الرئيس الأمريكي جو بايدن  (Evan Vucci/AP)
تابعنا

في الأعراف الدبلوماسية تعتبر المصداقية صنو المكانة من ناحية الأهمية والتأثير، وتعتبران من مصادر القوة التي تحرص الدول على حيازتها من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية. فالقوة في السياسة الدولية لا تقاس وفق حجم القوات العسكرية أو الإمكانات الاقتصادية والبشرية وحسب، بل أيضاً بقواها الناعمة المستمدة من نموذجها القيمي الذي تعتبر المصداقية واحدة من أبرز مكوناته.

وفي الوقت الذي لطالما حاول العديد من الأكاديميين والمحللين إثبات أن المصداقية إنما تحدد وفق مكانة الدولة في النظام الدولي وبناء على أهدافها الاستراتيجية، فإنه منذ مجيء ترمب باتت الفكرة المضادة تترسخ بشكل أكبر. وتتلخص هذه الفكرة حول الدور الرئيسي الذي يمارسه الرؤساء في تحديد مدى مصداقية بلادهم من عدمها.

في وقت سابق، ومن بداية القرن الحادي والعشرين، وتحديداً مع وصول حزب العدالة والتنمية، أخذت مكانة تركيا تتصاعد خصوصاً في العالم العربي وذلك بفضل أمرين رئيسيين هما: الدراما التركية، والمنتجات التركية التي غزت الأسواق العربية بشكل كبير. وبات الجميع تقريباً يتذكر كيف تحول القصر الذي مُثل فيه مسلسل "نور ومهند" إلى مزار للسياح العرب القادمين إلى تركيا، وقد حقق بطلا المسلسل كيفانش تاتليتوج وسونجول أودان شهرة واسعة في العالم العربي، وزارا العديد من البلدان العربية كمشاهير عالميين.

بعيد عام 2009 وعلى إثر المشادة الكلامية بين الرئيس أردوغان ونظيره الإسرائيلي شيمون بيريز في مؤتمر دافوس الاقتصادي حول جرائم "إسرائيل" بحق الفلسطينيين، باتت مصداقية تركيا تتعزز بمواقف الرئيس وتصريحاته. وقد أثبتت بعض الدراسات، مثل الكتاب الذي ألفته دانييل لوبتون بعنوان Reputation for Resolve، أن المصداقية، خصوصاً فيما يتعلق بالتوصل إلى حلول للمشاكل، لا تساعد الدول وحسب بل والقادة الأفراد على تحقيق نتائج مواتية في السياسية الخارجية.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى اليسار، يوبخ الرئيس الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، على اليمين ، قبل الانسحاب من مناقشة في دافوس 2009. (AFP)

والناظر إلى سياسة تركيا الخارجية مؤخراً يدرك الترجمة العملية للمصداقية التي باتت تتمتع بها بين الحلفاء والخصوم على حد سواء. فتركيا وقفت بحزم مع حليفتها في الخليج، دولة قطر، في ذروة الاعتداء عليها من قبل جيرانها في كل من السعودية والإمارات، إبان الأزمة الخليجية التي انطلقت شرارتها بعيد فبركة إعلامية واختراق إلكتروني عام 2017.

كما ساهم الدعم التركي لقوات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً في رد الاعتداء العسكري الذي شنه الانقلابي خليفة حفتر على العاصمة الليبية طرابلس. ولولا هذا الدعم التركي لكنا في العالم العربي أمام نموذج آخر من الانقلابات العسكرية على الحكم المدني.

كما دافعت تركيا عن وجود المعارضة السورية في آخر معاقلها في شمال غرب سوريا، ولم تسمح لقوات النظام بدخول مدينة إدلب عنوة، كما لم تسمح بوجود المنظمات الإرهابية على حدودها خصوصاً مليشيات PYD، وهو ما عطل عملياً تقسيم سوريا إلى أقاليم. وأخيراً وليس آخراً، كان للمساهمة التركية العسكرية والاستشارية والدبلوماسية أثر فعال في تحقيق أذربيجان نصراً ميدانياً وسياسياً على أرمينيا، واستعادة أجزاء كبيرة من أراضيها المحتلة في إقليم قره باغ.

لقد ساهمت مصداقية تركيا في حل العديد من هذه المشكلات أو منع تفاقمها على أقل تقدير. ففي ليبيا أخذت العملية السياسة زخماً جديداً وانتخبت حكومة جديدة، وفي أذربيجان استعيدت الكثير من الأراضي المحتلة، وفي سوريا مُنع وقوع مجازر جديدة ضد المدنيين، وفي قطر مُنع وقوع دولة ذات سيادة تحت احتلال من أشقائها.

بطبيعة الحال، تصبح المصداقية أكثر إلحاحاً كلما تعاظمت مكانة الدول في النظام الدولي. ولذلك لا يمكن الفصل بين مصداقية الدولة وحجمها ومكانتها في السياسة العالمية، كما لا يمكن الفصل بينها وبين طبيعة الرؤساء الحاكمين لها. فمصداقية الدول العظمى، التي هي اللاعب الأساسي في السياسة العالمية، تعتبر أمراً لا مفرّ منه في حفظ النظام العالمي واستقراره. ولأجل ذلك كانت مصداقية الولايات المتحدة المتآكلة بفعل سياسات الرئيس السابق دونالد ترمب، أشد خطراً على السلم العالمي من الأسلحة الأمريكية.

وإذا كان من الصواب الاعتقاد بأن مصداقية الولايات المتحدة لم تبدأ بالتراجع مع ترمب كما يرى بعض المحليين، إلا أنها أخذت تتآكل معه بأشكال أكثر تسارعاً ودراماتيكية. فقد عمل ترمب ضد القيم الأمريكية المعلنة من خلال دعمه صراحة للدكتاتوريين في المنطقة، على رأسهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي نعته "بدكتاتوري المفضل"، في حين صعد من لهجته ضد حلفائه التقليديين كألمانيا واليابان، بل قام بسحب بعض قوات بلاده المتمركزة منذ الحرب العالمية الثانية في ألمانيا.

كما انسحب من العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية كاتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، في حين أبدى ليونة مع خصوم الولايات المتحدة وعلى رأسهم بوتين، وتراجع عن دعم بلاده لمنظمة الصحة الدولية، وهدد بالانسحاب من بعض الاتفاقيات التي عدت لسنوات ركيزة في الأمن الدولي كاتفاقية السماء المفتوحة مع روسيا، وحظر تجارب الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية. والأهم من كل ذلك، انتهاجه لسياسة أحادية الجانب أهملت التعاون المشترك مع الحلفاء، وقللت من دورهم، الأمر الذي دفع أوروبا على سبيل المثال إلى عادة التفكير في مظلة أمنية بعيداً عن الولايات المتحدة.

ترمب في خطابة التحريضي ضد الكونعرس فيما عرف بالأربعاء الأسود  (AA)

ومن هنا تبدو مهمة الرئيس الأمريكي جو بايدن صعبة وملحة في آن واحد. فهي صعبة من حيث إن إدارة بايدن تواجه تركة معقدة خلفها وراءه الرئيس ترمب. فالرئيس مطالب بترميم منظومة تحالفات الولايات المتحدة التقليدية، وهناك شك كبير في قدرة الرئيس بايدن على التجاوز سريعاً لحالة الشك التي زرعها ترمب بين حلفاء واشنطن خصوصاً من الأوروبيين، فليس هناك ضمانة في المستقبل أن لا تأتي نسخة أخرى من ترمب إلى البيت الأبيض، وتقوم مرة أخرى بزعزعة هذا التحالف الذي يعتبر أساسياً في أمن أوروبا الذي تشكل بُعيد الحرب العالمية الثانية.

كما أن ترميم مصداقية الولايات المتحدة يأتي في ظل انقسام داخلي حاد، وهو الانقسام الذي سوف يأخذ وقتاً طويلاً لتجاوز تبعاته الكبيرة على النسيج الداخلي الأمريكي. فانتخاب الرئيس بايدن لا يشكل حلاً للانقسام الداخلي وإنما هو تسكين له لبعض الوقت، وهو ما يجعل من مهمة الرئيس صعبة، فالمصداقية تبدأ من الداخل، وإذا لم تعد الولايات المتحدة بصورة متماسكة داخلياً كما كانت عليه قبل ذلك، فإن الحديث عن ترميم مصداقيتها خارجياً سيكون صعباً للغاية. فالقيم والمثل الأمريكية قد تعرضت لهزة عنيفة عبر عنها اقتحام أنصار الرئيس ترمب للكونغرس الأمريكي في مشهد لم يحدث قط في التاريخ الأمريكي الحديث.

أظهر بحث لوبتون سالف الذكر أيضاً أن القادة لديهم نافذة ضيقة بعد توليهم مناصبهم لتأسيس مصداقيتهم. قد يعتقد "القادة الجدد أن لديهم الوقت الكافي لحل مكامن الخلل في سياستهم الخارجية. لكن الأخطاء المبكرة، وحتى الافتقار إلى الوضوح بشأن قضايا السياسة الخارجية المهمة، يمكن أن تكلفهم تآكل المصداقية في أعين قادة العالم الآخرين". وهذا يعني أن الرئيس بايدن إذا لم يسارع إلى إثبات مصداقية الولايات المتحدة من جديد، فإنه فرصه في تحقيق ذلك سوف تتضاءل مع مرور الوقت.

إلى الآن لا تبدو أجندة الرئيس بايدن واضحة سوى إصراره الواضح على التغلب على جائحة كورونا داخلياً. أما على مستوى السياسية الخارجية فما يزال الغموض والترقب هما سيدا الموقف. ولعل الاختبار الأول الذي واجهته إدارة الرئيس بايدن على المستوى الخارجي جاء مباغتاً وسريعاً، ولكن التعاطي معه كان ، حسب البعض، مخيباً للآمال.

ففي الوقت الذي ما يزال فيه الرئيس يقوم بتوضيب متعلقاته في المكتب البيضاوي عاجلته واقعة الانقلاب العسكري في ميانمار على الرئيسة المدنية المنتخبة أونغ سان سو تشي. لم تعترف الولايات المتحدة بالحكومة العسكرية الجديدة، وطالبت بإطلاق سراح سو تشي، وفرضت عقوبات اقتصادية على بعض المسؤولين العسكريين منهم رئيس ميانمار بالإنابة ميينت سوي، ووزيرة الداخلية سو هتوت، ووزير الدفاع سين وين.

وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات تبدو مهمة، فإنها تأتي في إطار المعقول، وما لم يتخذ الرئيس بايدن إجراءات استثنائية تتناسب مع استثنائية الظروف التي جاء بها من أجل إعادة المسار الديمقراطي في ميانمار، فإن كلمات الرئيس عن دعم الديمقراطية في العالم، وإعادة الولايات المتحدة لمكانتها مجدداً ستعتبر ضرباً من الكتابة على الرمال، وتبعث بخيبة أمل على المستوى الدولي من مصداقية الولايات المتحدة حتى في ظل رئيس يتمتع بخبرة واسعة في العمل الدبلوماسي. فهل تآكلت مصداقية الولايات المتحدة بالقدر الذي لم تعد معه قابلة للتعافي بغض النظر عن شخصية الرئيس؟

TRT عربي