تابعنا
استند الاقتصاد التركي إزاء تداعيات الانقلاب الفاشل إلى الدعائم الهيكلية لقوته، والتي تتمثل في السوق الداخلية الكبيرة، والاقتصاد المتنوع، والقطاع المصرفي المنظم، علاوة على دعم النمو من خلال الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية.

وفرت محاولات الانقلاب في دول الربيع العربي رؤية ثاقبة لنتائج الحكم الانقلابي على مختلف الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان التي نجحت فيها تلك الانقلابات والتي نحتت شعار محاربة الأشرار، وفرضت أحكام الطوارئ، وسحقت كرامة المواطن، وزجت أطياف المعارضة في السجون، وأحدثت شروخاً عميقة داخل النسيج الاجتماعي، علاوة على تكبيل البلدان بشروط اقتراض من مؤسسات هيمنة عالمية، وزيادة الفقر إلى حدود غير مسبوقة.

كان ذلك من الممكن أن يكون المصير المتوقع للشعب التركي في حال نجاح المحاولة الانقلابية الفاشلة، لكن وعي الشعب التركي الديموقراطي وتجربته السلبية الطويلة مع الحكم العسكري، شكّلا حاجزاً منيعاً ضد الراديكالية العسكرية، التي لم تقدم للشعب التركي إلا التخلف الاقتصادي، والأزمات المتوالية، والوعود الزائفة، ورغم الضغوط الاقتصادية الهائلة التي تعرضت لها تركيا بعد محاولة الانقلاب، إلا أنه سرعان ما استقرت الأوضاع، لا سيما بعد استبعاد من كانوا يعملون ضد مصلحة الشعب.

استند الاقتصاد التركي إزاء تداعيات الانقلاب الفاشل إلى الدعائم الهيكلية لقوته، والتي تتمثل في السوق الداخلية الكبيرة، والاقتصاد المتنوع، والقطاع المصرفي المنظم، علاوة على دعم النمو من خلال الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية في مجالات الطاقة والنقل والصحة وغيرها، والتي يتم تمويلها في العادة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، إضافة إلى مجموعة قوانين وحوافز شجعت المستثمرين الأجانب على القدوم إلى السوق التركية، مما كان له الأثر الأكبر في معاودة المؤشرات الاقتصادية ارتفاعها وفي فترة زمنية قياسية.

فعلى صعيد الاقتصاد الكلي حقق الناتج المحلي الإجمالي تعافياً مذهلاً بعد إفشال الانقلاب العسكري في 2016 والذي مثّل نكسة لهذا المعدل، حيث وصل إلى 2.9% فقط، بينما تنامى إلى 7.4% عام 2017، ورغم انخفاضه بعد ذلك لأسباب التعديلات الدستورية والانتخابات البرلمانية والرئاسية، إلا أنه عاود إلى الارتفاع ليسجل بحسب تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية، نسبة نمو قياسية بلغت 4.5% عن الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2020.

كما تزايدت الصادرات التركية بصورة مضطردة بعيد محاولة الانقلاب، حيث تناقصت إلى 142.6 مليار دولار عام 2016 لتتجاوز 180 مليار دولار عام 2019، لتراجع العجز التجاري الخارجي خلال العام الماضي بنسبة 44.9%، إلى نحو ثلاثين مليار دولار مقابل 54.3 مليار العام قبل الماضي.

ونجح الاقتصاد التركي في كبح جماح معدلات التضخم والتي تأثرت بانخفاض الليرة التركية، والذي بلغ في أكتوبر 2018 قرابة 25.4%، وهي النسبة الأعلى خلال الـ15 عاماً الأخيرة ، لتبدأ سلسلة من الانخفاضات المتوالية عاد بها إلى خانة الآحاد مرة أخرى، بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة، والمتمثلة بشكل أساسي برفع أسعار الفائدة وتبني سياسة أكثر انكماشية مكنت الحكومة من امتصاص التضخم ليصل في أكتوبر 2019، إلى 8.22%.

كما تراجعت معدلات البطالة في تركيا إلى 14.1% في المتوسط في عام 2019، منخفضة من أعلى مستوياتها في نحو عشر سنوات وفقاً لبيانات معهد الإحصاء التركي.

ورغم التأثير الإيجابي لارتفاع أسعار الفائدة على استقرار وتحسن سعر صرف الليرة التركية وانخفاض معدلات التضخم، إلا أن أثره السلبي كان ملحوظاً على معدلات الاستثمار والنمو وخلق فرص العمل، حيث يتسبب في رفع التكلفة الإنتاجية مما يدعم حالة الانكماش وتكدس الأموال و ركودها في البنوك، إضافة إلى دورها في زيادة تكاليف إصدار السندات والأذونات وهو ما يزيد من الأعباء على كاهل الحكومة، الأمر الذي دفع الإدارة التركية إلى الإقدام على خطوة جسورة بإقالة محافظ البنك المركزي، وتبنيها لسياسة خفض أسعار الفائدة.

وقد أقر البنك المركزي التركي سلسلة تخفيضات - بواقع تسع مرات متتالية - على أسعار الفائدة، بدأت منذ منتصف عام 2019 حيث كانت أسعار الفائدة حوالي 24% ، لتبلغ في مايو الفائت 8.25% فقط، وهو ما انعكس إيجابيًا على كل المؤشرات الاقتصادية التركية بل وعلى نشر حالة من التفاؤل بتحقيقها مستويات قياسية أقرت بها المؤسسات الدولية.

ورغم أزمة الانقلاب الفاشل، إلا أن الحكومة التركية أصرت على التوسع في الإنفاق على قطاعي الصحة والتعليم، ووفقاً لتقرير الحكومة بلغت النفقاتُ على التعليم والرعاية الصحية 111.8 مليار ليرة تركية (أي ما يعادل 29.4 مليار دولار) لعام 2017، بنسبة زيادة بلغت 23.6%.

كما ارتفعت نفقاتُ التعليم بنسبة 8.6%، مقارنة بموازنة عام 2016. لترتفع مخصصاتهما في موازنة 2020 بنسبة 17.2% وبقيمة 188.6 مليار ليرة للصحة، ثم التعليم بنسبة 16.1% بقيمة 176.1 مليار ليرة تركية، لتشكلا الإنفاق الأكبر في الموازنة العامة.

وكنتيجة للدعم الحكومي المتواصل حدثت طفرة كبيرة في الإنتاج الزراعي التركي وتزايدت قيمته من أقل من 40 مليار دولار عام 2002 إلى ما يقارب 60 مليار دولار بنهاية عام 2019، وهو ما أدى إلى زيادة الصادرات الزراعية التركية من 3.7 مليار دولار إلى 17.7 مليار دولار خلال الفترة ذاتها. وبذلك أصبحت تركيا سابع أكبر بلد في العالم للإنتاج الزراعي بشكل عام.

كما انعكس تزايد الإنفاق الحكومي على قطاعي الصحة والتعليم على الخدمات المقدمة للمواطنين، حيث نجحت الدولة في إنشاء 11 مدينة طبية في غضون السنوات الـ18 الماضية، بلغت سعتها 16 ألف سرير، و1526 مستشفى جديداً، وقرابة 4 آلاف مؤسسة علاجية بسعة 240 ألف سرير، وبفريق مؤلف من مليون و100 ألف من العاملين الصحيين، جاء افتتاح خمسة منها بُعيد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وهو ما ساعد كثيراً في نجاح تركيا في مواجهة ازمة كورونا مقارنة بالعديد من دول العالم الأول.

إضافة الى التطور الكبير في قطاعي التعليم قبل الجامعي والجامعي، ومما يدلل علي هذه النهضة ما أكدته نائبة المدير العام لمعارض قطاع التعليم في الخارج، أن 170 ألف طالب أجنبي يتلقون دراساتهم في جامعات تركيا المختلفة، بما يساهم بحوالي مليار دولار سنوياً في الاقتصاد التركي.

يتمتع الاقتصاد التركي بالعديد من المقومات التي تشكل رافعة لأزمة للنهوض، علاوة على تمتع الدولة التركية بالاستقرار السياسي والاجتماعي الداعم الرئيس لهذا النهوض، وقد تحقق هذا الاستقرار بفضل وعي الشعب التركي، ودفاعه عن تجربته الديمقراطية، وقد بدأ الشعب بالفعل في جني الثمار الاقتصادية لهذا الوعي، وما زالت الكثير من الثمار الواعدة في انتظار موسم الحصاد.

الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال اجتماع في البيت الأبيض (Reuters)
TRT عربي