الصين تسيطر على الموانئ البحرية من البرازيل وحتى إسرائيل ضمن مبادرة الحزام والطريق (TRT Arabi)
تابعنا

بوابات البلاد البحرية تصبح جزءاً محورياً من مبادرة الحزام والطريق، المعروفة بطريق الحرير، المشروع الصيني الذي يضم الآن 42 ميناءً في 34 دولة حول العالم، استولت من خلاله الصين على موانئ البلاد البحرية من سريلانكا إلى تنزانيا ومن البرازيل إلى اليونان، ومن جيبوتي إلى إسرائيل.

خلال السنوات الماضية، استطاعت الصين شراء أكبر قدر من الحصص في الموانئ والممرات المائية، مثل امتلاكها 35% من شركة يوروماكس، الشركة التي تدير ميناء روتردام في هولندا، أكبر الموانئ الأوروبية على الإطلاق، وسيطرتها على 90% من أكثر الموانئ المربحة في البرازيل، ولكن هل الهدف من سيطرة الصين على هذه الموانئ تجاري محض؟

ما بين الضغط على الدول اقتصادياً وإغراق البلاد النامية في الديون، والرغبة الملحة في الحصول على أسرار التقدم التكنولوجي ونقل المعرفة التكنولوجية إليها، وبين أهداف مستقبلية قد تحوّل بوابات البلاد البحرية إلى ثكنات عسكرية، تنجح الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق أن تحيي وجودها الإستراتيجي حول العالم وتهيمن على البحار والمحيطات لأغراض مختلفة.

تخوض الصين الآن معركة غير مُسلحة، يكون الضغط الاقتصادي والتكنولوجي فيها هو سلاحها، وتراها واشنطن جزءاً من سياسة خارجية إمبريالية جديدة، وجدت لها منفذاً في عدة موانئ حول العالم، فهل هي فعلاً سياسة جديدة؟

  • القتل بالسيف أو الديون.. الصين تختار الديون

مشروع ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، المشروع الذي أٌجمع على فشله من أطراف مستثمرة مختلفة، من بينها الحكومة الهندية التي رفضت إقراض سريلانكا المزيد من الدولارات لتشغيله، يصبح في النهاية ملكاً للصين بعد زيادة عبء الديون على سريلانكا وعدم قدرتها على سداد الأموال لشركة China Harbor Engineering، أكبر الشركات الحكومية الصينية.

نقل الملكية من حكومة سريلانكا إلى الصين أزاح عبء مليار دولار أمريكي من ديون سريلانكا إلى الصين، إلا أنه لا يزال يترك الأولى مديونة للحكومة الصينية كما لم تكن من قبل في تاريخها.

ميناء هامبانتوتا ساعد أن يصبح للصين موطئ قدم في ممر مائي إستراتيجي ليس فقط من الناحية التجارية بل العسكرية أيضاً بالقرب من منافس لها، الهند، ولمدة 99 عاماً، وهو ما أكده مسؤولون من سريلانكا؛ أن الإمكانيات الإستراتيجية والاستخباراتية للميناء كانت جزءاً من المفاوضات مع الجانب الصيني.

سيطرة الصين على هذا الميناء أثار نقاشاً حول استخدام الصين سياسة إثقال البلاد النامية بالديون ومن ثم إيقاعها في فخ عدم القدرة على السداد لتحصل الصين في النهاية على بوابات تلك البلاد البحرية لأجل طويل، وهو ما يُعرف بمصطلح القاتل الاقتصادي أو Economic Hitman، أو سياسة الإغراق بالديون كما وصفها مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي.

في حديثه لـTRT عربي يقول ناصر قلاوون، أستاذ الاقتصاد السياسي في لندن، بأن تجربة الدول الكبرى في السيطرة من خلال الاقتصاد ليست مُستجدة، لقد فعلتها بريطانيا في الهند، والولايات المتحدة مع اليابان من قبل، وتابع بأن الدول الغربية قد غضت الطرف عن الصين لمدة طويلة، بينما كانت الأخيرة تستعد أن يكون لها قدرة مالية واقتصادية ورؤية مستقبلية تُرجمت فيما بعد إلى مبادرة الحزام والطريق.

يتابع ناصر قلاوون في حديثه أن طريق الحرير هو مبادرة تعود لعقدين من الزمان للوراء، وخطة الصين لاستثمار أكثر من تريليون دولار في عشرات البلاد حول العالم سواء كان من خلال موانئها البحرية أو السكك الحديد، ولكن ما قلب المعادلة الآن هو الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي اختار منذ دخوله البيت الأبيض أن يواجه الصين مباشرة بدلاً من الاعتماد على المنظمات الدولية لتسوية النزاع، وحوّل القضية إلى صراع بين الاقتصاد الأقوى وثاني اقتصاد في العالم.

لم تستهدف الصين سريلانكا فحسب ضمن سياسة "القتل الاقتصادي" أو الإثقال بالديون، لقد استهدفت بلاداً نامية في إفريقيا وأوقعتها في فخ "الفيل الأبيض" كما يميل خبراء الاقتصاد أن يصِفوه، ويعني الوقوع في فخ الاقتراض من أجل مشروعات اقتصادية غير مجدية على أرض الواقع وعدم القدرة على السداد فيما بعد، فتجبرك الحكومة المانحة على إخضاع مواردك الأساسية أو البوابات البحرية أو البرية لها.

الجانب الأمريكي يريد أن يروّج لمبادرة الحزام والطريق على أنها حصان طروادة الذي تستخدمه الصين في تنفيذ مشاريعها التنموية وتمددها العسكري، بينما تحاول الصين التركيز على أن مبادرتها سلمية للغاية

فادي فراسين، باحث ومحلل سياسي

ميناء مومباسا، في كينيا، يواجه المصير نفسه أيضاً؛ فقد تضع الصين يدها عليه هو الآخر وسط صعوبة تسديد الحكومة الكينية الديون المتراكمة عليها بعد اقتراضها ما يقرب من ملياري يورو لتنفيذ مشروع سكة حديد.

حول سياسة الإغراق بالديون يقول أستاذ الاقتصاد السياسي ناصر قلاوون لـTRT عربي إن الصين لا تستهدف الإغراق بالديون بشكل مباشر، وإنما يكون استثمار الصين في الدول النامية خارج نطاق صندوق النقد الدولي، وبالتالي حينما تصبح البلاد المديونة غير قادرة على السداد يٌترجم نفوذ الصين فيها فيما بعد بالتبعية التي قد تتحول لاحقاً إلى أجندة سياسية.

ميناء حيفا مقابل نقل المعرفة التكنولوجية

الصين ترسو الآن على ميناء حيفا، أهم ميناء في إسرائيل، وأحد أهم موانئ الشرق الأوسط، وتبدأ في تشغيل الميناء لمدة 25 عاماً تبدأ مع حلول عام 2021، ضمن خطة توسّعها في تشغيل الموانئ والاستيلاء عليها من أجل تنفيذ طريقها الذي يربطها بالجنوب الآسيوي، أوروبا عبر القطب الشمالي، المحيط الهندي وأفريقيا والبحر المتوسط.

لم يثِر استيلاء الصين على ميناء حيفا، أكبر الموانئ الإسرائيلية وأكثرها ازدحاماً، القلق فحسب على المستوى الداخلي، بل زاد أيضاً من الاهتمام الدولي بأهداف الصين من مبادرة الطريق والحزام التي قد تتجاوز كونها مجرد تجارية وتمتد إلى احتمالات تعزيز سيادتها عسكرياً وتكنولوجياً.

ميناء حيفا من أكثر المواقع إستراتيجيةً بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، يحتوي على قاعدة الأسطول البحري الإسرائيلي، ويقابله مباشرة الأسطول البحري الأمريكي السادس، الأمر الذي أثار قلق مسؤولين في الأمن الإسرائيلي، رفضوا الكشف عن هوياتهم، بأن سيطرة شركة حكومية صينية على ميناء كهذا يزيد من احتمالية التجسس طويل الأمد على كل من الأسطول الإسرائيلي والأمريكي.

"إسرائيل هي شريكة الصين في الإبداع والابتكار"، قالها الرئيس الصيني في قمة الإبداع الذي جمعته برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بكين منذ عامين، نتنياهو أكد ذلك مرة أخرى في قمة الإبداع التي جمعته في تل أبيب مع نائب الرئيس الصيني وانغ تشي شان قبل بضعة أشهر والتي صرح فيها بأن "السلام لا ينفصل عن الإبداع والابتكار".

وجدت الصين إسرائيلَ بؤرةً للابتكار التكنولوجي في الشرق الأوسط، وهو ما حفّز استثمارها ملايين الدولارات في مشروعات البنية التحتية فيها، وعلى الرغم من الترحيب الإسرائيلي الرسمي باستيلاء شركات صينية على مشاريع البنية التحتية الأكثر إستراتيجية في إسرائيل، كانت هناك تخوفات من انتقال المعرفة التكنولوجية know-how من الإسرائيليين إلي الصينيين، وخصوصاً تلك المرتبطة بالأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.

كما اعتبرها الجانب الإسرائيلي زيارة نوعية في أهدافها؛ حيث أكد الجانب الصيني من طرفه أن الصين متحمسة أن تتعلم من إسرائيل في مجال التكنولوجيا، الأمر الذي حذرت منه واشنطن بشكل غير رسمي من احتمالية استغلال الصين سيطرتها على مشاريع البنية التحتية الإستراتيجية، من بينها مشروع ميناء حيفا، لكي تُجبر الشركات فيما بعد على نقل المعرفة التكنولوجية لها أو على الأقل للعاملين في تلك المشاريع.

في حديثه لـTRT عربي يقول الباحث والمحلل السياسي فادي فراسين، إن مشروع الحزام والطريق مشروع متعدد الجوانب وأهدافه تتعدى، بالتأكيد، الأهداف التجارية وتتضمن نزعات دبلوماسية وجيوسياسية.

يتابع فراسين أن الصين ابتعدت عن التزام سياسة خارجية هجومية لمدة طويلة، واتبعت ما هو معروف بـ"نظرية دينغ شياو بينغ" أو نظرية "دينغ" التي تنص على الآتي، "لا تُظهر قوتك، واكسب الوقت"، إلا أن هذا كله تغيّر ونجد الآن ظهوراً إستراتيجياً للصين يفرض وجوده على الساحة السياسية ويغيّر الأعراف الدولية.

نظرية دينغ تتنبأ بسيطرة الصين الاقتصادية والسياسية على العالم بعد نصف قرن من الزمان، النبوءة التي تنبأ بها دينغ شياو بينغ، قائد جمهورية الصين الشعبية، منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث ينتهي نصف القرن المذكور عام 2028.

التجارة أولاً ثم العسكرة؟

نجحت الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق خلال السنوات الماضية أن تُحيي وجودها الإستراتيجي حول العالم، لتهيمن على البحار والمحيطات لأغراض مختلفة، وهو ما أثار القلق حول نية الصين تحويل تلك الموانئ المُسيطر عليها إلى ثكنات عسكرية.

ميناء غوادر الباكستاني يمنح الصين ورقة لعب إستراتيجية ضد الهند والولايات المتحدة إذا ما تفاقم التوتر إلى حد الحصار البحري.

فادي فراسين، باحث ومحلل سياسي

ميناء غوادر في باكستان هو أسهل الطرق البحرية لكي يكون للصين وجود إستراتيجي يطل على المحيط الهندي إضافة إلى بحر العرب، والهدف من الاستيلاء عليه في الأساس كان من أجل إنشاء منطقة اقتصادية تنافس دبي بشكل أساسي من حيث التأثير الاقتصادي لها في المنطقة، وهو ما يوصف بـ"الحرب الاقتصادية الصامتة" بين الإمارات والصين.

موانئ أم ثكنات عسكرية؟ 

"بروباغندا غربية"، هكذا وصفت الصين مزاعم الولايات المتحدة بخصوص أهداف الصين العسكرية من مبادرة الحزام والطريق، وأكدت سلمية المشروع وأهدافه التجارية، إلا أن صحيفة نيويورك تايمز كشفت الطموحات العسكرية للصين، بحسب ما ورد في تقريرها، وتحويلها مخططاً تنموياً يبدأ بـ800 مليون دولار على ميناء غوادر قد يتحول فيما بعد، كما تزعم الصحيفة الأمريكية، إلى قاعدة غواصات هجومية وقاعدة الصين العسكرية في المحيط الهندي.

يتابع المحلل السياسي فادي فراسين لـTRT عربي أن الولايات المتحدة تريد الترويج لمشروع الحزام والطريق على أنه حصان طروادة الذي تستخدمه الصين في تنفيذ مشاريعها التنموية وتمدُّدها العسكري، بينما تحاول الصين التركيز على أن مبادرتها سلمية للغاية، ولكن، بحسب اعتقاد فراسين، فإن حقيقة الأمر تقع في مكان ما بين الزعم الأمريكي وسلمية الصين.

وبحسب المحلل السياسي فراسين فإن الشبكة اللوجيستية للصين في أنحاء المحيط الهندي- الهادئ بما في ذلك الموانئ البحرية هناك، منها ميناء غوادر الباكستاني على سبيل المثال، من شأنه أن يغير خارطة المنطقة الإستراتيجية، بحيث يعطي الصين ورقة لعب إستراتيجية ضد الهند والولايات المتحدة إذا ما تفاقم التوتر إلى حد الحصار البحري.

مزاعم الثكنات العسكرية الصينية امتدت أيضاً إلى القرن الأفريقي؛ فنفوذ الصين المتسارع امتد إلى البحر الأحمر وخليج عدن، في ظل صراع بين الإمارات والصين تفوز به الأخيرة في السيطرة على موانئ القرن الإفريقي، بعد أن بدأت الصين في منتصف يوليو/تموز الماضي في إنشاء منطقة تجارية حرة في محطة حاويات دوراليه على سواحل جيبوتي، التي من المزمع أن تكون الأولى من نوعها في إفريقيا.

رؤية الصين المستقبلية في السيطرة على اقتصاد العالم ترجمتها في مبادرة الحزام والطريق، تجسدت فيها نزعة الصين الإسترتيجية التي قد تتحول لنزعة عسكرية

ناصر قلاوون، أستاذ الاقتصاد السياسي في لندن

لموقع القرن الأفريقي أهمية إستراتيجية لكل من رغب في فرض نفوذه في المنطقة، للولايات المتحدة منشأة عسكرية بالقرب من الميناء في جيبوتي، تراقب بها الملاحة البحرية المرتبطة بالشرق الأوسط، كما تمتلك الصين هي الأخرى قاعدة عسكرية في جيبوتي.

يقول أستاذ الاقتصاد السياسي ناصر قلاوون في حديثه إلى TRT عربي إن الصين الآن قوة إقليمية وليست دولية كما هو الحال في الولايات المتحدة وروسيا، إلا أن لديها نزعة إستراتيجية قد تتحول لنزعة عسكرية قد تجسدها الصين في مبادرة الحزام والطريق أو "صنع في الصين 2025".

فهل كان مهاتير محمد، الرئيس الماليزي مُحقاً حينما رفض عرضاً قُدر بـ23 مليار دولار، ضمن المبادرة الصينية في مشروع الحزام والطريق وقال بأن الصين تتفاوض خلال مبادرتها على صفقات غير متوازنة؟ ما فعله الرئيس الماليزي مثّل أول رفض من دولة في الجنوب الآسيوي للمبادرة الصينية، فهل سيكون هذا الرفض هو الأخير؟

سفينة شحن تسير في ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، أكثر الموانئ البحرية ازدحاماً
نائب الرئيس الصيني وانغ تشي شان أثناء لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تل أبيب في معرض للابتكار بوزارة الخارجية الإسرائيلية (Reuters)
لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مع نظيره الصيني شي جبيغ بينغ (AFP)
ميناء غوادر في باكستان  (Reuters)
رئيس غينيا الاستوائية تيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو  يصافح الرئيس الصيني شي جين بينغ قبل اجتماعهما الثنائي في بكين سبتمبر/أيلول 2018 (AFP)
TRT عربي - وكالات