تابعنا
احتفالات منقوصة تقيمها فرنسا بمناسبة المئوية الثانية لرحيل نابليون بونابرت، فلا ينسى أنه أعاد فرض العبودية وأظهر عنصريته لصالح البيض ومصالح بلاده التي من أجلها غزا مصر ونكَّل بأهلها، في حين يرى البعض في دخوله مصر حملة تنوير وليست احتلالاً.

توفي نابليون في 5 مايو/آيار 1821 بمنفاه بجزيرة "هيلانة" الواقعة جنوب المحيط الأطلسي، التي أُبعِد إليها بعد هزيمته في معركة "واترلو" أمام بريطانيا واضطراره إلى التنازل عن السلطة عام 1815، ولاحقاً استعادت فرنسا رفاته ليدفن بباريس.

وانتقدت منظمات حقوقية وأحزاب يسارية فرنسية الاحتفال الرسمي بذكرى رحيل نابليون، بسبب إرثه بخاصة في ملف العبودية والتخريب بالمناطق التي احتلها.

تقرير نشرته وكالة رويترز في 3 مايو/أيار الجاري بعنوان "في أقاليم ما وراء البحار الفرنسية إرث نابليون له جانب أكثر إزعاجًا" يوضح كيف أن فرنسا تغض الطرف عن الجوانب الأكثر قسوة لحكم نابليون، وأن الاحتفاء بذكرى رحيله إعلاء للمصالح الضيقة والرخاء الاقتصادي لفرنسا على حساب الحقوق الإنسانية، إذ أعاد نابليون بمرسوم في عام 1802 العبودية بمنطقة بحر الكاريبي الفرنسية وريونيون، وكيف جرى آنذاك قمع الثورات لصالح مُلاك الأراضي البيض وجعل إمبراطوريته أثرى، وهذا الملمح بلا شك يلفت الانتباه إلى الماضي الاستعماري لفرنسا الذي لا تزال آثاره بل لا تزال سياستها الاستعمارية سارية إزاء مستعمراتها السابقة.

وفي حين أن بعض الفرنسيين يتحدثون عن السياسة الاستعمارية والعنصرية لنابليون صراحةً، لا تزال مناهج الدراسة ببلادنا تسمي غزوه لمصر "الحملة"، في محاولة لمنحها غطاء إيجابياً والإيحاء بالنقلة الحضارية التي أحدثتها، ولا ضير من الإشارة إلى بعض جوانبها مثل "فك رموز حجر رشيد" وكتاب وصف مصر.

منظمات حقوقية وأحزاب يسارية فرنسية تنتقد الاحتفال الرسمي بذكرى رحيل نابليون بسبب تاريخه الاستعماري (Getty Images)

تناول ذلك محمد عمارة بكتابه "الغزو الفكري وهم أم حقيقة؟" ففرَّق بين المشترك الإنساني العام الذي يعد مثل الهواء يتشاركه الجميع ويعبر الحدود، وما يدخل تحت الخصوصية الحضارية، فهو كالجيش حركته طبيعية طالما بقيت داخل حدود بلده.

لكن لا مجال لمقارنة هذا بما فعله الفرنسيون بمصر من قتل ونهب واقتحام للأزهر بخيولهم الذي كان منارة العالم الإسلامي حينها ومركز الثورة ضد الفرنسيين.

ويكفي أن نشير كذلك إلى ما ذكره محمد جلال كشك في مقدمة كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" بقوله: "كانت الحملة الفرنسية طليعة الاستعمارية الغربية وكانت تجربة السنوات الثلاث التي قضتها في مصر كافية بإقناع هذه الاستعمارية بأنه ما لم تتم تصفية الدور القيادي الذي يلعبه الأزهر، فلن يمكن لأي استعمار غربي أن يستقر على ضفاف النيل، لقد سقطت مصر خلال ساعات عندما كان أمراء المماليك يتولون الدفاع عنها ودخل نابليون القاهرة مستبشراً حالماً بإمبراطورية الإسكندر، فلما برز دور الأزهر وتحمَّل شيوخه المنتشرون في كل قرية مصرية سواء بالوجود أو التفكير أو التوقير مسؤولية قيادة مقاومة الأمة، لم يبت جيش الاحتلال ليلة واحدة هادئة طوال ثلاث سنوات".

على الرغم من جرائم الفرنسيين وقتلهم المصريين من الإسكندرية حتى القاهرة وشنق العلماء، فإن إصرار بعض الكتاب على تجميل حملة نابليون وضمها إلى المناهج الدراسية في سياق كونها نقلة حضارية لمصر غير مفهوم إلا في إطار ما يعتبره البعض محاولة لمعادلتها بالفتح الإسلامي، فإذا كان عمرو بن العاص أدخل الإسلام إلى مصر فإن نابليون أدخل التنوير، ولعل هذا في سياق حملة ممنهجة عمدت إلى تشويه صورة الأزهر ما قبل وصول الفرنسيين، والادعاء بأن المجتمع المصري كان مفككاً وأن علماء الأزهر كانوا منفصلين عن الواقع، تمهيداً للصورة التي جرى تسويقها لاحقاً بأن دخول الفرنسيين مثَّل مشعل تنوير لمصر.

لكن التفاف المصريين حول الأزهر وعلمائه في مواجهة الفرنسيين يكذِّب كل هذه الادعاءات، وإلا فكيف يلتف الناس حول الأزهر المنفصل عنهم في الأساس؟!

ولعل ما كتبه الجبرتي يوضح باختصار ما عاشه المصريون أثناء الحملة، فيقول في الجزء الثالث من كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" عن رد فعل المصريين بعد ورود أخبار دخول الفرنسيين الإسكندرية: "ولما وردت هذه الأخبار حصل للناس انزعاج وعول أكثر على الفرار والهياج"، وعند خروجهم يقول: "فكان ذلك يوماً مشهوداً وموسماً وبهجة وعيداً وعمت فيه المسلمين المسرات".

بل يخالف ما ذكره نابليون نفسه في مذكراته التي كتبها في منفاه بجزيرة "هيلانة" التي أورد جزءاً منها محمد جلال كشك في الفصل الثاني من كتابه، يقول فيها نابليون: "سأستعمر مصر وأستورد الفنانين والعمال من جميع الأنواع والنساء والممثلين، إن ست سنوات تكفيني للذهاب إلى الهند لو سارت الأمور سيراً طيباً".

ولم يُخفِ نابليون أحلامه بتغريب مصر فتحدث في مذكراته أيضاً عما سمَّاه رفاهية يمكن أن تحدث في مصر بضبط مياه النيل ومضاعفة عدد السكان 4 مرات بفعل المهاجرين الكثيرين من فرنسا واليونان وإيطاليا وبولندا وألمانيا"، لكن المصريين بقيادة الأزهر أدركوا أطماعه الاستعمارية ورفضوا مهمته الحضارية المزعومة.

كذلك فإن دراسة نابليون "الإسلام" وادعاءه الرغبة في اعتناقه يوضح كم كان الإسلام راسخاً بعمق بنفوس المصريين، ويكشف أيضاً نظرة نابليون وما تلاها من محاولات استعمارية لبلادنا للإسلام ومساعي فصله عن حياة الناس وجعل الأزهر وعلمائه في معزل عن المجتمع، لا سيما بعد قيادة الأزهر الثورة ضد الفرنسيين.

بل إن ما فعله سليمان الحلبي الطالب السوري الذي كان يدرس بالأزهر وقتْله كليبر خليفة نابليون يعكس حالة الترابط التي كانت عليها الأمة، وكيف أن الأزهر الجامع مثل رابطة جامعة للأمة لم تفرق بين مصري وشامي ومغربي، ولعل وجود جمجمة سليمان الحلبي بمتحف الإنسان في باريس حتى الآن بجوار رفات عشرات من الثوار والمقاومين العرب خير دليل على تمسُّك فرنسا بماضيها الاستعماري.

مجلة "لوبس L’OBS" الفرنسية نشرت تقريراً للكاتبة "دوان بوي" في مارس/آذار الماضي، أوردت فيه أن أول ما صرح به نابليون بعد انقلاب 1799 هو قوله أمام مجلس الدولة: "أنا أعمل لصالح البيض لأنني أبيض وهذا مبرر كافٍ، ولماذا نمنح الحرية للأفارقة الذين ليست لهم حضارة؟".

هذه النظرة طُبقت على أرض الواقع بالمستعمرات الفرنسية، واستمرار رغبة فرنسا بفرض وصايتها على هذه الدول، بل وظهرت مؤخراً بالنظرة إلى الإسلام بأزمة الرسوم المسيئة إلى الرسول بدعوى حرية التعبير، وانتقلت إلى التضييق على المسلمين الفرنسيين أنفسهم بتشريعات وإجراءات تستهدفهم دون غيرهم تحت مزاعم حماية "قيم الجمهورية".

TRT عربي