في المرة الأولى التي قابلت فيها الأستاذ فهمي هويدي قبل ما يقرب سنة من الآن، لم ينتظر سؤالي عن غيابه في الفترة الماضية، وبادرني بالإجابة: غزة من أخرجتني. المفكر العربي الذي قارب على التسعين، تملأ كلماته بالواقعية والحذر في قراءة الأحداث، وفي الوقت نفسه التأكيد على أن عالماً جديداً يتشكل.
يضم هذا العالم الجنوب العالمي ودوله، والنخب الحرة في الغرب. كما يؤكد الأستاذ العربي أن القادم لن يكون "صفراً، ولن يكون نسخة من الماضي". كان المخطط للمقابلة أن تدور حول عدد من الموضوعات، وكنت أحذر نفسي، وأخشى أن ننجر إلى الحديث عن القضايا الراهنة، لكن أخبار الهدنة وسوريا سيطرت على حديثنا الذي مضى جزء منه ونحن نسير وجزء منه جلوساً.
يجدد هويدي إيمانه بقدرة الشعب الفلسطيني ومقاومته على الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، ويشدد على ضرورة الحذر من السلوك الإسرائيلي الذي لا يظهر أي مؤشرات للثقة. وفي المقابل، يدعو إلى تناول ما جرى في ضوء سنوات الصراع الممتدة، فـ"لا يمكننا قراءة العقود المقبلة من دون استحضار هذا التاريخ الطويل".
في سوريا، ينظر الأستاذ هويدي إلى أن نجاح الثورة وسقوط النظام بأنه "إنجاز عظيم"، لكنه في المقابل يدعو إلى التمهل والحذر من الأحداث. ويشدد على أن الرهان الأساسي هو على الشعب، ويرهن هويدي استقرار الإدارة الجديدة ونجاحها بقدرتها على الاتصال مع الشعب وقضاياه.
أما عن إيران، التي كان هويدي من أوائل الصحفيين العرب الذين غطّوا ثورتها عام 1979 وكتب حولها عدداً من الكتب والمقالات، فيصرّ على ضرورة أن يكون "العتاب لا الخصام" هو المحدد والنظام في العلاقة معها. وعن سياستهم في سوريا، يشير هويدي إلى أنه عاتب الإيرانيين على ذلك وقال لهم: "أسقطتم الشاه في إيران ودعمتموه في سوريا".
لو تحدثنا عن غزة ووقف إطلاق النار الأخير، فكيف ترى ما يجري هناك؟
ما شهدناه فاجأنا كثيراً، في المحصلة، كل المطالب الأساسية التي طالب بها نتنياهو لم تتحقق، و"النصر المطلق" أصبح نكتة وأكذوبة أكثر منه حقيقة. في المقابل، هناك جسارة وقوة أبدتها المقاومة الفلسطينية، وصمود أظهره الشعب الفلسطيني، الدماء والدموع التي سالت في الفترة الماضية غمرتنا كثيراً، لكنها أيضاً أشاعت قدراً كبيراً من التفاؤل والثقة.
وأظن أن هذا مهم للحاضر والمستقبل، وللعرب وغير العرب. أما فيما يتعلق بالمستقبل، فلا أستطيع إلا أن أقول إن هذه بداية موفقة، ولكن لا يمكننا تحميلها أكثر من ذلك، نحن نتعامل مع أطراف ليست محل ثقة، ولها رصيد كبير في الاحتيال والتسويغ والتآمر. وبالتالي، الحذر هو العنوان الأهم، كما أننا لا بد أن نصبر ولا نتسرع في تقييم المستقبل.
على الطرف الآخر، هناك حديث عن أن غزة جرى تحييدها وتدميرها بشكل كامل.
نحن نتحدث عن صراع استمر نحو 75 عاماً، لا يمكننا قراءة العقود المقبلة من دون استحضار هذا التاريخ الطويل، ما يهمنا الآن هو أن آلام أهل غزة يجب أن تخف وتزول.
لاحظ أن البيئة العربية والفلسطينية والعالمية ملأى بالمتغيرات، عندما نسمع أن الجنود الإسرائيليين يخشون السفر إلى الخارج خوفاً من الملاحقة القانونية، أو القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية ضد نتنياهو ووزراء حكومته، فهذا مؤشر مهم، كذلك المظاهرات في الجامعات الأمريكية والتمرد الحاصل في العالم الجنوبي وحتى في أوروبا، كل ذلك يجب أن نراقبه ونضعه في الاعتبار.
القادم لن يكون صفراً ولن يكون نسخة من الماضي. هناك عالم جديد يتشكل، وعلينا أن نثق في كفاءة المقاتلين وشجاعة الشعب الفلسطيني، مع الحذر والوعي لما هو قادم.
الحرب لم تنتهِ تماماً، وإن تغيرت وتيرتها وصيغتها. ما زلنا في البداية. الألاعيب التي استخدمها نتنياهو لإطالة أمد الحرب وتأجيل تنفيذ الاتفاق ستستمر في المستقبل. لذلك، الحذر مطلوب. نحن نتعامل مع طرفٍ لا يُوثق به، وله تاريخ طويل من التدليس والتزوير.
الجولات القادمة ستكون سياسية بقدر ما هي عسكرية. كثيرٌ من الأسئلة تطرح نفسها، ولا سيما فيما يتعلق بدور الإدارة الأمريكية الجديدة. ترمب كان داعماً قوياً لإسرائيل، ومن الممكن أن يكون هناك وعود بإغراءات جديدة لإسرائيل في الضفة الغربية أو غيرها.
في سوريا هناك تغيير سياسي كبير، كيف ترى هذا التغيير؟
كما قلت سابقاً، هناك أشياء مطمئنة وأشياء مقلقة، المطمئن هو أن لدينا شعوباً حية لم تُستثمر طاقاتها بعد، ولكن المشكلة تكمن في النظام العربي كله، الذي يعاني من ثغرات كبيرة وتباينات في الرؤى السياسية، وخاصة فيما يتعلق بإسرائيل.
هناك من يطبّع ومن يتبع سياسة النأي بالنفس، وهذا أمر مقلق.أما سوريا، فهي بحاجة إلى الكثير من العمل. نحن نتحدث عن نظام دمر البلاد لمدة 55 عاماً.
سوريا ليست أي دولة، بل هي دولة ذات ثقل تاريخي وسكاني، ومكوناتها فريدة في العالم العربي. السؤال الآن: إلى أين تساق سوريا؟ وما البيئة التي ستؤثر فيها إيجاباً أو سلباً؟
في السياسة، القضايا الكبرى لا تختزل في عامل واحد. الشعب السوري مملوء بالكفاءات، والنظام الحالي في سوريا لم يختبر بعد قدرته على الاعتماد على الشعب. هناك كلام عن مؤتمر حوار وطني ودستور وانتخابات، ولكن نجاح هذه المحاولات مرهون بإدماج الشعب السوري كطرف أساسي. سوريا لن تُصنع بتحالفات أو ائتلافات، بل بإشراك الشعب في بناء مستقبلها.
هل أنت مطمئن أم متشائم من الوضع في سوريا؟
أنا حذر. هناك إنجاز عظيم تحقق، لكن لا أرى بوادر كافية تبعث على الاطمئنان الكامل، أتمنى أن كلام الشرع -الذي يتميز بالتفهم والتصالح- يستمر في هذا الاتجاه، ولكن من الصعب مطالبته بالمزيد الآن، إذ يتحمل مسؤولية بلد مدمر.
ما تقييمك لما قامت به الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع؟
نحن نتحدث عن فترة قصيرة وعن تصريحات السيد أحمد الشرع، وهي مساحة محدودة نسبياً، وهذا أمر طبيعي. أظن أن كلامه يتميز بالرصانة والتنظيم، وهو خطاب مقبول من كل الأطراف، ويستحق الترحيب.
ومع ذلك، أضيف أن هذا الترحيب يجب أن يكون حذراً، بمعنى أن الفترة القصيرة لا تسمح بكشف كل الأوراق. ومن ناحية أخرى، استمعنا إلى تصريحات السيد أحمد الشرع.
احتياجات الناس الحياتية واليومية تضغط بشدة، وهي أقوى من ضغوط العالم الخارجي الذي يتحدث عن الديمقراطية والمشاركة والسياسة، وهذه عناوين مهمة للغاية. لكن أعتقد أن خبز الناس، ومواعيد الكهرباء والغاز والمواصلات، أي احتياجاتهم اليومية، تضغط بالقدر نفسه.
أمامنا قائمة طويلة من التحديات، والوقت لا يساعد على حلها جميعاً. الضغوط الداخلية والخارجية كبيرة، وكذلك الضغوط من القواعد. لكن ما حدث الأهم هو سقوط النظام الوحشي الذي استمر لأكثر من 55 عاماً. المشكلة الآن هي كيفية إحسان ضبط الأولويات.
يجب أن يكون إرضاء الشعب السوري وتعويضه هو الأهم، أكثر من محاولة إرضاء جهات داخلية وخارجية.
ما تقييمكم لموقف الإدارة السورية الجديدة من العدوان الإسرائيلي على سوريا؟
الإدارة السورية تتعامل مع أطراف لا يمكن الوثوق بها. هناك صمت يمكن تفسيره بالصبر أكثر منه بالرضا.
كيف ندير العلاقة مع الدول غير العربية في المنطقة، وخاصة إيران وتركيا؟
العقبة الحقيقية بين العرب وإيران هي إسرائيل والضغط الأمريكي. لا توجد مشكلة حقيقية بين العالم العربي وإيران. ما حدث من توتر في العلاقة كان بسبب الولايات المتحدة وبعض الأطراف التي تسعى للتفرقة. في العالم الإسلامي هناك دولتان رئيسيتان: تركيا وإيران. يجب أن تكون العلاقة مع إيران علاقة عتاب لا خصام. نعم، يمكننا انتقادها والإشارة إلى أخطائها، لكن يجب الحفاظ على الحد الأدنى من التواصل.
يرى البعض أن مشكلة العالم العربي مع إيران لم تكن من موقفها من إسرائيل، بل من سياستها في سوريا؟
الأزمة مع إيران تعود إلى ما قبل ذلك، منذ عام 1979، من لحظة الثورة، ما جرى بعد ذلك كان عوامل ساعدت على تفاقمها. أنا في داخل هذه المعركة منذ 1979. سمعت رأياً يقول: لو أن عبد الناصر عاش في زمن الخميني، لكانت الأزمة ستختلف.
لكن نحن نتحدث عن العالم العربي وليس عن مصر.
في رأيي، مصر هي عمود الأمة العربية، ولو خسرت هذا العمود، فستخسر الأمة العربية.
لو أخذنا الموضوع في سياق أعم، لدينا مكون اسمه العرب والفرس والترك. ما صيغة العلاقة المثلى بين هذه المكونات؟
لأني أقرب إلى الموضوع الإيراني، أرفع شعار "عاتبوا ولا تخاصموا". وقلت للإيرانيين في مبنى وزارة الخارجية الإيرانية: أسقطتم الشاه في إيران ودعمتموه في سوريا.
في وجود الآخرين، توجد مصالح هائلة تتحقق، وخسائر هائلة تتحقق في غيابهم.
الإيراني يعيش حالة من الانكفاء والتراجع.
هذا أمر مؤقت، ومن الممكن أن يطول.
الأزمات يجب أن تمر حتى تستقر العلاقات مع إيران. الشرع متحامل جداً على إيران، وهم يستحقون ذلك، ولكن هناك فرق بين إيران الدولة وإيران الشيعية. لا بد من الفصل بين الاثنتين. اختلفوا مع الدولة ولا تختلفوا مع الطائفة، الشيعة موجودون في لبنان وإفريقيا والدول العربية، والإعلام له دور كبير. الرهان على الوقت لتحسن الظروف.