مناورات عسكرية روسية في البحر الأسود (Reuters)
تابعنا

شهدت الأيام الأخيرة تصاعداً في حدة التوتر داخل مياه البحر الأسود بين روسيا من طرف والدول الغربية الداعمة لأوكرانيا من طرف آخر، الأمر الذي ولَّد خشية حدوث صراع عسكري كبير في البحر الذي يعمه السلام منذ عقود طويلة قد يجر المنطقة والعالم بأسرة إلى حرب عالمية جديدة.

وأعاد تصدي البحرية الروسية للمدمرة البريطانية في المياه الإقليمية لشبه جزيرة القرم الخميس 24 يونيو/حزيران الجاري، الصراع الروسي الأوكراني إلى الواجهة مجدداً، حيث ترفض أوكرانيا ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) ما قمت به روسيا من احتلال لشبه جزيرة القرم ومن ثم ضمها للأراضي الروسية عام 2014، فضلاً عن استيائها من الأعمال الاستفزازية التي تقوم بها روسيا على الحدود الشرقية لأوكرانيا.

ورداً على إرسال الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية لسفن ومدمرات عسكرية إلى البحر الأسود من أجل المشاركة بتدريبات بحرية مع أوكرانيا قال نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو أمام مؤتمر موسكو للأمن: "لا يسعنا إلا أن نشعر بالقلق من أن حلف الناتو يعمل باستمرار على تعزيز وجوده العسكري على طول حدودنا، ويزيد في عدد الدوريات الجوية والتدريبات ودخول سفنه البحرية البحرَ الأسود وبحرَ البلطيق"، وأضاف أن "المناطق الهادئة عسكرياً مثل بحر البلطيق والبحر الأسود تتحوّل نتيجةً لهذا النشاط إلى ساحة مواجهة عسكرية لا داعي لها على الإطلاق".

توتر متصاعد

منذ اشتعال التوتر بين روسيا وأوكرانيا على الحدود الشرقية لأوكرانيا عام 2014 وما تبعه من احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم وضمها لأراضيها أصبح البحر الأسود مسرحاً لاستعراض القوة العسكرية وتحوَّل إلى ساحة صراع جديدة بين روسيا من جهة وأوكرانيا المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية من جهة أخرى، فبدأت روسيا جلب سفنها العسكرية المبعثرة ببحرَي الشمال والبلطيق وحشدها في البحر الأسود مقابل شبه جزيرة القرم، فيما أرسلت البحريتين الأمريكية والبريطانية سفناً عسكرية إلى البحر الأسود من أجل إجراء تدريبات ومناورات مع البحرية الأوكرانية.

ويوم الخميس 24 يونيو/حزيران الجاري وصل التوتر إلى حافة الانفجار، إذ أعلنت موسكو إطلاقها طلقات تحذيرية وقنابل في مسار المدمرة "ديفندر" (Defender) التابعة لسلاح البحرية البريطانية، وذلك أثناء اختراق المدمرة لمياه روسيا الإقليمية قبالة سواحل شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا إلى سيادتها مؤخراً، وتقول بريطانيا ومعظم بلدان العالم إنها تابعة لأوكرانيا.

وفي البداية نفت لندن الرواية الروسية للواقعة، قائلة إنه "لم يحدث إطلاق طلقات تحذيرية ولا إلقاء قنابل في مسار مدمرتها ديفندر التابعة للبحرية الملكية"، لكن التأكيد جاء سريعاً من طرف موسكو، إذ نشر جهاز الأمن الفيدرالي الروسي مشاهد توثق طرد المدمرة البريطانية وتُسمع في الفيديو مكالمة بين حرس الحدود الروسي وطاقم المدمرة البريطانية ثم يشاهد إطلاقاً من سفينة روسية لطلقات تحذيرية باتجاه المدمرة.

وفي السياق ذاته أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إرسال سفنها العسكرية من أجل المشاركة في المناورات العسكرية "سي بريز 2021" التي تجري بين 28 يونيو/حزيران و10 يوليو/تموز أوكرانيا ودول أخرى من الحلف الأطلسي في البحر الأسود، الأمر الذي يثير استياء موسكو ومن شأنه أن يؤجج الصراع العسكري في البحر الأسود.

البحر الأسود.. بحر سلام

نجح البحر الأسود في أن يكون بحر سلام على مدار عقود طويلة، حيث تم تجنيبه بأن يكون مسرحاً لصراعات عسكرية على مدار الفترات التي شهدت أعنف المعارك العسكرية وبالأخص فترة الحرب العالمية الثانية، إذ يعد البحر الوحيد في العالم الذي لم يشهد عمليات عسكرية بحرية منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية حتى يومنا الحالي.

ويرجع الفضل في ذلك إلى معاهدة مونترو الموقعة عام 1936 التي تنظم حركة السفن التجارية والعسكرية وفق شروط معينة أثناء عبورها المضايق التركية إلى البحر الأسود، إذ تلعب تركيا دوراً محورياً ورئيسياً بتطبيق شروط المعاهدة ومعاييرها، إذا إن التحكم في المضايق يتبع لإداراتها بشكل كامل.

ويذكر أنه أثناء الحرب العالمية الثانية إبان اشتعال فتيل الحرب بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي طلب هتلر من عصمت إينونو (الرئيس الثاني للجمهورية التركية) خرق معاهدة مونترو والسماح له بإرسال غواصات عسكرية إلى مياه البحر الأسود عبر المضايق التركية، وعلى الرغم من قوة هتلر العسكرية وقتها وحداثة الجمهورية التركية، قوبل طلبه بالرفض وأغلقت تركيا في وجهه مضايقها البحرية، الأمر الذي اضطره إلى اتباع أسلوب السلطان محمد الفاتح عندما نقل السفن عبر البر من أجل فتح إسطنبول عام 1453، فأمر بتصنيع 6 غواصات بحجم صغير، ونقلها عبر البر إلى رومانيا ثم أنزلها في البحر الأسود.

اتفاقية مونترو تضبط الإيقاع

بعد التوقيع على معاهدة لوزان التي اعترفت بالجمهورية التركية المؤسسة حديثاً على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 وبعد 13 عاماً من الدبلوماسية التركية جرى التوقيع على معاهدة مونترو في 20 يوليو/ تموز 1936 بمدينة مونترو السويسرية، الاتفاقية المتممة لاتفاقية لوزان والتي أعادت السيادة الكاملة لتركيا على المضايق الاستراتيجية من خلال تنظيم حركة الملاحة في مضايق البسفور والدردنيل وبحر مرمرة.

وكفلت المعاهدة حرية المرور للسفن التجارية عبر المضايق في أوقات السلم والحرب، وسمحت أيضاً بمرور السفن الحربية التابعة لدول حوض البحر الأسود من دون أي تحديد، فيما قيدت مرور السفن العسكرية الأجنبية وفق شروط معينة من حيث الحجم والوزن والفئة وطبيعة الأسلحة التي تحملها.

وتتكون المعاهدة من 29 بنداً وأربعة ملحقات وبروتوكول، أهمها ألا يتجاوز عدد السفن وقت عبورها من المضايق 9 سفن، بالإضافة إلى ألا تتجاوز الحمولة الإجمالية للسفينة الواحدة 15 ألف طن وألا تتجاوز مدة مكوث السفن في البحر أكثر من 21 يوماً، كما أعطت المعاهدة الحق لتركيا بإغلاق المضايق وقت الحرب.

وحسب المادة الأولى من الاتفاقية فإن مبدأ حرية النقل والتنقل مكفول إلى مدة أبدية باعتبار أن المضايق مياه دولية خاضعة للقانون الدولي، وجرى الاتفاق على أن عمر المعاهدة 20 عاماً. وفي 20 يوليو/تموز 1956 بعد مرور 20 عاماً على الاتفاقية، حاول بعض الدول تغيير بعض شروط الاتفاقية بما يتناسب مع مصالح كل منها إلا أن محاولات التغيير فشلت واستمر العمل بالاتفاقية حسب البنود التي اتفق عليها سابقاً حتى يومنا الحالي.

TRT عربي