تعمل الولايات المتحدة على زيادة جهودها في مكافحة التجسس الصيني. الصورة من FP. (Others)
تابعنا

كرست أجهزة الاستخبارات الأمريكية مجهوداتها لسنوات لمواجهة خطر الإرهاب، لذلك لن يكون التحول إلى مواجهة بكين سهلاً. ولكن مع احتدام التنافس بين أمريكا والصين على النفوذ والأسواق. يبدو أن واشنطن تستعدّ لكبح جماح بكين على جبهة في غاية الأهمية،هي "التجسس".

تُعتبر هذه الخطوة بالنسبة إلى عديد من المسؤولين الحكوميين الأمريكيين ومحللين أمنيين متأخرة كثيراً، وقد دفعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية، بما في ذلك ضباط متقاعدون من وكالة الاستخبارات المركزية، الإدارة الوطنية إلى تخصيص مزيد من الموارد نحو مواجهة التهديد الصيني الملموس، فيما يسمّيه بعض المسؤولين لعبة "استخبارات الجيل الثالث".

وقد ذكرت تقارير صحفية الأسبوع الماضي أن وكالة الاستخبارات المركزية التي تُعَدّ أكبر جهاز معلومات في البلاد تضع الصين على قائمة مجهوداتها، بدلاً من الجماعات الإرهابية التي كانت مجال تركيزها الرئيسي على مدار العقدين الماضيين.

يأتي هذا التحول بعد عام من إنهاء الولايات المتحدة أطول حرب لها وسحب قواتها من أفغانستان، حيث يتزايد قلق الرئيس الأمريكي جو بايدن ومستشاري الأمن القومي في البيت الأبيض من المخاطر السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تشكّلها الصين وكذلك روسيا.

وفي هذا الصدد تَحدَّث الباحث الأول في مجال الدفاع الدولي في مؤسسة RAND الدكتور تيموثي آر هيث لـTRT World، موضحاً أن كثيراً من وقت الاستخبارات الأمريكية ومهارتها قد استُنفد في دعم جهود الحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان، والتصدي لمجموعات إرهابية مثل تنظيم القاعدة، بما تشكّله من تحديات.
واستكمل هيث: "الآن، ومع انتهاء الحروب في الشرق الأوسط، يمكن لجهاز الاستخبارات الأمريكي تركيز جهوده نحو الصين".

وبينما ظلّت أجهزة المخابرات الأمريكية بعد نشوب الحرب الباردة تركز على التهديدات القادمة من الاتحاد السوفييتي لعقود وحتى أوائل التسعينيات، تَغيَّر الواقع عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، إذ وُجّهَت التمويلات المخصَّصة لجمع المعلومات الاستخبارية وعمليات التجسس، إلى عمليات مكافحة الإرهاب في المقام الأول.

وعن المواجهة الاستخبارية مع الصين يقول خبير أمني مقيم في واشنطن فضّل عدم الكشف عن هويته، في حديثه مع TRT World: "كان ذلك خلال تلك المرحلة التي صعدت فيها الصين، واستغلت بكين ما اعتبرته تراجعاً للقوة الأمريكية لتعزيز نفوذها العالمي".

وقد كُلّفَت وكالة الاستخبارات المركزية إنشاء وحدة مهامّ خاصة جديدة تتكلف قضايا الصين، وذلك في أعقاب مؤتمر جمع مسؤولي الاستخبارات الحاليين والسابقين لتبادل الأفكار بشأن أنشطة التجسس الصينية المزعومة التي تستهدف الولايات المتحدة.

وفقاً لتصريحات رئيس وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز، تتطلع الوحدة رفيعة المستوى إلى زيادة تركيزها على الصين، وسيتقاطع ذلك مع جميع مجالات مهامّ الوكالة، بالإضافة إلى مركز المهامّ، أعلن بيرنز أيضاً عن استحداث منصب "كبير مسؤولي التكنولوجيا"، لمعالجة القضايا العالمية الحاسمة للقدرة التنافسية للولايات المتحدة، بما في ذلك التقنيات الجديدة والناشئة.

في الوقت نفسه ردّت بكين على وكالات الاستخبارات الغربية، مدّعية أن تقارير كاذبة ومضللة تُستخدم لتضخيم ما يسمى "التهديد الصيني"، لإشعال العداء والمواجهة.

صناعة التجسس الأمريكية في تراجع

أدركت واشنطن أن أجهزة استخباراتها في ورطة مع ارتفاع قضايا التجسس الاقتصادي المزعومة للصين وحالات التدخل في الانتخابات. وهنا يقول الباحث هيث إن "العمليات الاستخباراتية الصينية معقدة جدّاً"، فهي تميل إلى التركيز على مختلف الصينيين الذين يعيشون خارج البلاد كأهداف أولية للتجنيد والتجسس، مضيفاً أن هذا على عكس الاستخبارات الأمريكية التي تميل إلى التركيز على التهديدات العسكرية والقضايا السياسية، أما عمليات التجسس الصينية مدفوعة بغرض اختراق التكنولوجيا في الدول المنافسة لها.

لكن الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الذي يدير برنامج الاستخبارات في مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد بول كولبي يجادل بأن عملية جمع معلومات أعمق عن الصين لن تكون سهلة كما يتوقع البعض.

ويستكمل كولبي فكرته قائلاً: "لا يمكنك تغيير الأمر في غمضة عين والحصول على ما تريد من الصينيين فجأة واختراق الحرم الداخلي الحساس لحكومتهم. عليك تطوير وتدريب ضباط يعرفون اللغة والثقافة ويمكنهم إنشاء العلاقات العميقة الموثوقة التي تؤهل العميل المجنَّد لإتمام عملياته".

فيما يعتقد الباحث تيموثي آر هيث أنه سيُجنَّد مزيد من العملاء ويُدرَّبون ليكونوا خبراء في الشأن الصيني، وبمعزل عن تدريب كادر جديد من المرشحين من عملاء الاستخبارات، يرى أنه سيكون من المهمّ أيضاً أن تعتمد واشنطن على تقنيات الذكاء الصناعي للمنافسة في عصر جديد من التجسس، مضيفاً: "وقد يكون الذكاء الصناعي مفيداً في غربلة الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية".

ويأمل المشرعون الأمريكيون، مع مزيد من الموارد المخصصة لمواجهة النفوذ الصيني، أن تجمع أجهزة الاستخبارات معلومات إضافية حول استثمارات بكين البالغة تريليون دولار لتطوير تقنيات متقدمة مثل الذكاء الصناعي والحوسبة الكمية.

وبالحديث عن المحور الصيني، تواجه الاستخبارات الأمريكية مشكلة أعمق في قلب عملياتها، هي أنها قد تكون نسيت "فن التجسس".

هنا يمكن القول إن مهامّ وثقافة وكالة مثل الاستخبارات المركزية قد تَغيَّرَتا، وكذلك مواردها البشرية، وذلك مع اختلاط مزيد من ضباط الوكالة المركزية مع نظرائهم العسكريين، إذ سيطرت عقلية الجيش في جمع المعلومات.

من ناحية أخرى يتساءل المؤلف والضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية أليكس فينلي: "الآن، بعد إعادة هيكلة الوكالة لخوض حروب عالمية على الإرهاب في مناطق عسكرية، هل هي مستعدة للعودة إلى الساحة؟".

في السياق ذاته دُشّن مشروع تبلغ قيمته 84.1 مليار دولار يضمّ مختلف أجهزة الاستخبارات الأمريكية البالغ عددها 17 وكالة ومنظمة تابعة، للعمل باستقلال ينسجم مع تنفيذ أنشطة استخباراتية لدعم الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة.

ولكن كان القلق يتزايد من أن أساليب جمع المعلومات الاستخبارية في واشنطن أصبحت متأخرة عن ركب منافسيها، إذ يقول بعض المراقبين إن مجتمع الاستخبارات الأمريكي يتخبط بشدة عندما يتعلق الأمر بجمع البيانات.

ويزعم تقرير نشره مركز التقدم الأمريكي عام 2020، أن صناعة التجسس هنا "تفتقر إلى رؤى حول أي نوع من الاستخبارات أكثر فائدة لجمع المعلومات الاستخباراتية، الاستخبارات البشرية (HUMINT) أم استخبارات الإشارة (SIGNIT)، أم الاستخبارات الجيوسياسية (GEOINT)".

"ألف حبة رمل"

اجتمع رؤساء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي FBI والاستخبارات العسكرية البريطانية MI5 الشهر الماضي للمشاركة في حدث عامّ لأول مرة على الإطلاق لإرسال إشارة محددة إلى الحكومة الصينية، التي وصفوها بأنها "التحدي الأكثر تغييراً للعبة".

المدير العام لجهاز MI5 كين ماكالوم (يسار) ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر وراي في مؤتمر صحفي مشترك في مقر MI5 بوسط لندن. (AP)

وحينها قال رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي FBI كريستوفر راي إن بكين تستهدف كلّاً من السياسيين ورجال الأعمال كجزء من استراتيجية تُعرَف باسم "ألف حبة من الرمل".

وقد سكّ هذا المصطلح المحلل السابق للشؤون الصينية في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بول دي مور، ويستلزم هذا النهج لجمع المعلومات الاستخبارية جمع بيانات منخفضة المستوى تُدمَج معاً لإنشاء مجموعة أكبر من المعلومات الاستخبارية.

في المقابل يؤكّد الخبير الأمني المقيم في واشنطن الذي تحدث إلى TRT WORLD أن "الصين مكان صعب جدّاً لإجراء عمليات استخباراتية"، مشيراً إلى أن ذلك يرجع إلى أمنها الداخلي الصارم والمراقبة المنتشرة.

بالإضافة إلى ذلك يستشهد بعديد من المزايا التي تمتلكها الصين أكثر من منافسيها في عصر جديد من جمع المعلومات الاستخبارية.

وهنا يؤكد الخبير أن بكين لا تسعى فقط وراء أهداف تجسس تقليدية مثل الأسرار العسكرية أو أسرار الحكومة، بل سخّروا مجموعة كبيرة من الموارد البشرية والتكنولوجيا عالية الدقة للمساهمة في جمع بيانات ضخمة من الشركات والجامعات الأمريكية بطريقة أكثر منهجية من أي وقت مضى.

أما الولايات المتحدة فيقول الخبير الأمني: "لقد استيقظت واشنطن للتو على هذا الواقع المعقد، فيما لا تزال عمليات الاستخبارات الأمريكية عالقة في حقبة ماضية من التعامل مع الدولة القومية، ولم يعُد هذا هو الحال الآن".

هنا تجدر الإشارة إلى أن نهج الصين في جمع المعلومات لا يقتصر على الجانب الأمني الذي يهدف إلى فهم الخصم وقدراته، ولكنه في نفس الوقت يستخدم التكنولوجيا لجمع البيانات عبر المنصات السيبرانية المختلفة.

ويستكمل الخبير الأمني حديثه إلى TRTWORLD قائلاً: "إذا نظرت إلى كيفية بروز الصين كرائدة في تكنولوجيا الجيل الخامس 5G، فستجد أن عملاق الاتصالات الصيني هواوي كان في القلب من الحروب التقنية المتزايدة".

وأضاف أن مخاوف متزايدة تتعلق بالأمن القومي بشأن أجهزة الشركة الصينية في الولايات المتحدة التي تتعرض لمعلومات حساسة يمكن أن تقع في أيدي الحكومة الصينية بسهولة.

من جانبه ينكر العملاق الصيني هواوي (شركة تكنولوجيا صينية خاصة) وجود صلة مع الحكومة الصينية في بكين، وتصرّ على أنها تستهدف دخول سوق شبكات الجيل الخامس 5G من قبل الشركات الأمريكية.

وعلى نقيض الادعاءات الصينية وثّقَت شبكة CNN الأمريكية في تقرير حصري لها نُشر الشهر الماضي كيف حقق المسؤولون الفيدراليون الأمريكيون في مشتريات الأراضي الصينية بالقرب من البنية التحتية الحيوية، وعرقلوا جهود زرع أجهزة تنصُّت بالقرب من المرافق الحكومية والعسكرية.

فيما اكتفت الصين وشركة هواوي بنفي أي جهود تجسُّس مزعومة بعد تقرير الشبكة الإعلامية الأمريكية.

على الجانب الأمريكي في الوقت نفسه نجد أن رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي يحثّ الشركات الأمريكية على التعاون مع فرق مكتبه في هذا الأمر، مؤكداً أن "قراصنة من الصين" ثبّتوا أكثر من 10000 باب خلفي في شبكات أمريكية (الأبواب الخلفية نافذة برمجية يضعها القراصنة لتمكنهم من الوصول والتحكم أو نقل البيانات من الشبكات لاحقاً)، مشيراً إلى الشركات الصينية مرتبطة صراحةً أو ضمناً بحكومتها.

في هذا الإطار يقول مكتب التحقيقات الفيدرالي: "لقد وصلنا الآن إلى النقطة التي يفتح فيها المكتب قضية مكافحة تجسس جديدة متعلقة بالصين كل 10 ساعات".



TRT عربي