الدرون الانتحاري صُنّع بدائياً من طرف قوّات غير نظامية قبل أن يجذب انتباه قيادات الجيوش النظامية (TRT Arabi)
تابعنا

تصدّرت جماعة "أنصار الله" في اليمن المعروفة باسم جماعة الحوثي أخبار الفترة الماضية، بعد أن نفّذت عدداً من الهجمات ذات الفعالية العالية، مستخدمة صواريخ وطائرات مُسيّرة (درون). استطاعت الجماعة المسلّحة غير النظامية أن تخترق حدوداً، وأن تصيب أهدافاً داخل حدود دول تملك جيوشاً نظامية مدجّجة بأحدث الأسلحة والأنظمة الدفاعية كالإمارات والسعودية.

كان من بين الهجمات الأكثر فاعلية والأقوى صدى، ما حدث في الساعات الأولى من صبيحة 14 مايو/أيار 2019، حينما هاجمت سبع طائرات مُسيّرة قادمة من محافظة صعدة اليمنية، محطتَي ضخّ نفطية تابعتين لشركة "أرامكو" السعودية، تقعان على خط نقل النفط الذي يربط الشرق السعودي بغربه.

قطعت الطائرات قرابة ألف كيلومتر داخل العمق السعودي وصولاً إلى منطقتي عفيف والدوادمي، وأحدثت أضراراً جسيمة أدّت إلى توقّف الإمداد، واضطّرت الحكومة السعودية للاعتراف بالهجوم الذي وصفه الحوثيون بأنه "الأكبر منذ بدء العدوان في عمق العدو السعودي".

شدّ الهجوم الذي نفّذته جماعة الحوثي، انتباه العالم؛ أوّلاً لأنه أتى في لحظة تصعيد دولي في منطقة الخليج بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى. وثانياً، لأنه أحدث ضرراً في منشآت حيوية داخل العمق السعودي، باستخدام سلاح جديد -ليس تماماً- بدأ يُعلِن عن نفسه بقوّة: الدرون الانتحاري.

فإذا كانت كلّ الأسلحة الحديثة وليدةَ الصناعات الدفاعية الدولية، ودخلت حيّز التجريب والاستخدام عبر بوابة الجيوش النظامية، فإن الدرون الانتحاري اختار لنفسه مساراً مختلفاً؛ صُنّع بدائياً من طرف قوّات غير نظامية وجماعات مسلّحة، قبل أن يجذب انتباه قيادات الجيوش النظامية، ويُسيّل لعاب شركات تصنيع الأسلحة. يرسم الدرون الانتحاري، بذلك، وجهاً -غير واضح المعالم- لما يُمكن أن تكون عليه حروب المستقبل القريب.

منخفضة الكُلفة، عاليةُ الدقّة

قدّمت جماعة الحوثي النموذجَ الأكثر تطوّراً لاستخدام الدرون الانتحاري بين الجماعات المسلحة غير النظامية في المنطقة. ادّعت الجماعة في فبراير/شباط 2017 تصنيع طائرة مُسيّرة تحت مسمّى "قاصف 1"، التي تبيّن فيما بعد أنها اشتقاق شبيه بمماثلتها الإيرانية "أبابيل 2".

كما أن تقريراً أُمميّاً قُدّم لمجلس الأمن بتاريخ يناير/كانون الثاني 2018، وثّق تطابق عددٍ من قطع "قاصف 1" مع قطع إيرانية الصنع، وأشار التقرير إلى أنّ نُسخاً أخرى من الطائرات المسيّرة الصغيرة التي تستخدمها جماعة الحوثي مبنيّة على نماذج لطائرات متوفرة تجارياً.

يذهب الخبير العسكري فايز الدويري أبعد من ذلك، ويقول لـTRT عربي إن الطائرات التي يستخدمها الحوثيون إيرانية بالكامل، ويتم إدخالها على شكل قطع إلى اليمن، وكل ما يحصل في اليمن هو تركيب وإعادة تجميع هذه الطائرات، وغالباً ما يتم ذلك بإشراف خبراء إيرانيين.

تعتمد، إذن، الجماعات المسلّحة على خبرة دول في صناعة الدرون، سواء بعلاقات مباشرة بين الطرفين كما هو الحال بالنسبة لجماعة الحوثي، أو من خلال الاعتماد على نماذج تمّ الحصول من ساحات القتال كما هو حال تنظيم داعش الإرهابي مثلاً.

غير أنّ السائد في كثير من الحالات، هو الاعتماد على التطوير المحلّي لطائرات مُسيّرة متوفرة تجارياً، يمكن شراؤها كاملة وتطويرها، أو شراء عدد من القطع وتجميعها لاحقاً في ورش محليّة.

تُشير ورقة بحثية نُشرت في "مجلة جامعة جورجتاون للشؤون الدولية"، إلى أن الطائرات المسيّرة التجارية المتوفرة على موقع كأمازون، والتي تتوفر بكثرة لدى الجماعات المسلحة، لا تُباع مع أسلحة أو متفجرات، لكن القيام بتعديل هندسي بسيط، يمكّنها من أن تصبح قادرة على حمل ذخيرة.

بداية عام 2017، كُشف عن وثائق، تعود إلى عام 2015، حصلت عليها الباحثة ڤيرا ميرونوڤا، خلال عملها على بحث في العراق حول مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي. الوثائق التي لا يمكن التحقّق من دقّتها التامّة، حسب ما أشار إليه باحثان في "مركز محاربة الإرهاب"، تُشير على الرغم من ذلك إلى تأسيس داعش لـ"قسم الطيران"، الذي طلب معدّات وقطعاً عسكرية تدخل في تصنيع طائرات بدون طيّار، وذات تكلفة منخفضة في المُجمل.

بعض هذه القطع، متوفّرة للعموم ويمكن شراؤها من مواقع على شبكة الإنترنت. في الحالة اليمنية مثلاً، تبيّن استخدام جماعة الحوثي لطائرات مُسيّرة تعتمد على محرّك من نوع DLE صينيّ الصنع، حسب ما أظهر تقرير لمؤسسة "أبحاث التسليح أثناء الصراعات". ببحث سريع على الشبكة، يتبيّن أنّ نسخاً من هذا المحرّك متوفرة للشراء على موقع هواة بأسعار لا تتعدى في مجملها 1000 دولار.

في هذا الصدد، تقول الباحثة أليسا سيمز، إن ما يجعل الطائرات المُسيّرة ذات شعبيّة عند هذه الجماعات هو "توفّرها وتكلفتها المنخفضة عموماً"، وتضيف "إن طائرات الدرون المتوفرة تجارياً أصبحت أكثر رخصاً وأكثر تطوراً، وأكبر قدرةً على حمل ذخيرة".

قدرات الدرون عموماً، والانتحاري منه على وجه الخصوص، في تطوّر دائم وسريع، ولا يكلّف كثيراً؛ إذ إن بعض النماذج الإيرانية "يمكنها أن تحلّق لأكثر من 36 ساعة، وتقطع مسافة قد تصل إلى 2000 كلم، لكنّها، على الرغم من ذلك، تظلّ أقل تكلفة بكثير من الصواريخ البالستية، ولها دقّة أعلى في كثير من الأحيان، على الرغم من أن قدرتها التدميرية أضعف"، حسب تعبير فايز الدويري.

ذخيرةٌ تتسكّع فوق "عدوّ" مُحتمل

الدرون الانتحاري تسميةٌ شائعة إعلامياً لوصف طائرة مُسيّرة عن بُعد، محمّلة بذخيرة، تحلّق وفق خطّ سير تحدّده أنظمة الملاحة المرتبطة بالأقمار الصناعية، في اتجاه "عدو" محتمل، قبل أن تتحول إلى ما يشبه صاروخاً يهاجم هدفه في سقوط حرّ بدل قصفه من أعلى.

الذخيرة المتسكّعة Loitering munition، هي التسمية العسكرية التي تشير إلى ميزته الأساسية، ذخيرة تحلّق فوق هدف محتمل، تتسكّع لفترة من الزمن حتى تحدد هدفها بدقة ثم تُهاجم.

يشترك الدرون الانتحاري في خصائصه، ويتقاطع عسكرياً مع الصواريخ الطوّافة، ومع سلفه الأصلي الدرون القتالي الموجّه عن بُعد الذي يقصف من أعلى والمعروف عسكرياً باسم UCAV، وتدخل كلها تحت خانة "نُظُم الصواريخ الجوية الفتاكة".

بعد الفترة التي تلت عام 2014، وُثّق استخدام الدرون الانتحاري في العراق وسوريا واليمن وأمريكا الجنوبية بالأساس. في المنطقة العربية، استخدم تنظيم "داعش" الإرهابي الدرون الانتحاري في العراق أولاً ثم في سوريا، كما استخدمته جماعة الحوثي في اليمن.

يُمكن تقسيم الطائرات المسيّرة إلى ثلاثة أنواع رئيسية فضفاضة؛ منها التجاري الذي يُستخدم لأغراض مدنية كتلك التي تستخدم للتصوير، أو التي تستخدمها شركة أمازون لتوصيل البضائع سريعاً، ومنها شبه العسكري الذي يُستخدم للمراقبة والرصد، ومنها القتالي الذي يستطيع حمل ذخيرة أو صواريخ. كما أنها تختلف من حيث الأحجام، والمسافة التي يمكن أن تقطعها، وعدد الساعات التي يمكن أن تقضيها في التحليق.

من الـ"كاميكاز" إلى الذكاء الاصطناعي

خلال الحرب العالمية الثانية، اشتهر اليابانيون باستخدامهم الـ"كاميكاز"؛ الاسم الذي يُشير إلى الطيّار الياباني الذي يقود طائرة محمّلة بالمتفجرات، ويهوي بها نحو هدف عسكري (سفن حربية غالباً).

كان هدف اليابانيين في ذلك الحين، إحداث خسائر جسيمة مع الحفاظ على دقّة إصابة عالية ومحدّدة، وهو الأمر الذي لم تكن تُتيحه قذائف ذلك الوقت، قبل دخول الصواريخ البالستية والصواريخ الطوّافة، وتقنيات التحكم في الإطلاق والمسارات.

اليوم، لا تزالُ الجيوش النظامية تعتمد، بشكلٍ كبير، على الذخيرة المُلقاة من الجو والمسيّرة بالليزر، أو على الصواريخ الطوّافة، غير أن الدرون الانتحاري، الذي يُعيد صورة الكاميكاز، يقدّم لها خياراً جيداً من حيث الدقّة العالية، والتوجيه المستمر حتى لحظة الهجوم، وكذلك وقت الانتظار حتى تحديد الهدف بدقّة.

كل هذه العوامل التي يتفوّق بها الدرون الانتحاري، لا تزال تعتمد في جلّها على العامل البشري (التحكّم عبر اتصال الراديو)، أو على التكنولوجيا المسيّرة بشرياً (أنظمة الملاحة)، وهي أمور تجعل من هذا السلاح عُرضةً للقرصنة وبالتالي التعطيل.

غير أنّ تطور الذكاء الصناعي، قد يجعل من الدرون أكثر استقلالية، ليستطيع القيام بالتحديد البصري والهجوم على هدف محدّد دون الحاجة إلى تدخّل بشري، أو اتصال بشبكة ملاحة أو تسيير، وهو ما يفتح الباب أمام تطوّر خطير سيغيّر وجه الحروب المستقبلية.

أصبحت الشركات الإسرائيلية رائدة عالمياً فيما يخصّ تكنولوجيا الدرون لأغراض التصدير. صناعة الدرون الانتحاري في نموّ مضطرد هناك، كما أن الولايات المتحدة والصين وروسيا تصنّع نسخَها الخاصّة أيضاً. إنه "سلاح تريد كلّ الجيوش-صغيرة كانت أو كبيرة- أن يكون في ترسانتها"، حسب تعبير مجلة نيوزويك الأمريكية.

شهر فبراير/شباط الماضي كان فارقاً فيما يخصّ الإعلان عن دخول الصناعات العسكرية الدولية، والجيوش النظامية على خط الدرون الانتحاري؛ ففي معرض للصناعات العسكرية أُقيم في أبوظبي في الشهر ذاته، أعلنت "مجموعة كلاشينكوف" الروسية عن درون انتحاري تحت مسمّى KUB-UAV، سهل الاستخدام، صغير الحجم، بسعر منخفض، ودقة عالية.

قبلها بقرابة السنتين، كشفت وسائل إعلام أمريكية عن تقرير لقيادة العمليات الخاصة الأمريكية، قدّمته لوزارة الدفاع عام 2016، تطلب فيه مبلغ 24 مليون دولار لتمويل الحصول على 325 درون انتحاري.

تخطيط الجيوش النظامية للحصول على الدرون الانتحاري، جاء لاحقاً لاستخدام جماعات كداعش لها، حول ذلك يقول الصحفي المختص في الشأن العسكري جاريد كيلّر إن "البنتاغون لا يكافح التهديد الجديد فحسب، بل يتعلّم منه أيضاً".

دخول الدرون الانتحاري في ترسانة الجيوش النظامية والجماعات المسلحة غير النظامية، يكشف عن وجه الحروب اللامتكافئة واللامتماثلة وهي حروب المستقبل، حسب تعبير الباحث السياسي حسن أبو هنية. يضيف أبو هنية لـTRT عربي أن إيران على سبيل المثال، تصنّع اليوم بشكل مكثّف هذه الطائرات، لكن لا يمكن أن تستخدمها بشكل مباشر، لأنها فعلياً لا تخوض مواجهات مباشرة ولا تستطيع ذلك. لهذا السبب، فهي تستخدم "جيش الظل" الذي يخوض حرب عصابات، تلك التي أصبحت الطائرات المسيّرة إحدى أدواتها.

الطائرة المسيرة صماد 3 (TRT Arabi)
الطائرة المسيرة قاصف 1 (TRT Arabi)
الطائرة المسيرة قاصف k2 (TRT Arabi)
TRT عربي - وكالات