تابعنا
مع مجيء الرئيس دونالد ترمب أخذت الأجندة النووية تحوز قدراً متعاظماً من الاهتمام، فالوافد الجديد إلى الأبيض والمسكون بحب القوة حتى الجشع وجد في تسخين الخطاب النووي امتيازاً له.

منذ انتهاء الحرب البادرة، وتحقيق المجتمع الدولي خطوات بناءة تجاه حظر انتشار السلاح النووي حتى خيل للكثيرين أن الحديث عن السلاح النووي بات شأناً تاريخياً يتعلق بحقبة سياسية سابقة، فإن الكثير من الأنباء مؤخراً تبعث على إعادة النظر بهذه الفكرة المغرقة بالبساطة. إن نظرة متفحصة على مجريات الأحداث يكشف بأن الأجندة النووية كانت حاضرة على الدوام على طاولة المباحثات المتعلقة بالأمن الدولي. ويكفي للتدليل على ذلك النظر إلى سياسة الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما الخارجية، والتي شكّل فيها التوصّل إلى اتفاق حول الحدّ من برنامج إيران النووي حجر الأساس، ومع مجيء الرئيس دونالد ترمب أخذت الأجندة النووية تحوز قدراً متعاظماً من الاهتمام، فالوافد الجديد إلى الأبيض والمسكون بحب القوة حتى الجشع وجد في تسخين الخطاب النووي امتيازاً له.

فمن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق بشأن برنامج إيران النووي، إلى الانسحاب من اتفاقية القوى النووية المتوسطة التي وقعتها الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي عام 1987، إلى التحركات السرّية لتزويد السعودية بتكنولوجيا نووية حساسة، إلى التعاطي السطحي مع ملف كوريا الشمالية النووي، يثبت الرئيس ترمب أننا بصدد تصعيدٍ نووي على مستوىً عالمي.

ويعد تعاطي الرئيس ترمب مع ملف كوريا الشمالية النووي الأكثر إثارة للجدل نظراً للسياقات التي فرضتها سياساتها، والمسارات غير المتوقعة. فقد حبس العالم أنفاسه في عام 2017 عندما شنَّ الرئيس ترمب هجوماً كاسحاً على رئيس كوريا الشمالية مهدداً إياه "بالنار والغضب كما لم ير العالم مثيلاً له من قبل"؛ وذلك على خلفية قيام كوريا الشمالية في سبتمبر /أيلول من العام ذاته بتجربتها النووية السادسة والتي حملت دليلاً على أن كوريا الشمالية أصبحت بمقدورها إطلاق صواريخ بالستية خارج نطاقها المباشر، وأن برنامجها النووي يتطور بشكل أسرع من تقييمات وكالات الاستخبارات الأمريكية.

من جانبها، لم تبخل كوريا الشمالية بنصيبها من التهديد المتبادل عندما توعّدت بقصف الأراضي الأمريكية في جزيرة غوام، جنباً إلى جنب مع الأراضي الأسترالية بصواريخ بالستية مزودة برؤوس نووية، جاءت هذه التصريحات على خلفية اكتساب كوريا الشمالية ثقة أكبر في الآونة الأخيرة؛ جراء النجاحات التي حققتها فيما يتعلق بتجاربها الصاروخية والنووية على حد سواء. وبالرغم من الشكوك التي مازالت تنتاب نجاعة برنامجها النووي والصاروخي تقنياً، ومدى دقتها في إصابة أهدافها فإن كوريا الشمالية باتت تمتلك بترسانتها صواريخ من مديات متعددة تشكّل تهديداً حقيقياً على جيرانها.

وتمتلك كوريا الشمالية حالياً في ترسانتها الصاروخ البالستي قصير المدى Hwasong-12، ويبلغ مداه 4500 كم، وهو ما يضع القواعد العسكرية الأمريكية في جزيرة غوام في المحيط الهادئ تحت نيرانه مباشرة. أما النسخة المطورة منه فهو Hwasong-14، ويعدّ أول صاروخ بالستي عابر للقارات حقيقي تمتلكه كوريا الشمالية، ويصل مداه الأفقي إلى 10ألف كم، ما يضع مدينة نيويورك في نطاقه الناري.

وأخيراً هناك صاروخ طويل المدى من نوع Hwasong-15، والذي يصل إلى مسافة 13ألف كم، ويعدّ الأكثر تطوراً في ترسانة كوريا الشمالية، وهو بهذه الإمكانات يضع كل الأراضي الأمريكي ضمن دائرة الاستهداف.

وقد استطاعت كوريا الشمالية إحداث نقلات نوعية في تطوير برنامجها الصاروخي مؤخراً؛ والسبب في ذلك يعزوه مايكل إيلمان، وهو المدير المؤقت لبرنامج الحدّ من الانتشار النووي والسياسية النووية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS، إلى أن بيونيانغ قد حصلت على محركات تعمل بالوقود السائل عالي الأداء LPE من مصادر أجنبية عن طريق شبكات غير مشروعة تعمل في السوق السوداء لكل من روسيا وأوكرانيا وربما من الصين أيضا.

أسفر الحصول على هذه التكنولوجيا عن نجاح كوريا الشمالية بإجراء أكبر تجربة نووية في تاريخها في موقع "بوغي ري" "Punggye-ri"؛ وهي التجربة التي حدثت بتاريخ 3 سبتمبر/ أيلول2017 وتراوحت قوتها التفجيرية ما بين 100 إلى 370 كيلوطناً. ومن الجدير بالذكر فإن تفجير بقدرة 100 كيلوطناً من شأنه أن يعطي من الطاقة التفجيرية ما يفوق الطاقة التي تولّدت عن القنبلة الأمريكية، التي أولقيت على هيروشيما في العام 1945.

ربما جرت العادة على أن الدولة التي تصل إلى امتلاك قدرات نووية كافية لاستخدامها تبدأ لديها الرغبة في الدخول في مفاوضات مع المجتمع الدولي من أجل الحصول على الاعتراف بوضعها القائم كدولة نووية. أو أنها تريد من خلال الدخول في المفاوضات إلى اكتساب مزيد من الوقت كافٍ بما يسمح لها للوصول إلى العتبة النووية التي يجد المجتمع الدولي نفسه عندها مضطراً للاعتراف بها كدولة نووية، ويحضر هنا المثال الباكستاني، فقد بدأت باكستان تطوير برنامجها النووي في سبعينيات القرن العشرين، وأجرت أول تجربة نووية ناجحة عام 1998؛ لتخضع إسلام أباد بعدها مباشرة للعقوبات الأمريكية الاقتصادية، والتي استمرت بدورها حتى العام 2001 عندما رأت واشنطن ضرورة التحالف مع باكستان في حربها الكونية على الإرهاب وغزو أفغانستان؛ وبذلك تم الغضّ عن برنامجها النووي، وتمّ القبول بها بحكم الأمر الواقع كعضو في النادي النووي. ويُعتقد أن باكستان تمتلك حالياَ ما يقرب من 150 رأساً نووياً متفجراً.

وقد أثبتت كوريا الشمالية التي بدأت باختباراتها النووية عام 2006 أنها تحسن استخدام برنامجها النووي في التفاوض مع المجتمع الدولي وفق ذات المنطق؛ فحتى الآن تخضع كوريا الشمالية سلاحها النووي لمنطق الابتزاز مستفيدة من موقعها الاستراتيجي، الذي يتوسط قوتيين عظمَيين هما الصين والولايات المتحدة.

فكوريا الشمالية تبتز الصين لكي تطعمها بالقدر الكافي حتى لا تضغط على الزر النووي إذا ما جاعت أكثر، وتبتز الولايات المتحدة حتى لا تضغط عليها بالقدر الكافي الذي يضطرها للضغط على الزر وقلب الطاولة على الجميع.

يعتبر جون ميرشايمر -وهو أحد أبرز منظري المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، أن الدولة ذات الأهمية في النظام الدولي هي الدولة العظمى كالولايات المتحدة والصين أو أية دولة تجاور إحدى الدول العظمى، تفهم كوريا الشمالية هذا الأمر جيداً، فهي تدرك أن الصين لا يمكن أن تتسامح مع سقوط نظام "كيم"، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الطريق أمام توحيد الجزيرة الكورية تحت هيمنة كوريا الجنوبية الحليفة المقرّبة من الولايات المتحدة،و الأمر الذي من شأنه أن يهدد مصالح الصين الحيوية.

كما أنها تفهم، أي كوريا الشمالية، أن الولايات المتحدة ليست بصدد الضغط على كوريا الشمالية بالقدر الذي يهدد نظامها السياسي لما في ذلك من استفزاز للصين، وهو ما سيخلق معضلات جمّة لمكانة الولايات المتحدة في منطقة جنوب شرق آسيا، كما سيعرض حلفاءها لمخاطر أمنية كبيرة؛ حيث تقع جميع الأراضي اليابانية وكوريا الجنوبية ضمن نطاق صواريخ كوريا الشمالية ومدفعيتها.

وهنا ربما شعر العالم بنوع من الارتياح الكبير للمبادرة، التي اتخذها الزعيمان الرئيس ترمب والرئيس كيم في عقد لقاء قمة مباشرة في سنغافورة في يونيو/حزيران 2018 للإعلان عن بدء تطبيع العلاقات بينهما، ضمن مسار تخلي كوريا الشمالية عن برنامجها النووي مقابل رفع الولايات المتحدة والدول الغربية عقوباتها الاقتصادية عن بيونغ يانغ، لم يدم هذا الارتياح طويلا، فمع فشل القمة الثانية بينهما، والتي عقد في فيتنام في فبراير/شباط 2019، تبين أن مسار دبلوماسية الرئيس ترمب لا تخلو من السذاجة وقصر النظر.

علينا أن نتذكر أن التوصل إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي استغرق ثلاث سنوات من اللقاءات المباشرة بين إيران ومندوبي مجموعة 5+1 (وهي دول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، حتى تمّ التوقيع عليه عام 2015، هذا مع العلم أن إيران لم تصل حينها لمرحلة امتلاك القنبلة النووية، ما يعني بالضرورة أن التفاوض مع دولة نووية مثل كوريا الشمالية يجب أن يستغرق وقتا أطولاً وجهداً دبلوماسياً أكبر من أجل التوصل إلى اتفاق حول برنامجها النووي، يخلط ما بين القوة الناعمة المتمثلة بتخفيف جزء من العقوبات، والقوة الخشنة المتمثلة باستمرار المناورات العسكرية بين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وتأكيدها الذي، لا يشوبه شك بعزمها، على استخدام جميع الوسائل المتاحة للدفاع عنهم في وجه أي اعتداء من كوريا الشمالية.

لا يبدو أن الرئيس ترمب، كما يرى الكثير من المراقبين، يمتلك مثل هذه الإستراتيجية؛ فما زال هنا تساؤل كبير حول الهدف من التعجل في عقد لقاء قمة آخر مع الرئيس"كيم جونغ أون" في فيتنام طالماً لم تتوصل الحكومتين إلى اتفاق مسبق يحتاج فقط لإمضاء الزعيمين بلقاء قمة بروتوكولي، لقد تحوّل لقاء القمة بين الزعيمين إلى فشل ذريع بدلاً من أن يكون اختراقاً دبلوماسياً كما كان يُروّج له، وهذا مكمن الخطورة؛ إذ إن الفشل ضمن منقطة عالية التوتير مثل جنوب شرق آسيا، يصبح أمراً مكلفاً.

لقد كشفت المحادثات في العاصمة الفيتنامية "هانوي" عن وجود فجوة واسعة بين الجانبين؛ فقد سعت كوريا الشمالية إلى إزالة شاملة للعقوبات الاقتصادية، وهو ما رفضته الولايات المتحدة ما لم توافق بيونغ يانغ على تفكيك"مجمع يونغبيون" "Yongbyon" الرئيسي بالإضافة إلى منشآت أخرى، وخطوات جوهرية في نزع سلاحها النووي بشكلٍ كامل.

حاول الرئيس ترمب ألا يخرج بمظهر الفشل الكامل، فقام من جانبه بالتعهّد لنظيره الكوري الشمالي بأن يوقف العمل بالمناورات العسكرية مع كوريا الجنوبية واليابان.

وبالرغم من أن هذه الإيقاف جاء بناء على خلفيات تتعلق بعد رضى الرئيس ترمب عن الانفاق العسكري لحليفيه الآسيويين، فإنها حملت مساعي ترمب لإبقاء مسار الدبلوماسية مفتوحاً عبر مجموعة من الرسائل التصالحية من هذا القبيل.

ولكن يبقى هناك شك في أن تنجح هذه الرسائل التصالحية في تهدئة الأجواء في منطقة جنوب شرق آسيا في ظل حالة التجاهل المخيبة للآمال التي تتبعها إدارة ترمب مع حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة؛ وهما كوريا الجنوبية واليابان.

إن أي سياسة ناجعة في التعاطي مع معضلة كوريا الشمالية تتضمن أن تعمل الولايات المتحدة بشكل مكثّف مع حلفائها، لا أن تدير ظهرها إليهم، هذا، بالإضافة إلى العمل عن كثب مع الصين التي تمتلك مفتاح الحل في يديها، وهذا يتناقض مع سياسة الحرب التجارية التي تتبعها واشنطن مع بكين.

وحتى لا ننسى فإن ملف كوريا الشمالية يعتبر من الأوراق المهمة في جعبة الصين في تنافسها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

ولا شك أن تعزيز الثقة ، كما يرى محللو السياسية الخارجية، يعتبر متطلباً رئيسياً للتواصل إلى أي اتفاق؛ ولقاء القمة لا محالة يأتي ضمن هذا السياق، ولكن بالنظر إلى السياسات الامريكية على الأرض، فإن القمم الدبلوماسية لا تكفي وحدها، فالولايات المتحدة مطالبة بإجراءات أخرى تجاه حلفائها، وتجاه تخفيف التوتر مع الصين، والكفّ عن الانسحاب أحادي الجانب من الاتفاقيات الدولية.

باختصار إن إحداث أي اختراق في ملف كوريا الشمالية النووي يتطلّب، وفق الكثير من التقديرات، إعادة الولايات المتحدة النظر في توجهاتها الإستراتيجية في السياسية الخارجية، والعمل مع المجتمع الدولي، بدلاً من العمل بشكل أحادي الجانب. هناك الكثير ممن يجادلون بإن السياسات قصيرة النظر والسطحية قد تأتي بنتائج عكسية، ومع تواتر تقارير بأن كوريا الشمالية عادت لتفعيل بعض المواقع النووية، التي كانت قد تخلّت عنها سابقاً يصبح إدراك المجتمع الدولي للنتائج العكسية للسياسات السطحية أقرب من ذي قبل.

منشأة Yongbyon للتخصيب اليورانيوم في كوريا الشمالية (Getty Images)
تجربة الصاروخ البالستي Hwasong-12 في كوريا الشمالية بتاريخ 30 أغسطس آب 2017 (Getty Images)
تجربة الصاروخ البالتسي Hwasong-14 في كوريا الشمالية بتاريخ تموز يونيو 2017 (Getty Images)
البناء والمأوى المؤقت الذي تم استخدامه لتعديل واختبار مكونات الصاروخ البالستي من نوع Hwasong-15 (Getty Images)
TRT عربي
الأكثر تداولاً