقليمية المطلة على المنطقة، بالإضافة إلى كونها أحد أهم ممرات التجارة العالمية، لكن اكتشاف الثروات الهيدروكربونية في مياهها العميقة مع عدم ترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة بين جميع دول المنطقة أدى إلى تحويل حوض المتوسط إلى بؤرة توتر دولي.

ووقّعت عدة دول اتفاقات لترسيم الحدود الاقتصادية بدءاً من الاتفاق بين مصر وقبرص الرومية عام 2003، ولبنان وقبرص الرومية في 2007، وبين إسرائيل وقبرص الرومية في 2010، وبين تركيا وليبيا في 2019، الذي أصاب مطامع اليونان في مقتل، ما دفع الأخيرة إلى المسارعة لتوقيع اتفاق طال التفاوض حوله مع مصر خلال العام الجاري، أكد عديد من الخبراء أنه يصب في مصلحة اليونان على حساب مصر.

وتفاقم النزاع، الذي بدأته قبرص الرومية بمنح تراخيص لشركات تنقيب دولية، مؤخراً بين تركيا من جهة واليونان وقبرص الرومية من جهة أخرى على حدود المياه الاقتصادية الخالصة، نتيجة تعنت أثينا ونيقوسيا وتهربهما من استحقاق التفاوض للوصول إلى ترسيم مشترك للحدود البحرية، بما يؤدي إلى التقاسم العادل للثروات الكامنة في منطقة شرقي المتوسط على أرضية قانون البحار الدولي.

وبالرغم من أن طرفي النزاع المباشرَين هما تركيا من جهة واليونان وقبرص الرومية من جهة أخرى، فإن هذا لا يعني أن دولاً أخرى، ولا سيما الدول العربية المطلة على البحر المتوسط، ليست طرفاً في هذا النزاع أو معنية بنتائجه على الأقل، فالأطماع اليونانية لا تقتصر على حصة جارتها تركيا، بل تتعداها إلى كل دول المنطقة، وليست مصر إلا مثالاً على ذلك.

كما حاولت الولايات المتحدة أن تتوسط بين لبنان وإسرائيل في النزاع بين الطرفين على البلوك 9 البحري المشترك دون توصل إلى اتفاق، في حين بدأت إسرائيل أعمال الحفر في حقل كاريش المجاور. ولا يخفى الحلف الذي يضم إسرائيل واليونان وقبرص الرومية القائم على التوسع والسطو على ثروات المنطقة، دون انتظار إبرام أي اتفاق مع الدول المجاورة وفقاً للقوانين الدولية.

العرب مستفيدون

تشير دراسة صادرة عن هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية عام 2010 إلى أن نحو 122 تريليون متر مكعب من مصادر الغاز غير المكتشفة في حوض شرق المتوسط تقع قبالة سواحل سوريا ولبنان و"إسرائيل" وقطاع غزة المحاصر وجزيرة قبرص، بالإضافة إلى ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج، على أن هذه الأرقام لا تشمل حوض دلتا النيل، كما تضم المنطقة كميات كبيرة أيضاً من سوائل الغازات.

وتقدر شركات التنقيب عن النفط أن المنطقة تعوم فوق بحيرة من الغاز تكفي لتلبية حاجة سوق أوروبا لمدة 30 عاماً والعالم لمدة عام واحد على الأقل. وتتمركز المنطقة البحرية الغنية بالنفط والغاز داخل الحدود البحرية الإقليمية لعدد من الدول، هي: تركيا، وسوريا، وقبرص، ولبنان، ومصر، و"إسرائيل"، وقطاع غزة.

"النزاع في شرق المتوسط أكبر من قضية اليونان وتركيا" هكذا لخص الموقف الكاتب والباحث الليبي عبد السلام الراجحي، الذي لفت إلى أن ليبيا من أكثر الدول استفادة من الرؤية التركية في البحر المتوسط، لأن "الاتفاق الليبي التركي أعاد إلى ليبيا وحدها 39 ألف كيلومتر مربع كانت تسطو عليها قبرص الرومية واليونان، وهذه المساحة تعادل 4 مرات مساحة دولة مثل لبنان".

وقد كشف الراجحي، في حديث مع TRT عربي، أن قبرص الرومية واليونان حاولتا الاستفادة من الفوضى في ليبيا للقرصنة والسطو على المياه الليبية الاقتصادية التي تحوي ثروات هائلة، حتى جاءت الاتفاقية الليببة التركية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وقطعت الطريق عليهما.

وأكد الباحث الليبي أن هناك دولاً عربية أخرى مستفيدة من الاتفاق التركي الليبي ومن التحركات التركية في شرقي المتوسط مثل مصر، التي قال: إنه "لو كانت هناك حكومة عاقلة تبحث عن مصالح الدولة والشعب فالاتفاق يعيد إليها تقريباً 19 ألف كيلومتر مربع في مياه المتوسط، وهذه منطقة غنية بالغاز والنفط".

كما أن الاتفاق التركي الليبي أعطى فرصة أيضاً لسوريا ولبنان وقطاع غزة للاستفادة من ثرواتها، حيث كانت اليونان وقبرص اليونانية تحاولان السطو على مياهها الاقتصادية، وفقاً للمصدر ذاته.

"أنظمة غير شرعية"

وبالرغم من أن مصالح الدول العربية بوجه عام تتطابق مع مصلحة تركيا في إرساء اتفاقات قائمة على قانون البحار الدولي، وتتيح تقاسماً عادلاً للثروات الكامنة في المنطقة، وعدم السماح لدولة أو اثنتين بإطلاق العنان لمطامعهما وتوسيع حدودهما البحرية الاقتصادية، فإنه من اللافت أن معظم هذه الدول لا تلقي بالاً للقضية، أو أنها تصطف بالفعل مع الجانب الخطأ في النزاع وهو اليونان.

علي باكير الباحث السياسي المتخصص في العلاقات الدولية، يرى أن الدول العربية المطلة على حوض شرق البحر المتوسط لديها مصلحة في إرساء تفاهمات فيما يتعلق بترسيم الحدود مع تركيا، لكن "معظمها لديها مشاكل تمنعها من ذلك".

ويضيف باكير في حديث مع TRT عربي أن "أنظمة هذه الدول تفتقد إلى الشرعية، فهي لا تمثل شعوبها وبالتالي فإن مصلحة الأنظمة تختلف عن مصلحة الدولة والشعب، وغالباً ما يتم ربط مصلحة الأنظمة بتفاهمات مع دول غربية لتعويض الشرعية الداخلية بحماية خارجية. فضلاً عن أن واقع الدول العربية هو انعكاس للواقع العربي المهترئ عموماً".

عائق أيديولوجي

ويشير الخبير في العلاقات الدولية إلى أن الأنظمة العربية "مستعدة للتضحية بشعوبها ودولها في سبيل البقاء في السلطة". معتبراً أن "الموقف التركي المدافع عن حقوق الأتراك مزعج غالباً لمعظم الأنظمة العربية لأنه يعرّيهم ويكشف عجزهم ويقوّض شرعيتهم".

من ناحية أخرى، يلفت باكير إلى "البعد الأيديولوجي"، إذ تنظر الأنظمة العربية إلى الموضوع من زاوية أيديولوجية، لأن ذلك "يعطيها القدرة على التلاعب بالمجتمعات العربية، وكذلك الفرصة لجذب الغرب في مواجهة تركيا".

ولا تقتصر الأنظمة العربية على هدر الفرص المتاحة من مساندة تركيا في موقفها المتعلق بترسيم الحدود الاقتصادية في شرق المتوسط، بل تنخرط أيضاً في مشروع فرنسي قائم على الإقصاء ومنع ظهور أي منافسين له في عموم البحر المتوسط.

وفي السياق، رأي الكاتب والباحث الليبي عبد السلام الراجحي أن "الدور الفرنسي الخبيث في المنطقة يريد إقصاء أي قوة في المتوسط تكون منافسة له. رأينا كيف يحاول الفرنسيون تحجيم الدور الألماني بالرغم من أن ألمانيا حليف وشريك استراتيجي لفرنسا، ولاحظنا أن فرنسا تتماهى في مصالحها مع العدو الاستراتيجي للناتو التي هي عضوة فيه، وأقصد هنا الدور الروسي في ليبيا".

ولفت الراجحي إلى أن فرنسا "تستخدم الدور المصري في مشروعها، حيث لمصر دور تابع ومنفذ لسياسة فرنسا وكذلك الإمارات". وفي وقت تتحدث مصر عن قيادة العرب وعن كونها قلب العروبة النابض، يقول الباحث السياسي، لاحظنا أن النظام في مصر يوقع اتفاقاً مع اليونان لا يستشير فيه لبنان ولا سوريا ولا قطاع غزة ولا ليبيا، فضلاً عن أنه اتفاق أضر بالمصريين بشكل أساسي وبمصلحة مصر.

TRT عربي