تابعنا
سعت الدراسات الصادرة عن معاهد الدراسات الإسرائيلية للتحذير ممَّا وصفته بتنامي الأدوار التركية في ملفات الشرق الأوسط، وطالبت دوائر صنع القرار في تل أبيب بتجسيد علاقاتها مع دول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، للوقوف بوجه تركيا معاً.

تعيش العلاقات التركية الإسرائيلية منذ سنوات حالة من التوتر المتنامي في العديد من ملفات المنطقة المتشابكة، ممَّا وجد إسقاطاته وترجماته بزيادة ساحات الاحتكاك وتبادل الاتهامات، وزادته موجة التطبيع الإسرائيلية العربية الخليجية الجارية في الآونة الأخيرة.

بجانب التوتر الرسمي في المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية تجاه تركيا، يصعب على المرء إغفال الدور الخطير الذي تلعبه مراكز البحوث والدراسات الإسرائيلية في التحريض على أنقرة، والتخويف منها، والتحريض عليها، حتى إن كلمة "تركيا" باتت من أكثر الكلمات الرائجة التي يبحث عنها الباحثون الإسرائيليون في لقاءاتهم الدراسية ومؤتمراتهم العلمية، وغدت تركيا أحد أبرز القضايا التي تتناولها وسائل الإعلام وقنوات الأخبار الإسرائيلية.

يجدر في البداية تسليط الضوء على أبرز المراكز البحثية الإسرائيلية المهتمة بالشأن التركي، وتوجهاتها الفكرية، التي تخصص مساحة من الاهتمام لأبرز التطورات والتحولات على الساحة التركية الداخلية، ومن أهمها معهد القدس لأبحاث إسرائيل الأمنية والاستراتيجية، الذي يهدف لتقديم معلومات عن الوضع التركي، وفهم مواضيعه المختلفة، في حين يقدم مركز "ديان" لدراسات الشرق الأوسط إفريقيا، خدماته البحثية فيما يتعلق بتركيا عبر الأبحاث، والمؤتمرات، والمحاضرات الخارجية والداخلية لمحاضرين بارزين في الشأن التركي.

في حين يعتبر معهد دراسات الأمن القومي (INSS) من أبرز المراكز البحثية الإسرائيلية المنشغلة بتركيا، وتم تصنيفه في 2008 كواحد من أبرز عشرة مراكز عالمياً، ويعقد مؤتمراً سنوياً يلخص فيه الأوضاع الأمنية الاستراتيجية لإسرائيل، وعلاقاتها بالدول المجاورة، وعلى رأسها تركيا، ويصدر سنوياً تقديراً استراتيجياً للقضايا الأمنية التي تمس إسرائيل، ويفرد فصلاً خاصاً عن تركيا.

من الصعوبة أن نقفز عن معهد السياسات والاستراتيجية (IPS) في هرتسيليا، الذي يعقد مؤتمراً سنوياً يحضره العديد من النخب السياسية والأمنية المحلية والعالمية، ويتناول مركز "بيغن- السادات" للدراسات الاستراتيجية قضايا متعددة تتعلق بتركيا، كما تتصدر تركيا الأوراق البحثية لمعهد القدس للشؤون العامة والدولة، بالتحريض عليها، عبر الدراسات والمقالات والتقديرات الاستراتيجية، ويركز على بلورة سياسة إسرائيلية معادية لها في القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية.

ساهمت المراكز البحثية الإسرائيلية في التحريض الإقليمي والدولي على تركيا، بصورة لا تخطئها العين، وبذلت جهوداً في التأثير على الرأي العام الإسرائيلي تجاهها، بالإشارة بين حين وآخر إلى ما تعتبره خطورة توجهاتها، وزيادة نفوذها في المنطقة، بل السيطرة على مواردها، ومقدراتها.

سعت الدراسات الصادرة عن معاهد الدراسات الإسرائيلية للتحذير ممَّا وصفته بتنامي الأدوار التركية في ملفات الشرق الأوسط، وطالبت دوائر صنع القرار في تل أبيب بتجسيد علاقاتها مع دول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، للوقوف بوجه تركيا معاً، وتحذيرها ممَّا تعتبره ظاهرة معاداة السامية والعداء لليهود، وما باتت تشهده تركيا في السنوات الأخيرة من تنامٍ في كراهية إسرائيل.

ينبع الاهتمام البحثي الإسرائيلي بتركيا من عدة منطلقات، أولها أنهما ارتبطتا بعلاقات تاريخية، وثانيها أن تركيا دولة إقليمية ذات طموحات توسعية، وثالثها أنها ذات علاقات قوية بحركات المقاومة، ممَّا رفعها إلى درجة التهديد الاستراتيجي على إسرائيل، ورابعها استخدامها العداء لإسرائيل كرافعة لطموحاتها التوسعية، لذلك يتم تلخيص التوجهات التركية بأنها عدائية لإسرائيل، من خلال توسعها الإقليمي، وتحولها إلى دولة عظمى.

"يحشر" الباحثون الإسرائيليون أنوفهم في الشأن التركي الداخلي، ويزعمون أن الأوضاع الداخلية في تركيا على صفيح ساخن، مستبعدين حدوث انفراجة في العلاقات معها في ظل حكم العدالة والتنمية بزعامة الرئيس أردوغان، وتبدي مراكز الأبحاث الإسرائيلية اهتماماً لافتاً بأوضاع حقوق الإنسان في تركيا، وما تعتبره ملاحقة من السلطات للمعارضة والصحافة، لا سيما في مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل الذي أبدت تلك المراكز "احتفالاً" به، قبيل الإعلان عن فشله، ومن يدري فقد تكشف المعلومات القادمة أن لإسرائيل دوراً في هذا الانقلاب.

باتت المراكز البحثية الإسرائيلية تعتبر تركيا في الآونة الأخيرة خطراً استراتيجياً عليها، بجانب التحديات الأمنية الكُبرى التي تواجه إسرائيل في المنطقة، وانطلاقاً من هذا التصنيف تحاول تلك المراكز زراعة الخوف من تركيا بالإشارة إلى قدراتها العسكرية، ومساعيها للسيطرة على المنطقة، والتركيز كثيراً على مشروعها الإقليمي، واستغلال العلاقات السيئة بين تركيا والدول التي "طبعت" علاقاتها معها على قاعدة "عدو عدوي صديقي"، وهو ما نراه واضحاً في السلوك السعودي الإماراتي المصري تجاه تركيا.

ترصد المحافل البحثية والدراسية الإسرائيلية مساعي تركيا في فرض نفسها كلاعب مركزي على العديد من الساحات الإقليمية: سوريا، العراق، ليبيا، القوقاز، حيث حققت فيها مصالحها الكبرى، ولعل التصاقها الجغرافي بالعديد منها، والنفوذ العسكري فيها، جعل منها دولة مؤثرة بشكل كبير على هذه الساحات.

الأمر اللافت لدى مراكز البحث الإسرائيلية أنها تتوافق في أن مساعي تركيا لمد نفوذها في المنطقة، وتحويل نفسها إلى إمبراطورية عظمى، ينطلق من دافعية عقائدية تنص على أن عدم توسعها وسيطرتها، وظهور دول إقليمية عظمى، سيُسهم بالضرورة في انكماشها، وتعرضها لمخاطر متعددة.

في هذا الإطار، يربط الباحثون الإسرائيليون بين دعم تركيا للقوى المعادية لإسرائيل، وبين البعدين الأيديولوجي والمصلحي لها، فتركيا تسعى لأن تصبح دولة عظمى في المنطقة، ووجدت في معاداة إسرائيل وسيلة لتحقيق ذلك، ومنذ أن وصل أردوغان إلى السلطة عام 2002 انقلبت بلاده من "حليف" لإسرائيل إلى "عدو".

وقد رصدت مراكز البحث الإسرائيلية توظيف تركيا لجملة من الأدوات في معاداتها لإسرائيل، لعل أهمها التحذير من خطرها على المسجد الأقصى والقدس، ممَّا استقطب حولها المزيد من الجماهير والأنصار الفلسطينيين والعرب والمسلمين، كما تجلى في عقد مؤتمرين عاجلين في إسطنبول عقب إعلان ترامب عن القدس عاصمة لإسرائيل، دوناً عن باقي الدول العربية والإسلامية.

الجديد في التقييمات البحثية الإسرائيلية تجاه التوتر مع تركيا، أنها أخذت منحى جديداً في مرحلة ما بعد التطبيع العربي والخليجي مع إسرائيل، وصدور مواقف حادة وقاسية من أنقرة، ممَّا دفع باحثين إسرائيليين إلى التحذير من أن استمرار التوتر مع تركيا ليس مؤقتاً، ولن يختفي بعد أردوغان، بل يعكس اتجاهات بعيدة المدى في المجتمع التركي، يمكن ترجمتها عبر الاحتكاكات المتكررة مع إسرائيل، لأن رفض التطبيع العربي معها متجذر لدى قطاعات كبيرة من الأتراك، ويشكل انعكاساً للابتعاد عن الغرب، والتضامن المتزايد مع الرسائل الشعبية المعادية لإسرائيل في العالم الإسلامي.

يهدف الموقف التركي النقدي تجاه التطبيع مع إسرائيل إلى اكتساب الشرعية، وفق القراءات البحثية الإسرائيلية، وكسب الأسبقية بين الزعماء العرب والمسلمين، وقد نجح أردوغان في كسب تعاطف أكبر من أي زعيم آخر بين هذه الجماهير، وأصبحت تركيا بقيادته دولة ذات تطلعات وهيمنة تهدد المصالح الإسرائيلية، على الرغم من أنها تظهر درجة معينة من البراغماتية تجاهها، فلم تقطع علاقاتها الدبلوماسية، وتحافظ على علاقات تجارية واسعة، بجانب علاقات الطيران معها، التي تعتبر مهمة للسياحة، والوصول إلى القدس.

تشير القراءة البحثية الإسرائيلية للسياسة التركية في المنطقة، خاصة في مرحلة ما بعد التطبيع، إلى تحولها إلى دولة كبيرة ومهمة في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط، ويتماشى هذا الوضع مع تطلعات أردوغان لتعظيم مكانة بلاده الدولية، بالسعي للهيمنة الإقليمية، والنشاط في الساحة الإسلامية العالمية، والاحتفاظ بوجود عسكري بالعراق وسوريا وقطر والصومال، والهيمنة على بحر إيجة، لعرقلة وصول إسرائيل إلى الأسواق الأوروبية.

يمكن اختتام هذه القراءة باستعراض أهم توصيات الأوساط البحثية الإسرائيلية بتحديد أدوات النفوذ التي قد تكبح جماح القيادة الحالية في تركيا، أولاً وقبل كل شيء على المستوى الاقتصادي، وهو مصدر قوة أردوغان، وقد يصبح نقطة ضعفه، لمنعه من تهديد مصالح إسرائيل الحيوية، وشريكاتها في النظام الإقليمي، ولعلنا نرى اليوم تبعات انخفاض قيمة الليرة، وكبح النمو، والديون المتضخمة، ممَّا جعل الاقتصاد التركي أكثر عرضة للخطر خلال فترة كورونا، وأدى إلى ركود اقتصادي، وحرمها من مصدر دخل مهم بسبب انهيار قطاع السياحة.

تطالب تلك التوصيات بتركيز النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي بشأن تركيا على واشنطن، ومطالبة الإدارة الأمريكية والكونغرس بالسعي لكبح أردوغان، فضلاً عن حشد جماعات الضغط النفطية في الولايات المتحدة لاحتواء الجهود التركية.

كما توصي هذه المراكز البحثية الإسرائيلية بأن تعمل تل أبيب مع القاهرة وأثينا وأبو ظبي، وربما باريس، لتقوية المحور المعادي لأنقرة، وتحريض دول الجوار عليها، خاصة دول البلقان، وتذكيرها بما تزعمه إسرائيل عن الحكم العثماني في الماضي، وتخويف الآخرين منها، لا سيما رومانيا وبلغاريا وصربيا وكوسوفو.

توصيات أخرى لا تقل أهمية ترسلها مراكز البحث الإسرائيلية للمؤسسة الدفاعية ومجتمع المخابرات بضرورة التكيف مع الواقع الذي يشكل فيه السلوك التركي مخاطر على إسرائيل ومصالحها الحيوية، عبر فحص الآثار المترتبة على تكثيف نشاطها البحري، ومتابعة التطورات في مجالها النووي، ومراقبة نشاطها في القدس، وتحييد نفوذها فيها، بزعم أن الأردن ومصر والسعودية ودول الخليج شركاء طبيعيون في إحباط هذا النفوذ، وخلاصتها أن إسرائيل وتركيا لن تعود علاقتهما إلى شهر العسل الذي ساد في حقب تاريخية سابقة.

TRT عربي