اطلاق الدوريات المشتركة الروسية التركية في شمال شرق سوريا (Ihlas Haber Ajansi)
تابعنا

منذ انطلاقها عام 2016، لدعم وقف إطلاق نار شامل في سوريا، وتطورها إلى عملية تهدف إلى معالجة الوضع الميداني، ولاحقاً دعم مسار جنيف الدولي لإرساء حل سياسي في هذا البلد، واجهت محادثات أستانا تحديات كبيرة، كادت بعضها أن تؤدي إلى انهيارها، لكن الإرادة المشتركة بين أطرافها حالت دون ذلك حتى وقت قريب.

شكل اعتداء قوات النظام السوري على نقاط تمركز الجيش التركي في محافظة إدلب، ضربة غير مسبوقة لعملية أستانا، ليس فقط لأنها تشكل انتهاكاً لاتفاقياتها وأبرزها ما يتعلق بإنشاء منطقة "خفض التصعيد"، ونشر نقاط مراقبة عسكرية تركية فيها، بل لأنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء، عندما أدت إلى استشهاد 7 جنود أتراك ومتعاقد مدني، ما استدعى رداً عسكرياً تركياً على الفور.

واظبت قوات بشار الأسد المدعوم من روسيا وإيران على انتهاك جميع مخرجات عملية أستانا منذ انطلاقها، كما لم تلتزم باتفاق سوتشي الذي ثبت اتفاق خفض التصعيد في إدلب ومحيطها، وتمكنت قوات النظام بمعونة الغطاء الجوي الروسي والمليشيات الإيرانية من انتزاع السيطرة على قرابة نصف مساحة خفض التصعيد في ظل هجمات متواصلة على مدى عامين، زادت حدتها في الأشهر الأخيرة ما أدى إلى نزوح أكثر من نصف مليون مدني نحو الحدود التركية.

وبعد هذه التطورات الخطيرة، اعتبر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في تصريحات له نهاية الشهر الماضي، أن مسار أستانا منتهياً متهماً روسيا بعد الالتزام باتفاقي سوتشي وأستانا حول إدلب، مضيفاً: "لم يتبقَ شيء اسمه مسار أستانا"، لكنه في نفس الوقت أشار إلى أن تركيا وروسيا وإيران يمكنهم إحياؤه مجدداً والنظر فيما يمكن فعله.

جاء عدوان قوات الأسد في إدلب على جنود الجيش التركي في 3 فبراير/شباط الجاري بمثابة مصادقة عملية على ما ذكره الرئيس التركي من انتهاء عملية أستانا، وليظهر حجم المراجعة التي تحتاجها كل من تركيا وروسيا بشكل خاص لآلية عمل اتفاقيات أستانا وسوتشي ومدى جدواها في ظل كل هذه التطورات.

مسار معطل

ويرى فراس فحام، الكاتب والمحلل السياسي السوري، أن مسار أستانا معطل منذ ما قبل التوتر الأخير، فقد عرقل النظام سير عمل اللجنة الدستورية دون تدخل أو ضغط روسي. مضيفاً، في حديث مع TRT عربي: "أعتقد أن تركيا تسعى للعودة لطاولة المفاوضات لكن في حال استمرت روسيا بالخيار العسكري فلن يتم التوصل لتفاهم".

واعتبر وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، غداة العدوان على الجنود الأتراك بأن هذه الاتفاقيات "تضررت كثيراً، ولكنها لم تنته تماماً"، فيما يبدو كفسحة للمراجعة والتفكير في بديل عن الوضع الحالي، من خلال إحياء عملية أستانا المتضرّرة جداً لكن على أسس ووفق شروط جديدة، من وجهة النظر التركية، فما هي هذه الأسس وهذه الشروط؟

يرى محمد جيليك، الصحفي والمحلل السياسي التركي، أن الهجوم الأخير في إدلب على الجنود الأتراك ألحق ضرراً بالثقة التي تم بناؤها عبر اتفاقيات أستانا وسوتشي، ولكن العلاقات القوية بين روسيا وتركيا وبشكل خاص بين اردوغان وبوتين، يمكن أن تشكل أرضية مشتركة لإحياء عملية استانا، وفقاً له.

وتحدث الرئيس التركي، في كلمة له الأربعاء الماضي، عن بعض ما يمكن اعتباره شروط استعادة الوضع السابق في سوريا وفقاً لمسار أستانا، ففي حين أكد أردوغان استعداد قوات بلاده للرد على أي انتهاك ترتكبه قوات الأسد بحق المدنيين والمعارضة وحلفاء تركيا على الفور، بما يؤدي إلى ردع حقيقي يمهد لوقف إطلاق نار أكثر ديمومة، أمهل النظام حتى نهاية الشهر للانسحاب إلى ما وراء الخط الذي رسمه اتفاق سوتشي لنقاط المراقبة التركية، وإلا فإن تركيا ستجبره على ذلك، وهذا يعني أن مهمة القوات التركية في إدلب لن تكتفي بعد الآن بالمراقبة بل ستتحرك واتخاذ ما يلزم لردع الانتهاكات والتجاوزات.

ويعتقد جيليك، وهو مدير التحرير في جريدة ديلي صباح التركية الناطقة باللغة الإنجليزية، أن "الأرضية المشتركة لإحياء عملية استانا يجب تعزيزها من خلال ضمان أن لا تكرر قوات الأسد عدوانها وهجومها اللامسؤول ضد الجيش التركي، وأن تتراجع هذه القوات إلى خارج منطقة خفض التصعيد".

ويضيف جيليك في حديث مع TRT عربي أنه "بعد هجوم الأسد على القوات التركية انتهت عملية أستانا، ولكن يمكن عمل بعض المراجعات والتنازلات من جميع أطراف العملية، سواء من قبل تركيا وروسيا وإيران حيث يمكن أن تجتمع هذه الدول وتعطي ضمانات أن مثل هذه الهجمات لن تتكرر بل وتذهب أبعد نحو مراجعة شروط الاتفاقيات".

أركان الرؤية التركية

ويسرد الصحفي والمحلل التركي أركان الرؤية التركية للملف السوري في الفترة الحالية لا سيما في ظل التطورات الأخيرة، معتبراً أن أولها يتعلق بـ"شرعية الأسد في فترة ما بعد الصراع، فتركيا لا ترى أن الأسد يمكن أن يبقى إذا كنا نتحدث عن عملية انتقال سياسي".

وأضاف: "تركيا أيضاً تريد إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا وتثبيت منطقة خفض التصعيد كجزء من المقاربة الإنسانية لمجمل الأزمة السورية".

ومضى قائلاً: "إذا تم حل المشكلة الإنسانية وقضية الانتقال السياسي عندئذ ما ينبغي على تركيا وروسيا العمل عليه هو ضمان تأسيس عملية شاملة عبر جمع كل الأطراف السورية من أجل وضع دستور لمرحلة ما بعد الأسد".

ويشدد جيليك على أن "لتركيا بعض الخطوط الحمراء" في سوريا، وهي بحسب رأيه، القضاء على التهديدات الأمنية الموجودة على طول حدودها مع سوريا المتمثلة بتنظيم YPG الإرهابي، والقضاء على المجموعات الإرهابية المتطرفة مثل داعش، وضمان استمرار مناطق خفض التصعيد والمحافظة عليها، وعدم دخول قوات الأسد إليها.

ويعتبر الصحفي والمحلل التركي أن "عملية استانا أو أي اتفاقيات أخرى تهدف للتوصل إلى حل سياسي في سوريا يمكن أن تتحقق فقط عبر العلاقات بين تركيا وروسيا، بالنظر إلى أن كلا الطرفين يعد فاعلاً ميدانياً قوياً".

من جهته، يوافق الباحث السياسي والخبير في العلاقات الروسية التركية، باسل الحاج جاسم، على أن التطورات الأخيرة وضعت مسار أستانا في مرحلة جديدة، يحتاج معها إلى الاستجابة لمتطلبات المرحلة.

ويقول الحاج جاسم، في حديث مع TRT عربي، إن "مسار أستانا تم إنشاؤه في ظروف و مرحلة محددة داخل الأراضي السورية، و اليوم نحن أمام ظروف وواقع بات مختلفاً بشكل كبير عن المراحل السابقة، وبالتالي يمكن الاستمرار في مسار أستانا أو سوتشي لكن وفق متطلبات المرحلة".

وتوقع الباحث والمستشار السياسي أن يعقد الرئيسان أردوغان وبوتين قمة "تضع أسساً لمرحلة جديدة وفق الخارطة الجديدة لسيطرة القوى داخل سوريا".

TRT عربي