تابعنا
أياً كان المُسبِّب المباشر للانفجار المميت الذي وقع في العاصمة اللبنانية بيروت، فإن السبب هو إهمالٌ إجرامي ونظامٌ فاسدٌ شيَّدَته وحافظت عليه النخبة السياسية في البلاد.

ولَّدَ الانفجار الهائل الذي دمَّر بيروت موجةً من التخمينات الجامحة، داخل لبنان وخارجه على السواء، لأسباب الانفجار وعواقبه المُحتَمَلة. وفي حين أن هذا أمرٌ مفهوم، بالنظر إلى الديناميات السياسية المُعقَّدة الجارية في البلاد، فإن السرعة التي انتشرت بها بعض النظريات، حتى مع تناقضها مع الحقائق الواضحة، بدت مدفوعةً بأجندات سياسية حزبية، مثل الكثير من الأشياء الأخرى في لبنان.

دارت الشكوك الفورية المباشرة حول ضربةٍ إسرائيليةٍ ضد أصول حزب الله، وهو أمرٌ مفهوم بالأخذ في الاعتبار التصاعد الأخير في التوتُّرات على طول الحدود الجنوبية و"الخطر" الشامل لحربٍ بين إسرائيل وحزب الله.

سارَعَ كلٌّ من حزب الله وإسرائيل لإنكار أيِّ تورُّطٍ في الأمر، حتى أن وزراء إسرائيليين عرضوا بوقاحةٍ إرسال مساعداتٍ إلى بلدٍ هدَّدوه مراراً بقصفه وتدميره حتى يعود إلى العصر الحجري.

على أيَّةِ حال، سرعان ما صار من الواضح، في أعقاب الانفجار مباشرةً، أن لا إسرائيل ولا حزب الله يسعيان لاستغلال المأساة من أجل تبرير التصعيد.

كان المسؤولون اللبنانيون أكثر صراحةً في تفسيراتهم. فبعد وقتٍ قصيرٍ من الانفجار، قال اللواء عباس إبراهيم، المدير العام للأمن العام في لبنان، إن الانفجار كان بسبب حريقٍ في مستودعٍ يُخزِّن 2750 طناً من مادةٍ شديدة الانفجار، تشمل نيترات الأمونيوم، وصودِرَت "في وقتٍ سابق".

وأضاف رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب إلى هذه القصة بأن أخبَرَ المواطنين المنكوبين أن المادة المُتفجِّرة الخطيرة كانت مُخزَّنة بطريقةٍ وَصَفَها أنها "غير آمنة" منذ العام 2014.

وقال وزير الداخلية اللبناني محمد فهمي إن على الشعب اللبناني أن يسأل الجمارك عن السبب وراء وجود هذه الكمية الكبيرة من نيترات الأمونيوم في المرفأ في المقام الأول.

ومع مرور الوقت، ظهرت قصة سفينةٍ تحمل علم مولدوفا كانت تبحر من جورجيا، ويُزعَم أنها كانت مُتَّجِهةً إلى موزمبيق، في عام 2014، وكانت تحمل 2750 طناً من مادةٍ شديدة الانفجار صادرتها السلطات اللبنانية بعدما توقَّفَت السفينة بشكلٍ غير مُتوقَّع في مرفأ لبنان لأسبابٍ لا تزال غير واضحة.

اقرأ أيضاً:

لماذا خُزِّنَت المادة في ذلك المكان، ومن كان بإمكانه الوصول إليها، ولماذا ظلَّت طيلة هذا الوقت -كلُّ تلك أسئلةٌ لا إجابة لها. تُظهِر رسالةٌ غير مُوثَّقة تعود إلى العام 2017، ونشرها أحد مُحلِّلي شؤون الشرق الأوسط على منصة تويتر، وأُفيدَ أنها من مديرٍ عام في الجمارك اللبنانية، أن الجمارك سألت قاضياً عمَّا يتعيَّن فعله بهذه النيترات القابعة في المرفأ، وطرحت أنه ينبغي بيعها أو تصديرها.

غير أنه سواء كان هذا الحدث المُدمِّر نتيجة مؤامرة داخلية خبيثة، أو عملية إسرائيلية، أو عدم كفاءة وتجاهلاً إجرامياّ، ستكون النتيجة هي نفسها في نهاية المطاف: المزيد من المعاناة للشعب اللبناني الذي يواجه بالفعل وضعاً اقتصادياً مُدمِّراً، وبيئةً سياسيةً يائسة، وتفشياً أسوأ لفيروس كوفيد-19.

تأثير الدومينو

ما يبدو أنه خسارةٌ كاملةٌ لمرفأ بيروت، للأسف، هو فقط البداية لما يُحتَمَل أن يكون أياماً أكثر قتامة أمام بلدٍ بدأ بالفعل يشعر بوشوك النهاية.

ستفاقم الخسارة الفعلية للمرفأ الرئيسي الوحيد في لبنان، الذي يحتوي أيضاً مخازن بيروت الأساسية من القمح والحبوب، من مشكلات الأمن الغذائي التي تواجه البلد في المدى القصير إلى المتوسط. وفي ظلِّ الأزمة الاقتصادية الأسوأ في تاريخ البلد، يواجه الكثير من اللبنانيين بالفعل عجزاً متفشياً في الغذاء والوقود. وعلاوة على ذلك، وفي القلب من تفشي فيروس كورونا المُستجَد الذي يزداد سوءاً، يواجه العاملون بالرعاية الصحية أيضاً نقصاً في الإمدادات الطبية الأساسية.

وكما لو أن كلَّ ذلك ليس كفايةً، يعيش 50% من سُكَّان لبنان حالياً على خط الفقر أو تحته، وهي نسبةٌ من المُرجَّح أن تزيد إن لم تُدشَّن إصلاحاتٌ جوهرية وخطة إنقاذ اقتصادية مُصاحبة لها.

بعبارةٍ أخرى، فإن الدمار الأوَّلي الذي لحق بالممتلكات والأرواح من جرَّاء الانفجار ليس سوى البداية، أو ربما بالأحرى هو الدَفعَة النهائية لسقوط ما تبقى في البلاد من قطع دومينو بوتيرةٍ أسرع مِمَّا كانت عليه.

كانت مها يحيى، مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، قد ذَكَرَت قبل الانفجار مباشرةً:

اقرأ أيضاً:

"يمكن التعامل مع مشكلات لبنان فقط إذا وَضَعَ قادته السياسيون المصالح طويلة المدى له، ولهم، فوق المكاسب قصيرة الأمد. وهذا يعني الاتفاق على تحمُّل بعض الخسائر الناجمة عن الأزمة وتنصيب حكومةٍ قادرة على تصوُّر وتنفيذ برنامج استقرار فوري، وبرنامج انتعاش متوسِّط إلى طويل الأمد. لكن حتى الآن، لا يبدو أن هذه أولوياتٌ للقيادة السياسية في لبنان".

والواقع أن أولويات القيادة السياسية في لبنان ليست معنيةً بأكثر من الحفاظ على مجالات النفوذ الخاصة بها، والتي حُدِّدَت باتفاقٍ لتقاسم السلطة بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، والمثير للسخرية أن هذا الاتفاق هو نفسه سبب زوال هذه القيادة السياسية.

ومنذ أن اندلعت الاحتجاجات في عموم البلاد البلاد في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، انخَرَطَت القيادة السياسية في لبنان في أحد الأنشطة التي لا تجيد إلا إياها؛ وهو لعب السياسة على حساب مصلحة اللبنانيين.

من استخدام الطائفية كسلاح، إلى تجنُّب اللوم على الوضع المالي في البلاد، من الصعب أن نتوصَّل إلى أيِّ استنتاجٍ آخر غير أن الطبقة السياسية التي نَهَضَت من رماد الحرب الأهلية اللبنانية لا مصلحة لها في إنشاء دولة قابلة للحياة.

من شأن هذا الانفجار، الذي وَقَعَ في ظلِّ جائحةٍ تزداد سوءاً وانهيار اقتصادي متواصل، أن يفرض تحدياً حتى على أكثر الدول كفاءةً، ناهيكم عن دولةٍ ذات قياداتٍ يبدو أنهم غير مهتمين أو غير قادرين على بلوغ أدنى مستوى من الكفاءة الحكومية.

في حالةٍ مأساويةٍ أخرى، تغدو النقطة المضيئة الوحيدة التي قد تنجم عن ذلك هي أن المعنيين في المجتمع الدولي قد يأتون أخيراً إلى طاولة المفاوضات بعروض مساعدة حقيقية وجوهرية للشعب اللبناني.

عَرَضَت العديد من البلدان، بما فيها تركيا وكندا وقطر وفرنسا، المساعدة الطارئة. هذه خطوةٌ جيِّدة، غير أنه لابد من أن تُتبَع بمشاركةٍ أساسيةٍ وأكثر استدامة.

يتمثَّل أحد أكبر التحديات في الوضع الإقليمي المُعقَّد الذي لطالما صَبَغَ السياسة في البلاد. هذه حقيقةٌ لا مفر منها، ولابد على الدول التي تسعى للتعامل مع لبنان أن تتعلَّم تجنيب مصالحها خشية أن تنجرف في الفيلم السياسي القديم نفسه الذي يُعاد مراراً منذ نهاية الحرب الأهلية.

ويتمثَّل تحدٍ آخر في العثور على شركاء مناسبين داخل المؤسَّسات القائمة يهتمون حقاً بالتعامل مع التحديات الكثيرة أمام لبنان والمشاركة في إعادة رسم ما يمكن أن يكون عليه مستقبل البلد.

إن لم يجر ذلك، ستنزلق البلاد بلا شك وبصورةٍ أعمق في الأزمة، وقد تثبت جيِّداً صحة تصوُّر من يرون أن الأيام الأكثر قتامة لا تزال قادمة.

TRT عربي
الأكثر تداولاً