تابعنا
تهيئ سياسات الرئيس ترمب الأجواء لتسخين الأجندة النووية على المستوى العالمي. والأمر هنا لا يتعلق فقط بالملفين الكوري الشمالي والسعودي ولا حتى بالملف الإيراني، بل يتعلق بإعادة سباق التسلح الصاروخي بين الدول العظمى: أمريكا والصين وروسيا.

احتلّ الملف النووي على المستوى الدولي مكانة مهمة في أجندة الدول العظمى، خصوصاً مع اعتلاء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سُدّة الحكم. كان التهديد المتبادل بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية مقلقاً للغاية، سرعان ما تحول إلى غزل متبادل بين الرئيسين الأمريكي ترمب والكوري الشمالي كيم حونغ أون أسفر عن عقد قمتين بينهما، الأولى في سنغافورة بتاريخ حزيران/يونيو 2018 والثانية في فيتنام بتاريخ شباط/فبراير 2019، وأظهرت نتائجها أنها عبارة عن فشل ذريع من شأنه ربما أن يرفع درجة التوتر في شبه الجزيرة الكورية وربما في العالم أجمع.

صاحَبَ هذه الدراما الأمريكية-الكورية تسريبات كشفت عنها صحيفة واشنطن بوست في شباط/فبراير 2019 حول عزم مسؤولين كبار في إدارة الرئيس ترمب نقل تكنولوجيا نووية متطور إلى السعودية، وهو ما أثار هلعاً داخل دوائر صنع القرار في واشنطن التي اعتبرت هذا النهج غير عقلاني بتاتاً في ظلّ السجل السيئ الذي باتت تحظى به الرياض على المستوى الدولي على خلفية فضيحة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول بتاريخ أكتوبر 2019.

إن الأمر الذي يبعث على القلق حقّاً هو تسخين الأجندة النووية ما بين اللاعبين الكبار كالولايات المتحدة والصين وروسيا، فهذه الدول العظمى هي القادرة وحدها على إعادة تشكيل واقعنا الدولي وفق أجندتها الخاصة.

نبيل عودة
لقد رأى كثيرون في واشنطن وخارجها أن تمليك النظام السعودي تكنولوجيا نووية حساسة من شأنه أن يطلق شرارة سباق تَسلُّح نووي في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة الأكثر هشاشة وخطورة في العالم، الأمر الذي من شأنه أن يعرض أمن وسلامة ملايين البشر للخطر، هذا فضلاً عن التهديد الذي قد يلحق بالمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.

يرى الخبراء الاستراتيجيون أن سياسات الرئيس ترمب تهيئ الأجواء لتسخين الأجندة النووية على المستوى العالمي. فالأمر لا يتعلق فقط بالملفين الكوري الشمالي والسعودي، ولا حتى بالملف الإيراني، إذ انسحبت إدارة الرئيس ترمب من الاتِّفاق النووي الذي وُقّع مع إيران عام 2015، والمعروف اختصاراً بـJCPOA. فهذه الملفات على أهميتها وخطورتها تبقى تراوح في المقاعد الخلفية، على اعتبار أن هذه الدول تصنَّف ضمن القوى الصغيرة أو المتوسطة.

إن الأمر الذي يبعث على القلق حقّاً هو تسخين الأجندة النووية ما بين اللاعبين الكبار كالولايات المتحدة والصين وروسيا، فهذه الدول العظمى هي القادرة وحدها على إعادة تشكيل واقعنا الدولي وفق أجندتها الخاصة. ومنذ مجيء الرئيس ترمب تشهد العلاقة بين هذه الدول العظمى الثلاث توتُّراً ملحوظاً، سواء من خلال الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، أو مع روسيا حول نشر منظومات الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا.

ويوجد على سطح الكوكب 14500 سلاح نووي، تمتلك كل من الولايات المتحدة وروسيا منهم نصيب الأسد بمجموع إجمالي يصل إلى 13500سلاح نووي، في حين يتوزع الباقي والبالغ عددهم 1150 على باقي الدول السبع المتبقية في النادي النووي.

وقد أقدمت إدارة الرئيس دونالد ترمب على اتخاذ خطوة من شأنها أن ترفع حرارة التسخين النووي الدولي درجة أخرى، وذلك عندما أعلنت واشنطن رسميّاً في شباط/فبراير 2019 تعليق التزامها معاهدة الحدّ من القوى النووية متوسطة المدى التي أبرمتها مع الاتحاد السوفييتي عام1987، وتُعرَف اختصاراً بـINF Treaty.

لقد تم التوصُّل إلى الاتِّفاقية بعد جولة من المفاوضات شاقة دامت ستة أشهر، ووقع عليها كل من الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وبموجب الاتِّفاقية يمتنع الطرفان الأمريكي والروسي، عن صنع أو تجريب أو حتى نشر قواعد لصواريخ باليستية أو كروز متوسطة المدى، يتراوح مداها من 500 إلى 5500 كيلومتر.

وقد اعتُبرت هذه المعاهدة حينها واحدة من أهمّ دعامات الأمن الدولي جنباً إلى جنب مع معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية START التي وُقّعت في 1991 ودخلت حيّز التنفيذ في 1994. كان العالم حينها ينظر بعين من الرضا إلى الواقع الجديد الذي بات يتشكل ضمن إطار تنافس القوى الدولية، فمن ناحيةٍ كان سقوط جدار برلين الذي أطلق موجة من التفاؤل هائلة تجاه إحلال سلام دولي تنخرط فيه الدول الكبرى بشكل فعّال، ومن ناحية أخرى كان إبرام تلك المعاهدات التي فتحت الطريق للحَدّ من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وإبجاد فرصة تعميق التعاون الدولي في القضايا ذات الإهتمام العالمي.

لقد شاهد العالم بنوع من الغبطة كيف بدأ الاتحاد السوفييتي بحلول عام 1991 يتخلص من نحو 1792صاروخاً باليستيّاً، في حين تخلصت الولايات المتحدة بدورها من نحو 859 صاروخاً. ولكن تلك الغبطة كان مشكوكاً فيها، فمن وجهة نظر عسكرية بحته يرى العديد من الخبراء أن المعاهدة كانت انتقائية بشكل لافت للنظر.

فقد شملت المعاهدة على سبيل المثال الصواريخ التي تُطلَق من منصات أرضية فقط، لذلك وحسب المعاهدة يُسمح لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (روسيا لاحقاً) نصب الصواريخ متوسط المدى على متن السفن الحربية أو الغواصات النووية القادرة على الانتشار بالقرب من سواحلهم، كما لا تحظر المعادة نشر الصواريخ التي يتجاوز مداها 5500 كيلومتر والتي يمكن أن تصل ضمناً إلى أهداف ضمن هذا النطاق إذا لزم الأمر.

قد يكون منع تطوير الصواريخ متوسطة المدى شيئاً يبعث على التفاؤل، ولكن القصة لا تقف عند هذا الحد، فالمعاهدة لم تحظر الصواريخ التي تطلقها الطائرات بدون طيار أو تلك التي يمكن إطلاقها من الجو أو من الفضاء أو تلك التي يمكن إطلاقها من البحر، كما إنها لا تمنع قوات حلف الشمال الأطلسي من نشر صواريخ متوسطة المدى، ولا تمنع -وهذا الأهمّ- دولة عظمى بحجم الصين من تطوير صواريخ أرضية متوسطة المدى تمكّنها من تهديد الأراضي الروسية والقواعد الأمريكية المنتشرة في المحيط الهادئ.

يبدو أن هذه الثغرات قد قلَّلَت الرهان الذي قد يضعه البعض على هذه المعاهدة لحفظ السلم الدولي، فكثير من الخبراء يجادلون بأن الهدف من المعاهدة لم يكن لأغراض استراتيجية تتعلق بالتوازن الدولي في ما يتعلق بالترسانة الصاروخية، بقدر محاولة كل من الرئيسين حينها ريغان وغورباتشوف الهروب إلى الأمام في محاولة للتعاطي مع الأزمات الاقتصادية التي كان يمر بها بلداهما.

فلم يكن يخفى في ذلك الوقت التدهور الاقتصادي الذي كان يعاني منه الاتحاد السوفييتي والذي أدَّى في النهاية إلى انهياره وتفكُّكه، أما الولايات المتحدة فقد عانى اقتصادها بشكل كبير جرَّاء السياسات الريغانية المتعلقة بالخصخصة النيوليبرالية، وبرامج سباق التسلُّح باهظة الثمن. لذلك فإن التخلص من الترسانة الصاروخية متوسطة المدى عمل على تقليل العبء على الموازنة الأمريكية في الوقت الذي لم ينظر فيه إليها كأنها "سياسة ناعمة" تجاه موسكو، وهو ما كان سيثير ربما صقور المحافظين في إدارته.

ولقد تصاعدت في الآونة الأخير اتهامات متبادلة بين الولايات المتحدة وروسيا حول خروق كل طرف منهما لبنود المعاهدة، وهو الدافع الذي يرى فيه كثير من الخبراء أنه يقف خلف انسحاب الولايات المتحدة منها. ولكن يبدو أنه وفي الوقت الذي تتبادل فيه كل من واشنطن وموسكو الاتهامات، تتجه عيونهما إلى الجارة العملاقة بكين، وتُخفِيان تواطؤاً مُضمَراً حول أهمية التحرر من هذه الاتِّفاقية من أجل البحث عن برامج تسمج بإعادة نوع من التوازن بين هذه القوى الثلاث فيما يتعلق بترسانتهم الصاروخية.

إن أحد أهمّ أسباب انسحاب الولايات المتحدة من الاتِّفاقية هو عدم اشتمالها على الصين التي تمارس عملية تحديث هائلة على ترسانتها العسكرية تضمن تطوير صواريخ بالستية قصيرة ومتوسطة المدى. وتتيح هذه الترسانة المحدَّثة للصين تحدِّي الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها في منطقة غرب المحيط الهادئ. وبطبيعة الحال فهي تثير قلق الجيش الروسي أيضاً، فعلى الرغم من العلاقات الدافئة بين بكين وموسكو في الوقت الراهن، إلا أن الكرملين ينظر بعين القلق إلى تنامي قدرات الصين العسكرية وتغلغلها الاقتصادي في دول وسط آسيا التي تُعتبر الحديقة الخلفية لروسيا.

وفي هذا السياق، يُشير تقرير جديد "للجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الصينية" إلى أن الصين بدأت منذ منتصف التسعينيات إقامة أكبر ترسانة من الصواريخ حول العالم، والأكثر تنوُّعاً. ويتضمن مخزون الصين من الصواريخ أكثر من 2000 صاروخ باليستي وصواريخ كروز، يدخل 95 في المئة منها في نطاق الحظر في حال كانت الصين من ضمن الدول الموقعة على معاهدة INF.

في الحقيقة، تنظر الولايات المتحدة إلى روسيا كمصدر إزعاج وإحباط، ولكنها تنظر إلى الصين كمصدر تهديد. من هنا فإن انسحاب الولايات المتحدة من الاتِّفاقية من شأنه أن يخلق بيئة دولية مواتية لعودة سباق التسلح، ليس بين الولايات المتحدة وروسيا وحسب، بل بين الولايات المتحدة والصين أيضاً.

فهناك تقارير تشير إلى أن الولايات المتحدة تدرس بجدية نشر عدد كبير من صواريخ أرض-أرض متوسطة المدى لردع الصين في المحيط الهادئ. كما أوردت صحيفة نيويورك تايمز أنباء في 19 تشرين أول/أكتوبر 2018 تشير إلى عزم الجيش الأمريكي نشر قواعد إطلاق أرضية لصواريخ توماهوك، مع توسيع خططه لتطوير وإرساء أنظمة أرضية بمدى يتجاوز ألف كيلومتر. إن أسلحة من هذا القبيل ستُفهَم على أنها تهديد مباشر للصين، خصوصاً إذا ما نُشرت على نطاق السلاسل الأولى مثل جزيرة أوكيناوا الواقعة في غرب المحيط الهادئ.

إن العالم يدخل في طور جديد من سباق التسلح، من أبرز معالمه تباهي الرئيس بوتن بامتلاك روسيا جيلاً جديداً من الأسلحة الاستراتيجية، وزيادة الرئيس ترمب ميزانية الدفاع لتصل إلى 750مليارًا واستمرار الصين في تطوير برنامجها الصاروخي الباليستي.

نبيل عودة

يبدو أن اللعبة الدولية الكبرى الآن تحصل في الجبهة الآسيوية من أوراسيا على ضفاف السواحل الجنوبية للمحيط الهادئ مع اشتداد المنافسة بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى. ولكن يجب ألا يمنعنا هذا من النظر بكثير من القلق أيضاً إلى الجبهة الأطلسية من أوراسيا، حيث يرتفع التوتُّر في أوروبا في ظلّ محاولة كل من الولايات المتحدة وروسيا إعادة تلقيم القارة العجوز بجيل جديد من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز.

ففي خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس بوتن أمام حشد من كبار قادة الدولة الروسية في شباط/فبراير2019، أكّد أن روسيا لن تتهاون مع إعادة الولايات المتحدة نشر منصات دفاع صاروخية في بعض الدول الأوروبية القريبة من الحدود الروسية مثل رومانيا وبولندا.

كان الرئيس بوتن متسلحاً بثقة كبيرة وهو يُلقِي خطابه بعد نجاح الجيش الروسي في اختبار إطلاق نوع جديد من الصواريخ البالستية تفوق سرعته سرعة الصوت (Hypersonic Missiles) من نوع Avangard يبلغ مداه 3500 ميل وقادر على المناورة، الأمر الذي يجعل جميع المضادات الصاروخية الأمريكية غير قادرة على إسقاطه.

تدل هذه المؤشرات إلى أن العالم يدخل في طور جديد من سباق التسلح، من أبرز معالمه تباهي الرئيس بوتن بامتلاك روسيا جيلاً جديداً من الأسلحة الاستراتيجية، وزيادة الرئيس ترمب ميزانية الدفاع لتصل إلى 750مليارًا (بزيادة قاربت 100مليار على الميزانية السابقة)، واستمرار الصين في تطوير برنامجها الصاروخي الباليستي إذ بات جيشها على أعتاب امتلاك الصاروخ الأطول مدًى من طراز DF-41 والذي يصل إلى مسافة 15000كيلومتر والقادر على إصابة الأراضي الأمريكية في مدة تقدر بنحو 30 دقيقية، هذا فضلًا عن نجاحها في إطلاق صاروخ من طراز JL-3 من فوق ظهر غواصاتها النووية، وهو قادر على أن يصل إلى مسافة 9000 كيلومتر، ومن المتوقع أن يضاهي في قدراته قدرات الصاروخَين الأمريكي من طراز Trident والروسي من طراز Bulava.

عدد السلاح النووي حسب الدول وفق موقع Statista لعام 2017 (TRT Arabi)
المسار الافتراضي لصاروخ Avangard الروسي القابل للمناورة والعابر للقارات.ا (Getty Images)
مركبات عسكرية صينية تحمل صواريخ DF-5B الاستراتيجية العابرة للقارات (Getty Images)
توقيع معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية متوسطة المدة بين الزعيمن الأمريكي ريغان والسوفيتي غورباتشوف (Getty Images)
إطلاق صاروخ Trident أمريكي الصنع من غواصة نووية (Getty Images)
TRT عربي