ضباط الشرطة الصينية يراقبون سفينة شحن في تشينغداو، وهو ميناء بحري في مقاطعة شاندونغ، في 8 مارس 2018. تشينغداو هي ثامن أكبر ميناء في العالم من حيث حجم التجارة، وفقًا لبيانات من مجلس الشحن العالمي. (AFP)
تابعنا

يتداول كثير من المهتمين بعالم الاقتصاد مصطلح الـ"offshoring" أو عملية تصنيع الشركات العالمية من خارج بلادها لأسباب مثل انخفاض تكلفة العمالة أو التسهيلات الاقتصادية.
يعود ظهور هذا المصطلح إلى أواخر ستينيات القرن الماضي، وأصبح جليّاً في 1970. وقد تربعت الصين على عرش عمليات الإنتاج الخارجي بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، بسبب وفرة الموارد البشرية وانخفاض الأجر.

حسب المعهد الأمريكي "Economic policy Institute EPI" فإن 68.2 في المئة من نموّ الصادرات في الصين بين عامَي 2001 و2013 كان في قطاع التصنيع، ومنذ ذلك الحين أصبحت الصين رائدة في التجارة العالمية.

ولكي نفهم أهمية هذه الفكرة للاقتصاد الصيني والعالمي يجب أن نعرف كيف قفز الناتج المحلي الإجمالي GDP للصين من 1.66 تريليون دولار أمريكي سنة 2003 إلى 14.72 تريليون دولار سنة 2020، أي بزيادة نسبتها 887%، بفضل التصنيع.

ولكن بعد عقدين من الزمن أخذ عدد كبير من شركات التصنيع ورؤوس الأموال العالمية بالخروج مرة أخرى من الصين، الأمر الذي استدعى سؤال: هل بالفعل بدأت رؤوس أموال التصنيع تخرج من الصين؟ ولماذا؟

وفقاً لتقرير معهد التمويل الدولي الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2019، فإن ما يقرب من 74 مليار دولار غادرت الصين في النصف الأول من ذلك العام، وإن مبلغاً أكبر خرج من خلال "معاملات غير مسجَّلة" خلال تلك الفترة. وتقدّر المجموعة التجارية بواشنطن أن 131 مليار دولار غادرت الصين في الأشهر الستة الأولى من عام 2019.

كما أظهر استطلاع لمؤسسة Gartner في 24 يونيو/حزيران 2020 أن 33% من قادة سلاسل التوريد انتقلوا إلى العمل خارج الصين أو لديهم خطة للانتقال بحلول عام 2023.

وفي هذا الصدد يقول توني دانكر، المدير العامّ لاتحاد الصناعة البريطانية، لصحيفة فاينانشيال تايمز، إن "كل شركة أتحدث إليها في الوقت الحالي منخرطة في إعادة التفكير في سلاسل التوريد التي تركز على الصين، لأنهم يتوقعون أن سياسيينا يتجهون نحو عالم منفصل عن الصين".

ولم يقتصر ذلك على الشركات الأمريكية أو الأوروبية، فحسب التقارير في عام 2020 وحده انسحبت 1700 من الشركات المصنعة والمستثمرة اليابانية من الصين بعد أن اتخذ رئيس الوزراء الياباني آنذاك تدابير لتحفيز التصنيع داخل البلاد وفي دول جنوب شرق آسيا.

وذكر تقرير لوكالة بلومبرغ في 20 يونيو 2022، أن واحدة من كل أربع شركات أوروبية في الصين تفكر في تحويل استثماراتها إلى خارج البلاد بسبب تفشّي فيروس كورونا وعمليات الإغلاق المستمرة.

وحسب مجلة فورين بوليسي في استطلاع أجرته غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين في يونيو من هذا العام، فإن 23 في المئة من الشركات تفكر في نقل العمليات خارج الصين.

لماذا تخرج هذه الأموال؟

عن أسباب تنامي موجة هروب رؤوس الأموال الأجنبية من الصين يقول مصطفى عبد السلام، الخبير الاقتصادي ورئيس قسم الاقتصاد بصحيفة العربي الجديد، في تصريح خاص لـTRT عربي، إن "تلك الأسباب في مقدمتها زيادة المخاطر الاقتصادية والتجارية والجيوسياسية، فقد انكمش نشاط التصنيع الصيني بشكل غير متوقع في شهر يوليو/تموز، بسبب قيود الصين الصارمة لتحقيق سياسة صفر كورونا، وهو ما أضعف توقعات حدوث انتعاش اقتصادي مع تراجع المخاطر الصحية".

ويضيف عبد السلام: "تتعلق أسباب أخرى تتعلق بضَعف أنشطة اقتصادية مهمَّة مثل قطاع الصناعات التحويلية وقطاع العقارات الذي يواجه أزمة عنيفة دفعت شركات كبرى إلى التعثُّر المالي والتوقُّف عن سداد المديونيات المستحَقة عليها التي تتجاوز 300 مليار دولار لدى شركة واحدة هي إيفرغراند. أيضاً التوترات السياسية التي باتت تضغط على الاقتصاد الصيني، ففي الأفق حرب عملات بين بكين وواشنطن، وحرب تجارية مستمرة بين أكبر اقتصادين في العالم، والبيت الأبيض يضغط بشدة على الصين بسبب موقفها من حرب أوكرانيا ومساندة الاقتصاد الروسي عبر شراء النفط والغاز الروسي بكميات ضخمة".

كما أن وراء هروب الأموال من الصين وغيرها من الأسواق الناشئة سبباً أهمّ، هو حدوث قفزات على أسعار الفائدة على العملات الرئيسية وفي مقدمتها الدولار، وهو ما يدفع الأموال الساخنة إلى الهروب من تلك الأسواق نحو الأسواق الغربية مستفيدة من العائد الجذاب وفرص الاستثمار"، وفق عبد السلام.

أما أستاذ التمويل والاقتصاد بجامعة إسطنبول أشرف دوابة فيرى في حديث مع TRT عربي، أن السبب الرئيسي لإغلاق الشركات العالمية في الصين هو خوفها من أن تُدرجَها أمريكا في القائمة السوداء في ظل العقوبات الاقتصادية الموجَّهة إلى الصين، كما أن أصحاب الأموال قلقون من أن تنتهج الصين نهج روسيا في التعامل مع أزمة تايوان، خصوصاً بعد زيارة نانسي بيلوسي رئيسة البرلمان الأمريكي.

إمكانية وجود بدائل للصين

لا تزال رحلة بحث الاقتصاد العالمي عن بديل للصين مستمرة في ظل هذه التوترات غير المسبوقة، وهنا يقول مصطفى شاهين مدرس الاقتصاد بجامعة أوكلاند الأمريكية في تصريحات خاصة مع TRT عربي، إن "الأمر سيستغرق وقتاً للتخلص من رؤوس الأموال الموجودة في الصين، فليس من السهل أن يظهر بديل بهذه السرعة، لأن الاقتصاد الصيني يمتلك مهارات قدمتها له أمريكا وأوروبا، ويستطيعون أن ينجحوا بها".

فيما يقول أحمد ذكر الله الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر لـTRT عربي، إن "العالم بأكمله اعتاد العولمة وتوطين الصناعات والشركات المختلفة في الأماكن الأقلّ أجراً، وعليه كانت الصين الملاذ الكبير للشركات الأوروبية والأمريكية وغيرها من كل دول العالم خلال الفترة الماضية".

ويرى ذكر الله أنه مع بداية فيروس كورونا وإغلاق الصين ثم ما حدث من نقص في الأدوات المساعدة لمقاومة الفيروس مثل المطهّرات والكمامات وغيره، جعل الدول الأوروبية وأمريكا تعيد النظر في الصين التي أصبحت المصنع الكبير في العالم، وأن توقُّفها في أي لحظة سيؤدّي إلى خسائر اقتصادية جمة في الاقتصاد العالمي، وأنه لا بد من تفتيت لذلك المصنع الصيني الكبير ونقل أجزاء منه إلى دول أخرى مختارة بعناية.

وقد وُضع بعض المعايير للاختيار، وتركيا إحدى هذه الدول، ومنها المغرب والهند. ومن الواضح أننا نتحدث في تلك المعايير عن الدول ذات الكثافة السكانية والتدريب الجيد والمهارات الفنية الجيدة، والتي تستطيع استقبال هذه الأسواق بلا تعقيدات اقتصادية أو قانونية.

وكلما كانت هذه الدول أقرب إلى القارة الأوروبية وأمريكا كان أفضل، وهذا ما يميز تركيا إلى حد كبير، بسبب قربها الشديد من أوروبا وعدد السكان الكبير. والتعليم الفني في تركيا تعليم جيد.

تركيا

اتجهت أنظار العالم إلى تركيا لمعالجة مشكلة سلاسل الإمداد بعد تفشّي وباء كورونا، ففي الوقت الذي كان يعاني فيه عديد من البلدان اضطرابات بسبب تدابير الوباء بما في ذلك الإغلاق وحظر السفر، أبرزت تركيا بنيتها التحتية الصناعية القوية وواصلت نشاطها الاقتصادي.

وأعلنت مجموعة من الشركات العالمية المعروفة في مختلف الصناعات توجهها نحو الاستثمار في تركيا، على رأسها شركة الأثاث السويدية "أيكيا" التي أكدت أنهم يخططون لتوسيع خط الإنتاج داخل البلاد.

ويقول كريم نيشل المدير المالي لأيكيا بتركيا لوكالة رويترز: "بسبب مشكلات الشحن التي واجهناها خلال جائحة كورونا، نحاول التصنيع بشكل أكبر في تركيا، فقد قفز سعر نقل حاوية من شرق آسيا من ألفَي دولار إلى 12 ألفاً، ومن المنطقي التصنيع بالقرب من مكان البيع، لهذا نريد التوسع في الإنتاج من تركيا".

من ناحية أخرى صرّحَت شركة "إل ب ب" البولندية لتصميم الملابس، بأنها ستحوّل جزءاً من إنتاجها المتمركز في آسيا إلى تركيا، لكون الأخرى تمثّل أحد أكبر المراكز التجارية في أوروبا. وقد عقد مسؤولو الشركة اجتماعات مع ممثلي صناعة النسيج في تركيا، لكونهم سيضمنون سهولة النقل واستمرارية سلسلة التوريد.

وذكر ماريك نوفاكوفسكي، رئيس غرفة التجارة التركية البولندية، لوكالة الأناضول أن المستثمرين البولنديين في تركيا يرغبون في التوسع في عديد من المجالات، وفي مقدمتها الموادّ الكيميائية المستخدَمة في السيارات والبناء، وأيضاً التعاون في القطاع الزراعي. واستكمل بأنه سيُفتتح خط سكك حديدية يربط بولندا وتركيا قريباً، مشيراً إلى أن تركيا دولة قوية في المنطقة ذات بنية تحتية لوجستية متطورة. كما أن جودة المنتج التركي أعلى بكثير وبتكلفة جيدة.

كما قالت الشركة الألمانية للأدوية "بورينجر إنجلهايم"، إنها تعتزم زيادة استثماراتها في تركيا، وإنها بدأت مشروعاً جديداً مع شركة "عبدي إبراهيم" التركية للأدوية، يشمل تصنيع أدوية لأمراض السكري والقلب والجهاز العصبي والأوعية الدموية، بجانب بعض الأبحاث السريرية. وحسب التقارير فإن الشركة وضعت 17 مليون دولارٍ استثماراً أولياً، وسيرتفع إلى 113.63 مليون دولار في الفترة المقبلة.

من ناحية أخرى تسعى شركة "فوجي" اليابانية المتخصصة في إنتاج الروبوتات الصناعية، لتوسيع وجودها في تركيا، إذ ترى فيها سوقاً واعدةً ذات إمكانيات هائلة.

كما حوّل أكبر متاجر التجزئة في العالم "وول مارت" بعض احتياجاته مثل البلاستيك وأنواع أخرى من موادّ التعبئة والتغليف إلى الشركات التركية بعد انقطاع الإمدادات من الصين وسط تفشّي وباء كوفيد-19.

في المقابل تخلّت شركة Bianchi عن استثماراتها في الصين مقرّرة تحويلها إلى تركيا. وفي هذا الصدد صرّح السفير الإيطالي في أنقرة ماسيمو جاياني لوكالة الأناضول، بأن الشركات الإيطالية تُبدي اهتماماً كبيراً بالاستثمار في تركيا. ووصف سلاسل التوريد في تركيا بأنها من أفضل الأمثلة في هذه المرحلة، فبالإضافة إلى قرب البلدين جغرافياً فإن تركيا لديها تقنيات رائعة، والرقمنة عالية جدّاً وبها كثافة سكانية من الشباب المتعلمين والقوة العاملة بأسعار معقولة.

من ناحية أخرى يعمل في تركيا ما يقرب من 1500 شركة إيطالية في مختلف القطاعات. وبلغ حجم التجارة بين إيطاليا وتركيا 22 مليار دولار في 2020.

كما صرحت شركة فورد للسيارات بأنها تنشئ في تركيا مركزاً لإنتاج السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية، باستثمار يبلغ حجمه أكثر من مليارَي يورو، ومن المقرر أن يبدأ الإنتاج في النصف الأول من 2023.

وفي هذا الصدد يقول مدير المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية زهير عطوف لـTRT عربي: "أعتقد أن تركيا أصبحت تلعب دوراً أساسياً في جلب الاستثمارات الخارجية، وبلا شك نرى الآن دولاً أوروبية تستثمر في تركيا، فقد بلغت الاستثمارات العالمية منذ 2003 إلى اليوم أكثر من 170 مليار دولار، وأكبر صاحبة نصيب استثمار في تركيا هي هولندا ومن بعدها أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وهي أقوى دول العالم، وقد رأوا في تركيا ملاذاً آمناً لأموالهم".

الهند

كثفت الهند كثيراً جهودها لجذب استثمارات التصنيع إلى البلاد في السنوات الأخيرة، وذكرت بلومبرغ أن الهند تواصلت مع ما يقرب من ألف شركة أمريكية متعددة الجنسية لتقديم عروض بنقل نشاطها الصناعي.

كما أطلقت الحكومة الهندية مبادرة "صُنِع في الهند" لمساعدة البلاد على استبدالها بالصين مركزَ تصنيع عالميّاً. مع ذلك لم تشهد البلاد حتى الآن سوى مكاسب متواضعة من الحرب التجارية. ويُلقِي المحللون اللوم على البيروقراطية الصارمة في الهند إلى جانب عدم اندماجها مع خطوط الإمداد الرئيسية بسلاسة.

ووفقاً لما ذكرته "وول ستريت جورنال"، صنعت الهند 3.1% من أجهزة آيفون العالم العام الماضي، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة إلى ما بين 6% و7% هذا العام، حسب شركة الأبحاث Counterpoint.

فيتنام

تُعَدّ فيتنام أحد المستفيدين الرئيسيين من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، إذ استوعبت كثيراً من القدرة التصنيعية التي فقدتها الصين. تشير دراسة أجرتها شركة Kearney إلى أن نحو 46% من حجم الواردات التي خسرتها الصين من الشركات الأمريكية البالغة نحو 31 مليار دولار، كان من نصيب فيتنام، وبسبب ذلك التحول زادت الصادرات التصنيعية الفيتنامية للشركات الأمريكية العام الماضي بنحو 14 مليار دولار.

وبسبب العمالة الرخيصة والتسهيلات الاقتصادية الكبيرة، نقل بعض شركات مجال التكنولوجيا جزءاً من إنتاجه إلى فيتنام منذ تفاقمت التوترات.

وفي هذا الإطار في أوائل مايو/أيار 2020، أعلنت شركة Apple أنها ستنتج ما يقرب من 30 في المئة من AirPods في فيتنام بدلاً من الصين.

كما أغلقت شركة Samsung الكورية الجنوبية مصانعها بالصين، ونقلت الإنتاج إلى فيتنام، وتملك هناك الآن 6 مصانع.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بدأت شركة فوكسكون التايوانية التي تصنّع لشركة "أبل" التخطيط لنقل تصنيع أجزاء من الآيباد والماك بوك إلى فيتنام، وحصلوا في يناير/كانون الثاني 2021 على رخصة بناء مصنع هناك.

كما تملك شركة نايكي المعروفة 200 مصنع وأديداس 76 مصنعاً في البلاد، وبلغ حجم الصادرات في فيتنام لعام 2021 أكثر من 336 مليار دولار.



TRT عربي