ما سبب الاضطرابات الدموية التي تعيشها هايتي؟ / صورة: AP (Dieu Nalio Chery/AP)
تابعنا

أسبوع كامل من العنف الدموي عاشته العاصمة الهايتية بورت أو برنس بعد أن قاد المدنيون ملاحقات واسعة ضد أفراد العصابات الإجرامية التي تنشر الرعب منذ سنوات في أوساط ساكنة الجزيرة الكاريبية.

مسلحون بالعصي ومناجل "ماتشيتي" والحجارة، طاردوا المدنيين في شوارع العاصمة، وقتلوا عدداً كبيراً منهم وأحرقوا البعض أحياء، حسب ما أوردت تقارير وكالات الأنباء، في أعمال العنف الأوسع التي تشهدها الجزيرة منذ عقود، بعد أن عرفت شرارتها انطلاقها فجر الاثنين، 24 أبريل/نيسان الماضي.

وقبل هذه الأحداث، دقت السلطات الهايتية، في أكثر من مرة، ناقوس الخطر بشأن اتساع سطوة العصابات الإجرامية المسلحة، وأعمال التقتيل والخطف والاغتصابات التي تنفذها ضد المدنيين، مطالبة بمساعدة عسكرية دولية لحل هذه المعضلة ذات الطابع الأمني والاجتماعي.

"أحرقوا أفراد العصابات أحياء"

اندلعت أعمال العنف فجر يوم الاثنين 24 أبريل/نيسان المنصرم، عندما اقتحم أفراد العصابات مناطق سكنية بالعاصمة بورت أو برانس ونهبوا المنازل وهاجموا السكان. وحسب تصريح شاهد عيان لوكالة الصحافة الفرنسية بأن "صوت القذائف أيقظنا هذا الصباح. غزتنا العصابات في الثالثة فجراً، كان صوت إطلاق نار".

وأضاف أحد السكان، لذات المصدر، متوعداً: "إذا جاءت العصابات لتغزونا فسندافع عن أنفسنا، نحن أيضاً لدينا أسلحتنا، لدينا مناجلنا، وسنأخذ أسلحتهم، ولن نهرب (...) يمكن أن نرسل الأمهات اللواتي يرغبن في حماية أطفالهن إلى مكان آخر".

وقالت الشرطة الهايتية وشهود عيان يومها إن أكثر من 12 شخصاً يشتبه بانتمائهم إلى عصابات رجموا وأحرقوا أحياء الاثنين بأيدي مدنيين في بورت أو برنس التي تسيطر العصابات المسلّحة على نحو 80% من مساحتها، وفق تقرير حديث لـ"الغارديان".

ونقلت الصحيفة البريطانية الأحد على لسان الناشطة الحقوقية الهايتية فيلينا إليزيه شارلييه قولها: "منذ يوم الاثنين ليس إلا القتل والحرق (في شوارع بورت أو برنس)، إذا قُتلت يجري إحراقك (...) لقد شاهدت عدداً من الجثث ما لم أشهده طوال حياتي، لا أريد لأي شخص آخر أن يعيش من مثل هذه المشاهد (...) إنه جحيم فعلي!".

وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد وصف في تقرير صادر عنه، أنه "مع ارتفاع عدد القتلى وتزايد المناطق الواقعة تحت سيطرة عصابات مسلحة، وصل انعدام الأمن في العاصمة (بور أو برنس) إلى مستويات تضاهي دولاً تشهد نزاعات مسلحة".

جزيرة العصابات

تُرجع الكاتبة والباحثة الهايتية إيميلي بروفيت تفاقم سطوة العصابات الإجرامية في الجزيرة إلى فترة انتخابات سنة 2011، حيث "عمد السياسيون إلى الاستقواء بهذه العصابات المسلحة" لبسط نفوذهم على الأرض، لكن سرعان ما "خرجت الأمور عن السيطرة وأصبحت العصابات هي من تتحكم بالقرار في البلاد".

وتضيف الكاتبة أن هايتي تمثل بيئة مناسبة لـ"صناعة الجريمة"، حيث "تنتشر الأسلحة بين يدي شباب الأحياء الفقيرة، ما يدفعهم إلى البحث عن المال عبر اختطاف الناس في وضح النهار بين أزقة العاصمة بورت برينس". تضيف الكاتبة أنّ ما يحدث يجري في مناخ يطبعه "إفلاس الدولة وفقدان الحكومة الهايتية أية سيطرة على أراضيها".

وفي مارس/آذار الماضي كشفت أنّ نحو 530 شخصاً قُتلوا في هايتي وجرح 300 آخرين، عدد كبير منهم على يد قناصي العصابات الإجرامية، ذلك فقط منذ مطلع 2023. كما خطفت العصابات نحو 280 شخصاً دون رادع، معظمها في العاصمة بور أو برنس.

وقالت الناطقة باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مارتا هورتادو: "في الأسبوعين الأولين من مارس/آذار فقط، خلَّفت الاشتباكات بين العصابات 208 قتلى على الأقل و164 جريحاً واختطف 101 شخص. وقُتل معظم الضحايا أو جُرحوا على يد قناصين أطلقوا النار بشكل عشوائي على أشخاص داخل منازلهم أو في الشارع".

وكانت الخارجية الأمريكية أكدت أواخر مارس/آذار، اختطاف اثنين من رعاياها في هايتي، وفق ما نشرت رويترز. وأكدت الخارجية الأمريكية في وصفها واقعة اختطاف، بأن الجريمة المنظمة في هايتي "تعكس مشكلة أكبر، وهي وضع أمني غير مستدام، حيث تتحكم عصابات بأجزاء من هايتي، ولا يُتاح للشرطة الوطنية تنفيذ مهامها في تلك المناطق، وترتبط هذه العصابات بمجموعات وأفراد وأحزاب، أي بوصف آخر، تسيطر على الدولة".

وفي تصريحات سابقة له، لجريدة "وول ستريت جورنال"، أكد الباحث في جامعة فلوريدا الدولية الذي يدرس دول الكاريبي إدواردو جامارا، أن "من يسيطر على هذه العصابات أشبه بأمراء الحرب. إنهم أفضل تسليحاً من الشرطة ويفوق عددهم عدد أفراد الشرطة". حيث ينفذون كل أنواع الإجرام، من اتجار بالبشر إلى الخطف والسرقات المسلحة، إضافة إلى تجارة المخدرات والأسلحة. بل يفرضون على المواطنين إتاوات إزاء الخدمات العامة في ظل غياب السلطة بالبلاد.

إضافة إلى هذا تفرض هذه العصابات إتاوات بخاصة على أصحاب المحال التجارية والورشات الصناعية الصغيرة المنتشرة في مناطق نفوذهم. ويقدّمون خدمات حماية للشخصيات السياسية ورجال الأعمال في أثناء وجودهم بها مقابل المال. حسب ما يوضح "المركز الهايتي للتحليلات والأبحاث في حقوق الإنسان".

مأزق دولة

تمثل هذه العصابات الإجرامية مأزق دولة حقيقياً بالنسبة إلى الحكومة الهايتية، إذ استنفذت كل طاقتها في مكافحتهم، مع ما تعانيه قوات إنفاذ القانون المحلية من ضعف في العدد والتجهيز، مقارنة بقوة العصابات المتنامية وتسليحها الجيد.

وبلغت قوة هذه العصابات منع رئيس حكومة البلاد تأدية مهامه الرسمية، وتحديه بشكل علني. مثال على هذا ما وقع عام 2021، عندما منع إطلاق نار كثيف رئيس الوزراء أرييل هنري حضور مراسم كريم بطل استقلال هايتي الجنرال جان جاك ديسالين في ذكرى وفاته. ليظهر بعد فترة وجيزة من ذلك جيمي شيريزير، أحد أهم زعماء العصابات في هايتي بموقع الحفل مرتدياً بدلة بيضاء وربطة عنق سوداء، ويضع ثلاثة أكاليل من الزهور.

لهذا منحت الحكومة الهايتية في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم تفويضاً لرئيس الوزراء أرييل هنري، بالطلب رسمياً من الدول الأخرى المساعدة العسكرية في مواجهة العصابات، مخافة "خطر وقوع أزمة إنسانية ضخمة" في البلاد.

وفي فبراير/شباط الماضي أعلنت كندا أنها سترسل "خلال أسابيع" سفناً حربية إلى هايتي لتعزيز أمنها. ووفق ما كشفه رئيس الوزراء الكندي جاستن، فإن مهمة هذه السفن تتمثل في "إجراء عمليات مراقبة وجمع معلومات استخبارية والحفاظ على وجود بحري"، هذا دون التدخل بشكل مباشر بالنزاع.

من ناحية أخرى، أتت الأحداث الدموية الأخيرة كانتفاضة للسكان الذين يعانون الأمرّين بسبب تدهور الأوضاع الأمنية. وهو ما يؤكده تقرير "الغارديان" على لسان الناشطة فيلينا إليزيه شارلييه بقولها: "على الرغم من وقوع انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان، وأن تنفيذ العدالة المباشرة من قبل الناس ليست الطريقة التي يجب اتباعها أبداً، لأنها تتحول إلى دائرة عنف لا تتوقف (...) فإن الأحداث الأخيرة تشعرك أن الناس غاضبون مثلك (...) ما يحدث هو إعطاء الأمل للسكان في أن يتمكنوا من المقاومة".

هذا وتشهد هايتي أوضاعاً إنسانية مزرية، إذ يعيش أزيد من 80% من سكان البلاد تحت خط الفقر، ويعاني أكثر من 4.4 ملايين منهم المجاعة، وفقاً لإحصائيات البرنامج العالمي للغذاء.

TRT عربي