قادة دول البلقان برفقة نظرائهم الأوروبيين.  (Virginia Mayo/AP)
تابعنا

في يوليو/تموز الماضي أعلنت صربيا ومقدونيا الشمالية وألبانيا، تأسيس نموذج تعاون إقليمي تحت مبادرة عُرفت باسم منطقة "شنغن مصغرة" أو "البلقان المفتوح". المبادرة التي رأت النور كفكرة قبلها، سنة 2019، أصبحت أمراً واقعاً بعد أن وقّع قادة دول البلقان الغربي الثلاثة اتفاقيات تهدف إلى إرساء قواعد التفاهم والتعاون حول حرية تنقل البضائع والرساميل والأشخاص بينهم.

وتحاول المبادرة استنساخ نموذج مصغَّر للسوق الأوروبية المشتركة، بعد أن طال أمد انضمام دول البلقان إلى تلك السوق، دون أن يتحقق جديد في ملفها، إذ اتفق قادة البلدان الثلاثة على تسهيل استيراد وتصدير ونقل البضائع في منطقة غرب البلقان، وحرية الوصول إلى السلع، علاوة على اتفاقية تنصّ على التعاون في الحماية من الكوارث.

في المقابل لم تستطع بروكسل كبح نظرة الريبة في اتفاق التعاون البلقاني، رغم تصريحها بـ"دعم التمسك بقاعدة التعاون الإقليمي باعتباره عنصراً أساسياً في منظورها لمنطقة غرب البلقان"، و على أنه "جزء لا يتجزأ من عملية الاستقرار والمشاركة في المنطقة"، حسب ما أعربت عنه آنا بيسونيرو، المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية.

أوروبا والبلقان.. من يتخلى أولاً؟

ريبة يؤكدها موقع "أورو نيوز"، بوصفه الاتفاق بـ"المثير للجدل" كونه يعبّر عن فشل "مسار برلين" الذي أطلقته القيادة الألمانية سنة 2014 واحتضنته المفوَّضيَّة الأوروبية كإجراء يمتدّ على خمس سنوات تحضيراً لضمّ دول البلقان إلى الاتحاد. سبع سنوات بعد إطلاقه، لم يفرز الإجراء أي نتائج فعليَّة.

ويورد الموقع أن المخاوف من الاتفاق تكمن في منحه نفساً جديداً لـ"الشعور القومي المتصاعد في دول البلقان". وعدم تحقيقه المعايير التي طالبت بها أوروبا من أجل ضمّ تلك البلدان، وعلى رأسها "مبدأ سيادة القانون". ويورد الموقع أن "مجموعة من المؤسسات الأوروبية تؤمن بأن مشروع ضم دول البلقان قد انتهى"، أو أنه على الأكثر "لن يشمل إلا صربيا والجبل الأسود".

التشكُّك في مدى صدق وعود الضمّ الأوروبية، بعد 25 سنة من ترديدها على مسامع شعوب البلقان، دفع حكومات تلك البلدان إلى الأخذ بزمام المبادرة. هذا ما عبّر عنه رئيس الوزراء الألباني إيدي راما، قائلاً عقب قمَّة توقيع الاتفاق: "لا نريد أن نكون كاريكاتوراً مصغَّراً عن الاتحاد الأوروبي، حيث لا قرار إلا بعد جهد طويل من التوافقات السياسية، وحيث الكل يمتلك حق تعطيل القرارات بالفيتو"، في إشارة إلى الفيتو البلغاري الذي دائماً ما يُرفع في وجه ضمّ دول البلقان إلى المنظومة الأوروبية.

في عددها للخريف، نشرت مجلَّة "فورين بوليسي" مقالاً تحليلياً بعنوان "لم تعُد دول البلقان تثق بالاتحاد الأوروبي"، يورد كاتبه أن "رهان السياسيين البلقانيين على الوعود الأوروبية فقد نجاعته في تحصيل الأصوات الانتخابية"، في إشارة إلى ضجر الناخب البلقاني من عدم وفاء بروكسيل بوعودها تلك. على الطرف الآخر من المعادلة "تراجع في دعم شعوب دول غرب أوروبا لفكرة توسع الاتحاد بضمّ دول جديدة".

في نظر كاتب المقال، أن حديث أوروبا عن الفساد وعدم احترام مبدأ سيادة القانون كأحد العوائق أمام تحقيق ضمّ دول البلقان إلى الاتحاد "يحمل شيئاً من المصداقية". في المقابل، تكمن المفارقة، حسب قوله، في أن نفس الاتحاد "لم ينجح في تحقيق هذه الشروط في دول كرومانيا وبلغاريا حتى بعد عقد ونصف من ضمها"، مشيراً إلى أنه "على أوروبا أن تتفهم العالم المتغير من حولها، وتتبنى مقاربة أكثر مرونة وتعيد النظر في علاقاتها مع جوارها".

روابط متينة وفرصة اختراق اقتصادي تركي

الأهمّ في اتفاق البلقان هو الفرص الاقتصادية التي سيتيحها، يسطر مقال "فورين بوليسي"، لكون "ولا واحدة من الدول الثلاث كبيرة بما يكفي لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية، بالمقابل مثّل اجتماعها في سوق واحدة مشتركة عنصر إغراء لتلك الاستثمارات". هذا إضافة إلى خلق توازن في اليد العاملة بينها، إذ "تعاني صربيا من شحّ في العمالة يمكن تعويضه من ألبانيا ومقدونيا الشمالية" عبر تحقيق منطقة "شنغن مصغرة" بين الدول الثلاث.

بالتالي هي فرصة بارزة لتركيا من أجل تحقيق اختراق اقتصادي في تلك الدول، هذا لكونها أبرز اقتصاد صاعد في المنطقة، إضافة إلى الروابط التاريخية والاقتصادية التي تربطها بها، إذ تطوَّرت استثمارات أنقر هناك بمقدار عشرة أضعاف خلال الفترة من 2000 إلى 2019، لترتفع من 2.2 مليار دولار إلى نحو 20 مليار دولار. وبلغت الصادرات التركية إلى المنطقة 10 مليارات دولار، تحظى صربيا بثلثها. وتتنوع أنشطة الشركات التركية في دول البلقان بين الاتصالات السلكية واللاسلكية، والبناء، والنقل، والتمويل.

أنشطة واستثمارات متوقع لها التوسع جراء اتفاق "البلقان المفتوح"، ونظراً إلى سياسات تركيا الإيجابية تجاه تلك الدول، إذ تحول البلقان إلى جزء مهم من السياسة الخارجية التركية في العشرين عاماً الماضية، تماشياً مع مبدأ أنقرة في "الحفاظ على الاستقرار الإقليمي" في سياستها الخارجية ودعم أي مبادرة لحل مشكلات البلقان وبقية المناطق وتأكيد مفهوم "رابح-رابح" في علاقاتها.

الأمر الذي انعكس في ثقة شعوب البلقان بتركيا كحليف استراتيجي وشريك ضروري لبلدانهم. تثبت ذلك استطلاعات رأي تورد أن 12% من المواطنين الصرب يرون أن تركيا "دولة حليفة" تشارك بلادهم مصالحها وقيمها، و 56% منهم قالوا إنها "شريك ضروري" لبلادهم. وقادت تركيا جهوداً كبيرة في دعم دول البلقان من أجل تخطّي جائحة كورونا والتقدم في برامج تلقيحها.

كل هذه معطيات تفيد بأن دول البلقان، شعوباً وقيادات، ترى في تركيا البديل الأقرب والأكثر نفعاً لها من الوعود الأوروبية التي غالباً ما يخلفها الاتحاد. وعبَّر عن ذلك رئيس جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك، خلال تصريح صحفي جمعه في ساراييفو بالرئيس التركي طيب رجب أردوغان، قائلاً: "الدول الغربية وبالتحديد دول الاتحاد الأوروبي، لا تفعل شيئاً لمدّ يد العون إلى البوسنة والهرسك، ونثق بالجهود التي يبذلها الرئيس أردوغان من أجل مستقبل البوسنة".

TRT عربي