البابا فرنسيس (AP)
تابعنا

حلّ البابا فرنسيس قبل فترة ضيفاً على الإمارات العربية المتحدة، في زيارة حملت "طابعاً تاريخياً"، ليس لكونها الأولى من نوعها إلى دولة خليجية فحسب، وإنما لما أحيطت به من طقوس احتفالية، بلغت ذروتها في ترؤس "الحبر الأعظم" أول قدّاس رسولي في شبه الجزيرة العربية، فضلاً عن مشهدية عناقه الحار مع "الإمام الأكبر" شيخ الأزهر أحمد الطيب.

لكنّ ثمة جانباً آخر للحدث، يتمثل فيما أثارته الزيارة من تساؤلات حول عودة "القوة الناعمة" للكرسي الرسولي على المستوى العالمي، وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط، حيث بقي الحضور البابوي المعنوي متركزاً -تاريخياً وبشكل متفاوت غالباً - في البلدان "المشرقية" التي احتضنت مهد المسيحية مثل فلسطين، وسوريا، ولبنان، والأردن. ولا سيما أن زيارة البابا للإمارات تزامنت مع مسعى كنسي متجدد للانخراط في بعض الملفات الدولية الساخنة، كالملف الفنزويلي، حيث أعلن الفاتيكان استعداده للمساهمة في حل سلمي للأزمة السياسية هناك.

تضخيم دور الفاتيكان؟

غير أن مقاربة "القوة الناعمة" للفاتيكان تصطدم بمعضلة هائلة، تتصل بصعوبة فهم طبيعة هذه القوة ومدى تأثيرها، في ظل غموض الديناميات المحركة للسياسة الفاتيكانية من جهة؛ حيث يتداخل العاملان الديني والسياسي على نحو يجعل من الصعب رسم خط فاصل بينهما، واختلاف شكل الحراك السياسي للكرسي الرسولي مقارنة بمثيله في الدول "المدنية" المؤثرة في السياسة الدولية من جهة ثانية.

هذا الغموض يؤكده الكاتب المتخصص في الشؤون الكنسية موريس قديح، الذي يرى، في حديث لـTRT عربي، أن "القريبين من الأوساط الكنسية يميلون إلى تضخيم دور الفاتيكان ونفوذه، مثلما يفعل المعسكر الآخر، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، والذي يقارب الأمر بنظرة أقرب إلى مؤامراتية"، لافتاً إلى أنه "بين هذين الرأيين تضيع الحقيقة".

ويلاحظ قديح "انكفاء في الحضور السياسي للكنيسة في أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، لا سيما بعد زوال حقبة الديكتاتوريات العسكرية، التي دعمتها الكنيسة بهدف الحفاظ على مكتسباتها"، وهو ما ينسحب، بطبيعة الحال، على تراجع الاندفاعة الفاتيكانية في أوروبا الشرقية، بعد عقد التحولات التي شهدتها هذه المنطقة، والعالم عموماً، في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

القريبون من الأوساط الكنسية يميلون إلى تضخيم دور الفاتيكان ونفوذه، مثلما يفعل المعسكر الآخر، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، والذي يقارب الأمر بنظرة أقرب إلى مؤامراتية

موريس قديح

من جهته، يرى الكاتب والأستاذ الجامعي وسام سعادة أن "الدولة البابوية معادلة حاضرة في كل مراحل ومنعطفات السياسة الأوروبية والسياسة الدولية، ولكن ما يتبدل هو الدور ومداه من مرحلة إلى أخرى، وكذلك العنوان الأساسي لهذا الدور".

مما لا شك فيه أن الدور المحوري لبابا الفاتيكان يعد من بين العوامل الأكثر أهمية في مجال السياسة الخارجية، ومن هنا يمكن ملاحظة الترابط بين الاندفاعة السياسية التي شهدتها الكنيسة الكاثوليكية في الثمانينيات، سواء في شرق أوروبا أو أمريكا اللاتينية، بالشخصية الكاريزمية للبابا الراحل يوحنا بولس، وهو ما افتقده الفاتيكان برحيله، ومجيء البابا بندكت السادس عشر خلفه (مع العلم أن الأخير لعب دوراً محورياً في دعم سلفه بوصفه رئيس مجمع العقيدة والإيمان).

ويوضح سعادة لـTRT عربي أنه " بعد رحيل بابا كاريزماتي كيوحنا بولس الثاني وصل بابا محافظ كبندكت السادس عشر، وحدث نوع من الانكفاء على الذات في مرحلته، لكن في الوقت ذاته، وجدت الكنيسة نفسها أمام إلحاح إعادة تنظيم وتصحيح داخلها؛ فكانت استقالة بندكت، الذي يعد مرجعية لاهوتية استثنائية بقطع النظر عن عدم تمكنه من بلورة خط سياسي شامل، حتى في إطار النهج المحافظ كما يراه".

ويشير سعادة إلى أن "انتخاب فرنسيس الأول أتى ليشير إلى اهتمام الفاتيكان بأن يكون على رأسه حبر كاريزماتي إنما معتدل، بمعنى ابتعاده عن علاج الصدمات في الخطوات التي يرعاها للإصلاح التنظيمي والمحاسبة داخل الإكليروس"، لافتاً إلى أن "فرنسيس الأول يلاقي، إلى حد كبير، استحساناً عالمياً في كل مكان، ويرمز دوره بالفعل إلى مفهوم القوة الناعمة إلى حد بعيد".

من هنا، يمكن فهم سبب عودة التساؤلات بشأن التوجهات السياسية للفاتيكان في عهد البابا فرنسيس، الذي يعد شخصية "ثورية" في نظر كثيرين، ما يجعله مؤهلاً للعب الدور المفقود منذ تسعينيات القرن المنصرم، على النحو الذي يحيي الحديث عن "القوة الناعمة" في كل زيارة خارجية يقوم بها.

الدولة البابوية معادلة حاضرة في كل مراحل ومنعطفات السياسة الأوروبية والسياسة الدولية، ولكن ما يتبدل هو الدور ومداه من مرحلة إلى أخرى، وكذلك العنوان الأساسي لهذا الدور

وسام سعادة
مزاحمة لدول كبرى


ولكنْ ثمة مفارقتان مثيرتان للانتباه في مقاربة "القوة الناعمة" للكنيسة الكاثوليكية، الأولى هي أن الحديث عن تمدد الحضور الفاتيكاني يأتي في وقت لا تزال الكنيسة الكاثوليكية تحاول فيه ترميم "البيت الداخلي" من خلال جهود مكثفة لمعالجة أزمة "الفضائح الجنسية" التي تورّط بها بعض رجالها، ما جعلها تنغلق قليلاً على نفسها، في عهد البابا بندكت السادس عشر، الذي أثارت بعض تصريحاته نفوراً أقفل الكثير من الأبواب التي كان يمكن للكرسي الرسولي أن يدخلها في إطار سعيه لتعزيز نفوذه السياسي-الديني على مستوى العالم.

ولا يرى قديح ترابطاً عضوياً بين الأمرين؛ إذ يوضح أن "الدبلوماسية الفاتيكانية لم تتوقف للحظة، لكنّ رصدها يبقى مرتبطاً بأهمية الأحداث التي ينخرط فيها الفاتيكان، وما يطفو على السطح في الدبلوماسية الفاتيكانية الصامتة، التي ظلت تعمل في الكثير من المناطق حول العالم، ولا سيما في أفريقيا، وبالتحديد في البلدان ذات الوجود المسيحي".

أما المفارقة الثانية، فتتصل بواقعية الحديث عن مزاحمة الدبلوماسية الفاتيكانية لدول كبرى في مناطق حساسة تعتبر ميداناً لصراعات حادة على النفوذ، لا سيما بين الولايات المتحدة وروسيا، كأوروبا الشرقية في السابق، والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية حالياً، وذلك بالنظر إلى اختلاف الأهداف، ناهيك عن أدوات العمل، بين "القوة الناعمة" التي يمثلها الفاتيكان و"القوة الخشنة" التي يمتلكها "الكبار".

في هذا السياق، يرى سعادة أن الدور الفاتيكاني "يقف عند حدود معينة، أهمها أن الكنيسة لم تحدد بعد من هو خصمها في هذه المرحلة. ففي كل مرحلة من تاريخها، كانت تحدد، بشكل أو بآخر، الخصم خلاف ما هي الحال اليوم، بالتالي فالواقعي إذاً هو الكلام عن القوة الناعمة – الناعمة!".

ما سبق يثير السؤال حول العلاقة بين الفاتيكان والولايات المتحدة في السياسة الخارجية، خصوصاً أن ثمة حلقة ضائعة تاريخياً في فهم طبيعتها، بخلاف ما هي عليه الحال بالنسبة إلى العلاقات بين الفاتيكان وروسيا، التي تكتسب وضوحها من عوامل تاريخية وجغرافية ودينية معروفة.

ولعل تتبع العلاقات الفاتيكانية – الأمريكية يقود إلى رصد مزيد من التعقيدات، فالجانبان جمعهما تقارب وتقاطع في المصالح، بلغ ذروته في الثمانينيات من القرن المنصرم حين اجتمعا حول أهداف مشتركة، من قبيل محاربة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وضرب حركات التحرر ذات البعد اليساري في أمريكا اللاتينية، بقدر ما فرّقهما اختلاف حاد في الموقف من قضايا دولية ذات أهمية كبرى، كان أبرزها الموقف من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.

الدور الفاتيكاني يقف عند حدود معينة، أهمها أن الكنيسة لم تحدد بعد من هو خصمها في هذه المرحلة؛ ففي كل مرحلة من تاريخها كانت تحدد بشكل أو بآخر الخصم، خلاف ما عليه الحال اليوم، بالتالي فالواقعي إذاً هو الكلام عن القوة الناعمة – الناعمة

وسام سعادة

الأزمة الفنزويلية

ينطلق سعادة من الازمة الفنزويلية، وبشكل عام أكبر الوضع في أمريكا اللاتينية، للحديث عن طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والفاتيكان؛ إذ يوضح "لم نعد في مرحلة الحرب الباردة بالنسبة إلى الفاتيكان، كما أن الفاتيكان، وتحديداً مع بابا من هذه القارة، يدرك أن هناك مشكلة مزمنة لغالبية شعوب أمريكا الوسطى والجنوبية مع الهيمنة الأمريكية الشمالية، كما يدرك أنه لا يوجد أبيض وأسود في الأزمات الداخلية لهذه البلدان".

ويضيف "ينبغي متابعة الدبلوماسية البابوية لحظة بلحظة في فنزويلا، لأنها تنطلق من أرضية مختلفة عن أرضية السياسة الأمريكية؛ فهي تنطلق من أرضية أنه ليس هناك ملائكة صرف ولا شياطين صرف في هذه القارة اليوم، بل هناك سياسات متعثرة وحيويات شعبية متفاوتة، وهناك واقع أن هذه القارة تشكل الكتلة الكاثوليكية الأكبر بين كاثوليك اليوم، لكنها في الوقت نفسه تشهد تراجعاً أو انشقاقاً لعشرات الملايين للانضمام إلى الجماعات الإنجيلية المختلفة.

ويرى سعادة أن "ما يزاحم الإيمان الكاثوليكي في أمريكا اللاتينية وبالنسبة إلى الكنيسة ليس الماركسية اللينينية اليوم ليكون عندها منظار متشدد تجاه كوبا أو فنزويلا. بالعكس، السياسة البابوية تجاه كوبا معاكسة للموقف الأمريكي إلى حد بعيد، وفنزويلا دولة مكتوب دستورها البوليفاري بنكهة كاثوليكية. ويبقى أنه لا يمكن التوقع سلفاً إلى أي حد ستنتقل في هذه الحال من موقع القوة الناعمة الناعمة إلى القوة الناعمة المسيسة".

هذا التعارض ينسحب اليوم، بحسب قديح، على ملفات عديدة يمكن تتبعها لرصد طبيعة العلاقات الفاتيكانية – الأمريكية في عهد البابا فرنسيس، لكنه يشير إلى أن ما يطفو على السطح من مواقف متباينة يقود إلى استنتاجات متعارضة.

الوجود المسيحي في الشرق الأوسط

ويشير قديح في هذا الخصوص إلى مسألتين، الأولى نظرة الـ"استابلشمنت" الأمريكية، حتى في أوساط الديمقراطيين، تجاه مستقبل أوروبا، ولا سيما التركيبة الدينية وملف المهاجرين؛ حيث لا تحظى مواقف الفاتيكان بالترحيب من جانب السياسيين الأمريكيين؛ وأما الثانية، فهي تفاوت المواقف بين الفاتيكان والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولا سيما فيما يتصل بالوجود المسيحي في هذه المنطقة.

ويوضح قديح أن "المؤكد هو وجود قلق فاتيكاني على الديموغرافية المسيحية في الشرق الأوسط، وهو ما يتبدى في دعوات متكررة للجماعات المسيحية بأن تبقى منخرطة في بيئتها، ولكن الأحداث السياسية الجارية ما زالت سابقة لهذا الطرح الطوباوي، وحين يكون الحديث عن دولة كبرى مثل الولايات المتحدة، فمن غير المعروف إلى أية درجة يمكن الاعتداد بموقف الفاتيكان في تغيير السياسات القائمة".

أما سعادة، فيرى أنه "انطلاقاً من اللقاء بين مفتي الأزهر والبابا فرنسيس يمكن القول إن الأولوية الآن في الفاتيكان هي تكريس نظرة كاثوليكية منفتحة بشكل عام على العالم الإسلامي، وهذا له أثره بوجه موجات الإسلاموفوبيا في الغرب. ويبقى أن مقاربة كاثوليكية شاملة لمجمل تطورات الوضع في المنطقة العربية والشرق الأوسط لم تحصل بعد، وإلى حد ما نحن في مرحلة انتقالية على هذا الصعيد بانتظار نضوج لحظة سينودوسية يكون فيها للكنيسة الرسولية وجهة نظرها حول ما آلت إليه الأمور من حروب أهلية وتصدعات كيانية في هذه المنطقة من العالم".

ويختم سعادة قائلاً "طبعاً، كما في كل مكان من العالم اليوم، عين الفاتيكان الأساسية تبقي على تجديد التنظيم الكنسي نفسه، والسؤال يصبح هنا: ماذا عن تجديد البنى التنظيمية للكنيسة في الشرق؟ الجواب برسم الأعوام المقبلة وحتى الآن، لا يبدو أننا عشية ورشة تجديدية على هذا الصعيد".

هل يعيد البابا القوة الناعمة للكنيسة؟ (AP)
من احتفال سابق في الفاتيكان (AP)
TRT عربي