تابعنا
لا يمكن لدولة بإمكانات وأعباء اليونان تحمل فاتورة مواجهة عسكرية سيما أن شعبها محبط جراء برامج متلاحقة فرضت على حكوماته.

تسببت أزمة كورونا في تعميق الأزمة الطاحنة التي يمر بها الاقتصاد اليوناني منذ عشر سنوات كاملة، كان خلالها قاب قوسين أو أدني من إشهار الإفلاس، مما أجبر الحكومات المتعاقبة على الاعتماد على حزم المساعدات الأوروبية، والتي فرضت على الشعب خططاً تقشفية وإجراء إصلاحات مالية أضرت بالمواطن اليوناني كنتيجة لتقليص برامج الرعاية الاجتماعية، وغيرها من البرامج التي وضعت كشروط للحصول على تلك المساعدات.

وأدت سياسة التقشف التي فرضها الدائنون على الحكومات اليونانية المتعاقبة إلى عشرات الإضرابات ومئات الاحتجاجات التي تخللتها أعمال عنف واسعة، كما أدت إلى التأثير السلبي على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ما أدخل البلاد في نفق الركود الاقتصادي بسبب تراجع الاستهلاك المحلي، علاوة على سقوط أكثر من ثلث السكان تحت عتبة الفقر.

وكانت اليونان في أعقاب أزمة المديونية الحادة التي ضربتها عام 2010 قد حصلت على مساعدات من صندوق النقد الدولي وشركائها في الاتحاد الأوروبي قدرت بنحو 289 مليار يورو، استلمتها على ثلاث حزم مساعدات في الأعوام 2010 و2012 و2015، وفي المقابل، اضطر اليونانيون إلى تطبيق مئات الإصلاحات المؤلمة، وكان هدفها الأساسي تصحيح مسار المالية العامة للدولة، هذا بالإضافة إلى وضع البلاد تحت وصاية الاتحاد الأوروبي المشروطة بتحقيق فائض أولي في الموازنة العامة.

وبنهاية الحزمة الثالثة للمساعدات حققت مؤشرات الاقتصاد اليوناني ما وصف بالنجاح المبدئي، لا سيما على صعيد تخفيض البطالة من 26% في بداية الأزمة إلى 18% بنهاية عام 2018، وقد علقت وكالة ستاندارد أند بورز للتصنيف الائتماني على تحسن معدلات البطالة بقولها إن معدلات البطالة لا تزال الأسوأ في أوروبا، رغم انخفاضها لأول مرة إلى أقل من 20% في عام 2018، انخفاضاً من 20.5% في 2017، وبعدما بلغت 27.9% في 2013.

كما حققت الموازنة العامة بنهاية العام الماضي فائضاً أولياً- يحسب باستثناء فوائد الدين العام من إجمالي العجز- نسبته 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما أهّل اليونان للحصول على منحة أوروبية جديدة بقيمة 970 مليون يورو، والتي تعد الدفعة الأولى من حزمة إنقاذ بقيمة 4.8 مليار يورو تعهد بها دائنو منطقة اليورو لليونان حتى عام 2022، في إطار برنامج ما بعد الإنقاذ في أثينا.

ولم تخلُ هذه المعاهدات من الاشتراطات الأوروبية كذلك، حيث اشترط المانحون الاستمرار في برامج الإصلاح، خاصة تلك المتعلقة بإصلاح القطاع المصرفي المثقل بكمية ضخمة من القروض المتعثرة ، والتي بلغت نحو 75 مليار يورو (83 مليار دولار)، تعادل نحو 40% من إجمالي قروض البلاد.

وقد أشار صندوق النقد الدولي في عام 2019 إلى أن اليونان عرضة لمجموعة من الصدمات الخارجية والمحلية، وأن البنوك الضعيفة باليونان تضعف من احتمالات النمو وتشكل مخاطر كبيرة على الاستقرار المالي والنقدي، كما توقع أن تتجه نسبة الدين العام بالسبة للناتج المحلي الإجمالي إلى الانخفاض خلال العقد المقبل مع مخاطر سيولة منخفضة نسبياً على المدى المتوسط.

كما أشارت بعض الدراسات حول الاقتصاد اليوناني إلى وجود أكثر من 35% من السكان تحت عتبة الفقر، واضطرارهم إلى قبول رواتب شهرية تقل عن 500 يورو، كما يعيش نصف اليونانيين بدون رواتب تقاعدية لهم أو لأقاربهم، ويؤجل 40% من الأسر زياراتهم للطبيب لأسباب مالية. وأفرز الوضع الصعب سعي الشباب الحثيث نحو الاغتراب والهجرة، وتشير الدراسات إلى وجود 7 من كل 10 شباب تراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً يطمحون إلى مغادرة البلاد.

وقد كسرت تداعيات فيروس كورونا موجة التحسن النسبي لمؤشرات الاقتصاد اليوناني التي تحققت ما بعد عام 2018، لا سيما أن الاقتصاد اليوناني يعتمد بشكل كبير على الأنشطة السياحية، وخاصة على عائدات السفر الدولي، التي بلغت وفقًا لبيانات بنك اليونان (BoG) حوالي 18.2 مليار يورو في عام 2019 ، أي ما يقرب من 56٪ من صادرات الخدمات وحوالي 26٪ من إجمالي الصادرات. لذلك فمن المتوقع أن يكون للاضطراب الكبير في السياحة القادمة آثار سلبية كبيرة على الاقتصاد اليوناني

حيث توقع وزير المالية اليوناني خريستوس ستايكوراس في نيسان الماضي ، انخفاض اقتصاد اليونان بما يعادل من 5 إلى 10%، بسبب آثار فيروس كورونا على الاقتصاد، كما أعلنت اليونان مؤخراً أن اقتصاد البلاد سجل خلال الربع الثاني من العام الحالي انكماشاً بمعدل 15.2% من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بالفترة المقابلة من العام الماضي.

وتتوقع وزارة المالية اجمالاً لعام 2020 أنه بافتراض حدوث انتعاش بطيء في حركة السفر اعتباراً من يوليو 2020 انخفاضاً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.7% وتراجع في التوظيف بنسبة 3.6% في الاقتصاد اليوناني لعام 2020 ، بينما في حالة تخفيف قيود السفر (السيناريو المعاكس) تشير التقديرات إلى حدوث ركود بنسبة 7.9% .

ومن ناحية أخرى، بينما كانت توقعات المفوضية الأوروبية أقل تفاؤلاً، حيث تقدر حدوث ركود بنسبة 9.7% ، وانخفاض في التوظيف بنسبة 3.7% ، ويرجع ذلك أساساً إلى الحصة الكبيرة للسياحة والشحن في صادرات الاقتصاد اليوناني.

وتشير الأرقام السابقة بوضوح إلى أن الاقتصاد اليوناني لم يتعافَ بعد من أزماته المتلاحقة، خاصة وأن الديون لا تزال تمثل 180% من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى الأعباء الجديدة التي فرضها المقرضون على الحكومة والمتمثلة في وجوب تحقق معدلات نمو أكبر من معدلات الإنفاق، ويواجه المتقاعدون اقتطاعات جديدة في الدخل متفق عليها في العام المقبل، في حين من المقرر أن يجري توسيع قاعدة الضرائب في العام الحالي.

لا يمكن لدولة بإمكانات وأعباء اليونان الحالية أن تتحمل فاتورة مواجهة عسكرية، لا سيما أن الشعب اليوناني لا يزال محبطا جراء البرامج المتلاحقة التي فرضت على حكوماته، وفي ظل الطرح التركي حول التقاسم العادل للثروات الذي تحكمه أسس القانون الدولي، يجب الرضوخ لمصالح الشعوب، وعدم الانسياق خلف المؤامرات والنعرات الإيديولوجية، فالحوار وتقريب وجهات النظر، وتقاسم المنافع والمصالح هو الأكثر تحقيقًا لمصالح الجماهير التي لن تزيدها المواجهات العسكرية إلا نكد العيش، وخزائن الأرض تكفي الجميع.

TRT عربي