فرنسا تعتبر هجوم ليون محاولة قتل عمد (AA)
تابعنا

"مونجوا! سان دوني" هي الكلمات الأخيرة التي سمعتها الأذن اليسرى للرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، بعد أن أصابتها صفعة خاطفة من يد قائلها أصابت الأذن بصمم لحظي، فيما هذه الكلمات وحدها كفيلة وبشكل مضبوط بأن تحدّد الهوية الآيديولوجية لمرتكب عمليَّة الصفع تلك على وجه رئيس الجمهورية، ومنذ لحظة نطقها برز الانتماء إلى حركات أقصى اليمين الملكيَّة. كيف ذلك؟ وهل لا تزال بفرنسا حركات ملكيَّة؟

"مونجوا! سان دوني" ماذا تعني؟

عشاق مسلسل "فايغكنغز" الشهير يتذكّرون هذه اللقطة، لحظة الغزو الأول الذي قاده راغنار لوثبروغ على باريس، وفي أثناء هجوم الغزاة الشماليين على العاصمة ارتقت الأميرة الفرنسية "جيسلا" أسوارها حاملة راية حمراء عليها ألسنة لهب ذهبية، صارخة في الجنود المرابطين: "هذه راية أوريفلام (الشعلة الذَّهبيَّة) المقدَّسة مخضبة بدماء القديس سان دوني، من أجلها دافعوا عن مدينتكم!"، لتنقلب إثرها موازين المعركة لصالح الفرنسيين، بعدَ أن دبَّت حماسة هستيريَّة في الجنود.

هذا التأثير الملحمي للراية الذي ركَّز مخرج المسلسل على رصده هو في الواقع حقيقي، إذ كان ظهور الراية كفيلاً بقلب مسارة معركة كمعركة بوفين (القرن 13)، لصالح الجيش الفرنسي بـ7000 مقاتل، ضد عدوِّهم الذي بلغ تعداده 9000. هذه الراية التي تُدعى كذلك باسم "مونجوَا"، يعود تأثيرها في معنويات الجنود الفرنسيين إلى الوازع الديني، فالقديس سان دوني هو راعي المملكة الفرنسيَّة، وصرخة “مونجوا! سان دوني!" تأخذ معناها: إننا نحارب من أجل الراية المقدَّسة "مونجوَا" والقديس سان دوني!

فيما تؤشر عودتها على لسان من صفع الرئيس ماكرون، في حادثة مطلع الأسبوع الماضي، إلى انتمائه إلى حركات النزعة الملكية في فرنسا، وهي حركات في أغلبها يمينية متطرِّفة، تدعوا إلى عودة الملكيَّة في فرنسا بعد أن سقطت آخرها إثرَ ثورة 1848، ونذكر منها:

حركة العمل الفرنسي

هي إحدى أبرز الحركات الملكية الفرنسية التي لا تزال نشطة إلى يومنا هذا، وأعرقها، إذ يعود تأسيسها إلى نهاية القرن 19م. وتتبع آيديولوجيّاً أفكار منظِّرها شارلز مورا (1868-1952م)، الذي يؤمن بضرورة قلب نظام الحكم الفرنسي عبرَ انقلاب عسكري، وإعادة الملكيَّة إلى رأس السلطة في البلاد.

هذه الحركة تُحسَب على أقصى اليمين السياسي الفرنسي، والمفاجأة أن وزير الداخلية الحالي جيرالد دارمانان ترعرع في تنظيمها الشبيبي، إذ لا غرابة في حمله الآن أفكاراً متطرِّفة وتضييقه على المسلمين وعلى باقي الأقليات الأخرى، واتهامه بالخيانة اليسارَ الفرنسي المناضل ضد عنصرية اليمين المتصاعد. في المقابل قال دارمانان نفسه الذي دافع جهراً في لقاء تليفزيوني، عن حركة العمل الفرنسي العنيفة: "إنه من صلب الديموقراطية أن نتقبل وجود حركة كحركة العمل الفرنسي".

الرابطة الملكيَّة الفرنسيَّة

هي تكتُّل انتخابي فرنسي ملكي أسسه الكاتب إيف ماري أدلين سنة 2001، وترأسها حتى حدود 2008، وتعد الرابطة تياراً سياسياً ذا تأثير ضيِّق مقارنة بحركة العمل الفرنسي، وعكسها لا تؤمن بالعمل المسلَّح لإسقاط الجمهوريَّة، بل انطلاقاً من العمل السياسي، بل ونظام الحكم الذي تنادي به هو: ملكيَّة دستوريَّة تقوم على تبنِّي دستور الجمهوريَّة الخامسة. فيما كان أبرز تحرُّك لها ترشيحها لائحة في الانتخابات الأوروبيَّة، كما قدَّمت مرشحاً للانتخابات الرئاسية السابقة فشل كلاهما في تحقيق النصاب لدخول المعترك الانتخابي، أما في التشريعيات فقدمت لائحة كذلك بـ34 مرشحاً لم تحصل بها على أي مقعد برلماني.

الرجعيون الجدد في فرنسا

من نظريات المؤامرة الشهيرة التي يقودها أبواق اليمين المتطرف الفرنسي، مثل الصحفي إريك زيمور، نظرية تقول إن المهاجرين يتآمرون مع قوى خارجيَّة لتحقيق التحول الكبير في فرنسا، وقلبها إلى دولة إسلامية بالضغط الديموغرافي كما يدَّعون، وبالتنظيمات ذات الصبغة الدينية الإسلامية. هي أشبه إلى حد التطابق بنظريَّة Qanon التي تنتشر في أمريكا، والتي قاد أتباعها أحداث عنف اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي.

فرنسا هي الأخرى عرفت تفشي أتباع Qanon على أراضيها، ذلك ما رصدته صحيفة Le Figaro في فبراير/شباط الماضي، كما وصفته وزيرة المواطنة الفرنسية مارلين شيابا، في لقاء تلفزيوني: "إنها ظاهرة مقلقة، وتتفشى بشكل متسارع على التراب الفرنسي".

فيما الأصول الفكريَّة التي يبني عليها دعاة هذه النظريَّة توجههم تَدين من جهة لتيار "التسريعية" القائل بدفعِ نمط الإنتاج الرأسمالي إلى أقصى مداه من أجل انتقال البشرية إلى طور تاريخي آخرَ ما بعدَ هذا النمط من الإنتاج. وقد ظهرَت هذه النظريّة خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، وأحدُ آبائها هو المنظّر البريطاني نيك لاند. هذا الأخير الذي يكنّ إعجاباً بنموذج الديكتاتورية المرقمنة في الصين، يعتبر في كتابه "التنوير المظلم" أن النظام السياسي الأمثل للبشرية هو دكتاتورية رجال الأعمال.

كما تدين لأعمال المستثمر والمنظّر الأمريكي إيرفن كورتيس، مؤسس تيار "الرجعية الجديدة" الذي تتبناه الحركات العنصرية البيضاء في أمريكا والعالم، وينفّذ باسمه إرهابيوها عملياتهم ضدَ الملونين والمسلمين واليهود والأقليات الجنسية. ويتبنى هذا التيارُ موقفاً مناهضاً للديمقراطية وداعياً إلى الرجوع إلى أنماط حكم قروسطية كالملكيات السلطوية، كما يؤمن بالتفوق العرقي وتقييد الأدوار الجندرية داخل المجتمع.

TRT عربي