تابعنا
شكّل موضوع المدرّسين المتعاقدين قضيةَ رأي عامّ بالمغرب منذ أكثر من سنتين، وأعادَ إلى الأذهان مجموعةً من القضايا مثل وضعَ التعليم بالبلد، قيمةَ المُدرّس، إخفاقات الدّولة في تدبير قطاع التعليم ومصير المدرسة العمومية.

تمثَّلَ التلاميذُ المعلّمينَ والمدرّسين دائماً كقدوة، ومصدرٍ للعلم، مهمّتهم تربيةُ الأجيال على القيم، وتلقينهم مبادئ المواطنة وحبَّ الوطن. ولذلك كانوا دائماً مُحترمين وذوي هيبة في عيون الجميع. اليوم، تَصلُنا من المغرب، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، صُوَرُ دماءٍ على وجوه مدرّسين، هِراوات تنهال على أجسادهم بلا هوادة، مطاردات بينهم وبين رجال الأمن، إصابات وحالات إغماء في صفوفهم... السّببُ احتجاجُهم على ما يُسمّى التوظيف بالتعاقد.

موضوعٌ شكّل قضيةَ رأي عامّ بالمغرب منذ أكثر من سنتين، وأعادَ إلى الأذهان مجموعةً من القضايا مثل وضعَ التعليم بالبلد، قيمةَ المُدرّس ومصير المدرسة العمومية.

التصعيد هو شعارُ المرحلة بالمغرب. فالمدرّسون لم يتوقّفوا بعد عن الاحتجاج على توظيفهم بالتعاقد ومطالبتهم بالإدماج في سلك الوظيفة العمومية، والحكومةُ مصرّةٌ على استعمالِ لغةِ التهديد بالعزل والطرد في حقهم. النتيجةُ هدرٌ مدرسي لأزيد من شهر في الكثير من المدارس العمومية المغربية.

ثمّ مدرّسون ضائعون بين عالمين: مصير المدرسة العمومية، والاستمرار في الاحتجاج من أجل تحقيق مطالبهم. وتعليمٌ يتساءلُ الجميعُ عن مصيره، ويتنبؤون له بالاتجاه نحو الهاوية.

من هم الأساتذة "المتعاقدون"؟

إلى حدود سنة 2016، كان المدرّسون في المغرب يوظّفون في وزارة التربية الوطنية، فيخضعون بذلك للنظام الأساسي للوظيفة العمومية، وهو نظامٌ يخوّل لهم مجموعةً من الحقوق، من بينها الحقّ في التعويض، والحقّ في الأقدمية والترقّي، والحقّ في الحصول على التقاعد في حالة المرض...

في سنة 2016، قرّرت الدولة أن المدرّسين لن يوظّفوا من قِبل الوزارة بعد الآن، بل في الأكاديميات، وهي مؤسساتٌ عمومية، ستجعلهم يتحوّلون من موظّفين إلى مستخدمين. وبذلك، سيفقدون جزءاً من الحقوق التي يتمتّع بها الموظّفون لدى الوزارة.

تمّ إذن تفعيل مقرّر مشترك بين وزارتي التربية الوطنية والمالية، يتضمن بنوداً هي بمثابة النظام الأساسي للأكاديميات. وعلى أساس هذه البنود، تمّ إخراج عقودٍ تحدّد كيفية اشتغال المدرّسين في الأكاديميات.

"بنودٌ مجحفة"

تحتوي هذه العقود التي وقّع عليها المدرّسون على الكثير من البنود التي اعتبروها مجحفةً في حقّهم، منها المادّة 13 التي تخوّل لمدير الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين فسخَ العقد كتابةً دون تعويض المدرّس. ومواد أخرى مفادُها أن هذا الأخير لا يملك الحقّ في الترقّي الوظيفي، ولا الحقّ في التقاعد في حالة المرض والعجز.

وبالرّغم من أنّ المدرّسين لم يستسيغوا هذه العقود، إلاّ أنّهم وقّعوا عليها. وبذلك تعاقدت الأكاديميات مع 33 ألف مدرّس في أواخر عام 2016 وبداية 2017، ثم 22 ألف مدرّس في أواخر عام 2017.

في الأول من سبتمبر 2018، بدأت أكاديميات التربية والتعليم في تطبيق نظامٍ جديد، سُمّي بالنظام الأساسي الخاصّ بأطر الأكاديميات. وعلى أساس هذا النظام تمّ توظيفُ فوجين، الأول يتضمّن 20 ألف مدرّس، والثاني 15 ألف مدرّس.

تحتوي ملحقات العقود، التي خرجت مباشرةً بعد تطبيق النظام الأساسي الخاص بأطر الأكاديميات، على بنودٍ تخوّل للأكاديميات فصلَ المدرّسين بدون إشعار أو تعويض، إذا كانوا يعانون من مشاكل صحية طويلة أو متوسطة الأمد، ولا تسمحُ للمدرّس بالتحرّك في غير المجال الترابي للأكاديمية التي يشتغل بها.

هذه البنود وغيرُها جعلت دُفعتي 2016 و2017 ترفُضان التوقيع على ملحقات العقود لتغيير وضع المدرّسين من المقرّر المشترك إلى النظام الخاصّ بأطر الأكاديميات. هكذا بدأت الإضرابات تطالُ مجموعةً من المدارس بالمغرب، وبدأ المدرّسون يجتاحون الشوارع، معبّرين عن رفضهم للتعاقُد، ومُطالبين الدولةَ بالعودة إلى نظام التوظيف في الإدارة العمومية.

التعاقُد أو البطالة

يقدّم هؤلاء المدرّسون أنفسهم كأساتذة "فُرِض عليهم التعاقد". فبالرّغم من أنّهم وقّعوا على العقود بإرادتهم، إلا أنّهم يعتبرون أنّ قبولهم لهذه العقود جاء من انعدام الخيارات أمامهم. لقد وضعتهم الدولة أمام خيارين أحلاهُما مرّ: إما التعاقد وإمّا مواجهةُ شبح البطالة.

بالنسبة لمحمّد مجاط، عضو التنسيقية الجهوية للأساتذة الذين فُرِض عليهم التعاقد، فإنّ قبول هذا الوضع "جاء في سياقٍ لم يكن فيه هناك إطارٌ منظّم يناضِل من خلاله المدرّسون ضدّ التعاقد. وقّعنا على العقود إذن، لأننا نؤمن أنّ الرّفض والاحتجاج من داخل هذا التوظيف أفضلُ من النضال من خارجه"، يقول لـTRT عربي.

ويرى المدرّسون "الذين فُرض عليهم التعاقد" أنّ الدولة لم تمنحهم الوقت لقراءة العقود والتفكير فيها قبل توقيعها، مع العلم أنّها عقودٌ مبنية على المقرّر المشترك الذي لم يكُن متاحاً للعموم، وجاء باللّغة الفرنسية، وهي ليست اللّغة الرسمية للبلاد، الأمرُ الذي يطعنُ في قوته القانونية.

من جهتها، ترى سميرة التناني، مدرّسة متعاقدة، في تصريحها لـTRT عربي أنّ "المدرّسين اضطرّوا لقبول التعاقد، لأنّ كلّ الأبواب كانت مغلقةً أمامهم. عندما رأينا البنود المجحفة والمهينة الموجودة في العقود، تشكّل إطار يوحدنا، فكان الإجماع على الرّفض، وقرّرنا الاحتجاج".

سياساتٌ فاشلة

مشكِل التوظيف بين المدرّسين والدولة المغربية ليس وليد اللحظة، والتعاقُد لم يكن سوى نِتاج تراكماتٍ من السياسات التي انتهجتها الدولة المغربية في مجال التعليم. من بين هذه السّياسات المغادرةُ الطوعية التي طبقتها الحكومة، برئاسة إدريس جطو، عام 2005. كان ذلك بتوصيةٍ من البنك الدولي من أجل تخفيض كتلة الأجور وتخفيف الضغط على ميزانية الدولة.

في ظلّ عملية المغادرة الطوعية، سمحت الدولة لموظّفي الإدارة العمومية، ومن ضمنهم المدرّسون، بترك وظائفهم مقابل تعويضٍ مادّي، لأنّ أعدادهم كانت تتجاوز 225 ألف أستاذ، مُقابل حوالي 5 ملايين و500 ألف تلميذ فقط، حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط.

بعد تطبيق هذه السياسة، انتقل عددُ المدرّسين في المغرب من 226 ألف أستاذ في السنة الدراسية 2004-2005 إلى 220 ألف أستاذ في سنة 2005-2006.

بالمقابل، كانت الدّولة المغربية تطبّق مخطّطاتٍ لمحاربة الهدر المدرسي، وتشيّد المدارس في القرى والبوادي، وتقوم بمجهوداتٍ من أجل تسهيل الولوج إلى المدارس. فكانت النتيجة أن ارتفع عددُ التلاميذ، في الوقت الذي كان فيه عددُ المدرّسين الذين يغادرون طوعياً يرتفع أيضاً. ما أدّى إلى تكدّس التلاميذ في الأقسام.

في سنة 2011، ارتفع متوسط الأجور في الوظيفة العمومية. في نفس الوقت، صارت الدولة في حاجةٍ إلى توظيف 70 ألف مدرّس جديد لمحاربة ظاهرة تكدّس التلاميذ في الأقسام. فأصبح التحدّي أمامها هو إنقاذ التعليم دون الإضرار بميزانيتها.

فشلت المغادرة الطوعية إذن، وهو ما اعترفت به كلّ من الدولة المغربية والبنك الدولي، فاضطرّت الحكومة إلى اللجوء للتعاقد عام 2016. وأصبح توظيف المدرّسين يتمّ مباشرة في أكاديميات التعليم التي تحصل على جزء من دعمها من ميزانية الدولة، وتُسمّى "ميزانية المعدّات والنفقات الأخرى". وذلك حتى يحصُل المدرّسون على أجورهم من هذه الميزانية.

في وقتٍ سابق، أكّد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني، سعيد أمزازي، أنّ التوظيف بالتعاقد جاء لتغطية حاجة أكاديميات التربية والتكوين إلى الموارد البشرية، من أجل معالجة مشكل الاكتظاظ في المدارس.

مدرّسون تسيل دماؤهم

ليلةُ الثالث والعشرين من مارس الماضي كانت مُرعبةً بالنسبة للمدرّسين المتعاقدين. فبعدَ أن خرجوا في مسيرةٍ ليلية حاملين الشموع بشوارع العاصمة الرباط، تدخّلت قواتُ الأمن لفضّ تجمّعاتهم ومنعهم من الاعتصام، باعتباره نشاطاً غير مرخّص له.

وأمام رفض المدرّسين المحتجين تفريق الاعتصام والتوقف عن قرارهم بالمبيت الليلي في شوارع المدينة، تدخّلت القوات العمومية حوالي الثانية والنصف صباحا، مستخدمةً خراطيم المياه لتفريق الشكل الاحتجاجي، ما خلّف إصاباتٍ وصدمات في صفوف المدرّسين.

"أصبحَ المدرّس يُضربُ ويُركَل، ويُسالُ دمُه، ويتعرّض للسبّ والاتّهام باللاوطنية، وهذه صورةٌ قاسية ستترسّخ في ذهن التلميذ، وستُغيّر تمثّله عن الأستاذ، وتُفقِده الثقة فيه"، تقول سميرة التناني لـTRTعربي.

التلميذ.. الخاسر الأكبر

المعركةُ الحامية بين المدرّسين والدولة المغربية، جعلت قطاع التعليم يعيش أزمةً متفاقمة. فقد تجاوزت الإضرابات أسبوعها الرابع، وهو يُعادل هدرَ زمنٍ مدرسي هامّ، قد يؤثّر لاحقاً على التلاميذ، خاصّةً المقبلون منهم على الامتحانات.

في هذا السّياق، يؤكد عضو التنسيقية الجهوية للأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، لـTRT عربي أنّ "التلاميذ هم العنصر المتضرّر بالدرجة الأولى ممّا وقع، خاصّةً في المجال القروي، حيث يوجدُ أكبر عددٍ من المدرّسين الذي فُرض عليهم التعاقد، وهناك مؤسسات مُغلقة لأزيد من أربعة أسابيع بسبب الإضرابات".

من جهته، قال وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي سعيد أمزازي، في ندوةٍ صحفية عُقِدت نهاية مارس الماضي، إنّه يُطمئنُ آباء وأمهات وأولياء التلاميذ أنّ "الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين اتخذت جميع الإجراءات والتدابير اللازمة لتأمين الزمن المدرسي المقرّر، وتعويض ساعات الدراسة الضائعة".

حقوق المدرّسين.. أيّ ضمانات؟

في 27 من مارس الماضي، عقدت وزارتا التعليم والاتصال ندوةً صحفية لإطلاع الرأي العام على مستجدّات ملف المدرّسين المتعاقدين وأطر الأكاديميات الجهوية للتربية والتعليم، وعلى إثره، أصدرتا بلاغاً اعتبرتا فيه أنه "لم يعد هناك أي مجال للحديث عن التوظيف بالتعاقد، إذ تمّ التخلّي نهائياً عن هذا النمط من التوظيف، بعد اعتماد التعديلات المقترح إدخالها على النظام الأساسي لأطر الأكاديميات".

هذه التعديلات، حسب الوزارتين، تشملُ كلّ المقتضيات الضامنة للاستقرار المهني والأمن الوظيفي لهذه الأطر، خاصّةً تلك المتعلّقة بالترسيم مع الاحتفاظ بالأقدمية المكتسبة بالأكاديمية، وبالحقّ في الترقية، والحقّ في التقاعد بعد الإصابة بمرض خطير، إضافةً إلى ضمان الحركة الانتقالية الجهوية، وغيرها من المقتضيات القانونية التي تسري على جميع موظّفي الإدارات العمومية.

لكنّ هذه التعديلات تبقى مجرّد حبرٍ على ورق، ما دامت الحكومة لم تقدّم بعدُ ضماناتٍ للمدرّسين المتعاقدين وأطر الأكاديميات على تطبيقها. لذلك، يصرّ هؤلاء على الاستمرار في الاحتجاج.

في هذا السياق، تؤكد سميرة التناني أنّ "الحكومة عندما ترى احتجاجاتٍ ناجحة تحاول الالتفاف عليها وامتصاص الغضب، ولم تقدّم أي ضماناتٍ حقيقية، والدليل على ذلك هو تصريح وزير التربية الوطنية الذي هدّد المدرّسين المحتجّين بالطرد".

من جانبه، يرى محمّد مجاط أنّ "هذه التنازلات غير مجدية، لأنّ الحلّ الوحيد الذي سيجعل المدرّسين يتوقّفون عن الاحتجاج هو الإدماج في الوظيفة العمومية".

يصرّ المدرّسون المتعاقدون إذن على البقاء في ساحةِ الاحتجاج، إلى أن يتحقّق مطلبهم في الإدماج في الوظيفة العمومية. وتصرّ الدولة على التمسّك بموقفها وسياساتها التي قد تفشلُ مرّةً أخرى كسابقاتِها. بينما يظلّ التلميذُ المغربي بين هذين النارين، ضائعاً، باحثاً عن جوابٍ حول مستقبلِه المضبّب، محترقاً بالسّؤال عن مصير المدرسة العمومية.

محاولة تفريق مسيرة احتجاجية للمدرسين المتعاقدين بالمغرب (AP)
مظاهرة للمدرّسين المتعاقدين قرب البرلمان المغربي (AP)
مدرّسات مغربيات ضد التوظيف بالتعاقد (AP)
مظاهرة للمدرسين المتعاقدين بالمغرب  (AP)
TRT عربي