تابعنا
لم تتمكن الحكومات العشر التي تسلمت الحكم في تونس منذ اندلاع الثورة في 2011 من محاربة الفساد وإجراء محاكمات عادلة تكشف المتورطين فيه، ويعد هذا الملف من أهم مطالب الشارع التونسي، وأدي تعثره إلى احتقان متزايد ومطالبات بمعالجته في أسرع وقت.

رغم ما نادت به المنظمات المدنية والهيئات القانونية والفاعلون في الحقل السياسي في تونس، من ضرورة محاسبة المتورطين في ملفات فساد من رجال أعمال وسياسيين وشخصيات وازنة، فشلت الحكومات المتعاقبة في البلد منذ قيام الثورة في التعاطي مع الملف بشكل جدي وصارم.

وواجهت تلك الحكومات التهم بتطبيع النخبة السياسية مع طبقة الفاسدين والتغاضي عن الجرائم والتلاعب بأموال الدولة والتونسيين، وسط غياب للرقابة والشفافية.

وأمام الأزمة السياسية في تونس التي وصلت منذ أشهر إلى طريق مسدود وصدام مع رؤساء السلطة، والفشل في استكمال الهيئات القانونية وحل الملفات العالقة، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وازدياد النزيف البشري إثر التفشي السريع لوباء كورونا، اندلعت احتجاجات مستمرة جابت كل الولايات التونسية، رفعت شعارات مطالبة بإيجاد حلول عاجلة لأهم المطالب الاجتماعية والاقتصادية.

وكان الرئيس التونسي في الموعد لاستثمار لحظة غضب الشارع التونسي على الحكومة والسياسيين بكل أطيافهم وتوجهاتهم، ليعلن عن حل الحكومة وتجميد عمل البرلمان استناداً إلى تأويل تعسفي للفصل 80 من الدستور.

ولاقى القرار ترحيباً من فئة واسعة من الشعب التونسي، الذي يأمل أن بتمكن قيس سعيد من إصلاح المسار وفق ما وعد به الجماهير الغاضبة.

ورغم التنديد الدولي والإعلامي ومن المنظمات الحقوقية، ورفض سياسي داخلي لما سمي بانقلاب قرطاج الناعم، مضي سعيد قدماً في اتخاذ مزيد من الإجراءات والتدابير التي كان من بينها تعجيل فتح ملف الفساد لمحاكمة ومحاسبة المتورطين فيه.

وربما كان هذا أكبر إجراء يغازل به الرئيس التونسي المحتجين الذين أنهكتهم أزمة اقتصادية خانقة، وأثار احتقانهم استمرار إفلات الفاسدين من العقاب.

قيس سعيد يقترح صلحاً جزائياً

عقب لقاء جمعه برئيس منظمة الأعراف الأربعاء 28 يوليو/تموز الجاري، صرح قيس سعيد بأن نحو 460 شخصاً متهمون بنهب أموال البلاد، وذلك وفق تقرير صادر عن اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد.

وأشار سعيد إلى أن المبلغ المطلوب منهم يصل إلى حدود 13500 مليار، أي نحو 4.8 مليارات دولار.

وكحل أولي لذلك دعا سعيد إلى تسوية قانونية والإعلان عن صلح جزائي، مؤكداً أنه ليست لديه النية في التنكيل أو الانتقام بأي كان ممّن يدفعون الضرائب.

وقال الرئيس التونسي إثر اللقاء الذي جمعه برئيس منظمة الأعراف: إنه "يجب أن تعود هذه الأموال إلى الشعب التونسي، وسيتم إصدار نص في هذا المجال حول إبرام صلح جزائي مع هؤلاء المتورطين في نهب المال العام عبر ترتيب تنازلي، ليتعهد كل منهم بالقيام بمشاريع في كل المعتمديات بتونس بعد ترتيبها من الأكثر إلى الأقل فقراً، ويكون بذلك الأكثر تورطاً هو من يقوم بالمشاريع في المعتمديات الأكثر فقراً، وهذا ليس استثماراً بل هي أموال الشعب".

وفي ما يتعلق بهذه المشاريع فقد أوضح قيس سعيد بأنها تتمثل أساساً في مدارس ومستشفيات وبنية تحتية تحت إشراف لجنة جهوية.

وفي معرض توضيحه لهذا الإجراء قال سعيد: "أن يجنحوا إلى الصلح أفضل من الملاحقة الجزائية والسجون، ومن يحاول إتلاف بعض الوثائق فهو واهم وسيتحمل المسؤولية أمام القانون" .

ودعا قيس سعيد في الوقت ذاته التجار إلى خفض الأسعار وعدم الاحتكار، والتحلي بالروح الوطنية لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحادة في تونس. وأكد أن الاختيارات الاقتصادية الخاطئة أدت إلى ضغوط مالية كبيرة على تونس.

ووسط ترحيب وتأييد لفئة واسعة، يبدو قيس سعيد مستعداً لاستكمال ما أعلن عنه من إجراءات استثنائية، واستتباعها بمزيد من القرارات.

هل ينجح إجراء قيس سعيد؟

قد يبدو أن الدعم الشعبي النسبي لقرارات سعيد، وجزء من الأحزاب السياسية والمؤسسات الإعلامية، هو الداعم الأساسي حالياً والضمانة الأولى لإمكانية مواصلته إجراءاته التي يقف على رأسها ملف محاربة الفساد الذي لطالما كان ملفاً شائكاً في تونس.

ويبقى نجاحه في إنفاذ قراراته رهن نجاحه في وضع خريطة طريق واضحة، وتأييد واسع شعبي وسياسي.

وتواصل الأحزاب السياسية وبعض الداعمين الأجنبيين للتجربة الديمقراطية الفتية في تونس، في ضغطها للعودة إلى النظام الدستوري وإجراء حوارات ومفاوضات معمقة، تضع حداً أمام تدحرج الأمور نحو الأسوأ وهدم البناء الديمقراطي بعد أن اجتاز شوطاً كبيراً في ذلك.

وإن كان قيس سعيد قد تمكن اليوم، عقب انقلابه الناعم، من مغازلة الجماهير الغاضبة بفتح أكثر الملفات دقة وحساسية، وهي محاسبة الفاسدين والعمل على إعادة الأموال المنهوبة، فإن المقترح نفسه يشير مراقبون ومحللون إلى أنه قدم سابقاً ولم يلق نجاحاً أو تأييداً.

إذ دعا رئيس البرلمان الحالي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في وقت سابق، إلى مصالحة وطنية تشمل رجال الأعمال، مطالباً بإعادة الأموال التي تحصلوا عليها عبر الاستفادة من المنظومة السابقة، وحثهم في الوقت ذاته على الاستثمار في البلاد ولا سيما في المناطق المحرومة.

اعتبرت حينها دعوة الغنوشي تبييضاً للفساد وتطبيعاً مع المتورطين فيه.

وبدوره اقترح الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي قانون المصالحة في مارس/آذار 2015، وبرر السبسي مقترحه بأنه سيعمل على زيادة الأموال المسترجعة من رؤساء المؤسسات الفاسدين، ثم استثمارها في مشاريع تنموية في البلاد، في ظرف اقتصادي صعب.

وبعد سنتين من عرضه، صادق البرلمان التونسي سنة 2017 على قانون المصالحة، وسط اعتراض وتنديد سياسي وحقوقي وشعبي واسع، على اعتبار أنه انتكاسة قوية للثورة التونسية وتبييض للفساد والفاسدين.

وكان من بين هذه الأصوات المعارضة حينها، الرئيس التونسي الحالي قيس سعيد الذي اعتبر أن مشروع قانون المصالحة قد تم إعداده تحت جنح الظلام، ولن يساهم في إعادة الأموال المنهوبة في عهد بن علي، وفق تعبيره.

واليوم يعود سعيد إلى المقترح ذاته ويعلن صلحاً جزائياً مع المتهمين بقضايا فساد، ويلقى دعماً وتأييداً في ذلك.

TRT عربي