تابعنا
"ليس من المعقول أن تصبّ مياه النيل في البحر المتوسط فيما تعاني إسرائيل مشكلة نقص المياه". ربما لم يتوقف كثيرون أمام كلمات أليعازر أفتاي، رئيس لجنة المياه بالكنيست، عام 1979، حول تطلعات تل أبيب في مياه النهر الإفريقي

"إنه ليس من المعقول أن تصبّ مياه النيل في البحر المتوسط فيما تعاني إسرائيل مشكلة نقص المياه". ربما لم يتوقف كثيرون أمام كلمات أليعازر أفتاي، رئيس لجنة المياه بالكنيست، عام 1979، حول تطلعات تل أبيب في مياه النهر الإفريقي، بخاصة أن البوصلة كانت تنحرف في ذاك التوقيت ناحية تصالح الخصوم بوساطة أمريكية.

40 عاماً من هذا الطرح، عاد الوسيط الأمريكي إلى صدارة المشهد، وفي مفاوضات طرفها مصر أيضاً، لكن هذه المرة مع احتدام الصراع المستعر في حوض النيل، من أجل إلقاء حجر في مياه المفاوضات الراكدة بين القاهرة وأديس أبابا، لحلحلة الواقع المتأزم على طاولة سد النهضة.

حلحلة الأزمة أم فرض الأمر الواقع؟ لصالح مَن تحركت واشنطن بشرق إفريقيا؟

تَبادُل التراشق بين القاهرة وأديس أبابا طوال العقد الأخير، وتعقد المفاوضات في أكثر من مناسبة، خلَّف صورة ضبابية حول سبب استمرار الأزمة بين عواصم النهر حول الحصة السنوية من المياه.

في نوفمبر/تشرين الأول 2019، نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغريدة عبر حسابه الرسمي على تويتر تغريدة، تضمنت صورة من داخل المكتب البيضاوي، جالساً على مقعده الوثير، متوسطاً وزراء خارجية مصر وإثيوبيا والسودان، تحت تعليق: "الاجتماع مع أطراف أزمة سد النهضة الإثيوبي سار بشكل جيد".

للمزيد حول الموضوع، يمكنك قراءة:

سياسة مصر الخارجية وتراجع دورها إقليمياً ودولياً

القيادة السياسية المصرية عوَّلت على رعايةالولايات المتحدةللمفاوضات الثلاثية، أن تجد سبيلاً توافقياً يرعى حقوق جميع الأطراف، معلقة آمالها للتخلص من تبعات الأزمة داخلياً وخارجياً، على الحليف الأمريكي المرتبط مع القاهرة بعلاقات استراتيجية طويلة منذ موافقة توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978.

لكن الأمر كان على النقيض بالنسبة إلى أديس أبابا، التي أعلنت أواخر فبراير/شباط الماضي، انسحابها من اجتماع لوزراء خارجية ومياه الدول الثلاث، في واشنطن، بحضور وزير الخزانة الأمريكية ستيفن منوتشين، قبل ساعات من الموعد المقرر له، معربة عن "خيبة أملها"، من بيان الوزارة الأمريكية بخصوص مفاوضات سد النهضة.

ومع تعقُّد الوساطة الأمريكية وتتابع المفاوضات دون الوصول إلى أرض مشتركة بين أطراف النزاع، عادت المباحثات إلى المربع صفر، ليخيم الغموض على المشهد، في تطور يصبّ في خانة أديس أبابا التي تتحرك دون اكتراث نحو إكمال مخططها في سد النهضة، بمواصلة البناء وملء الخزان.

في المشهد هنا بدا أن التدخل الأمريكي الذي بدأ محايداً، مال قليلاً ناحية مطالب مصر المشروعة، إلا أن المآلات كانت في خدمة التوجه الإثيوبي، ومن خلف الكواليس كان الحليف الإسرائيلي -لكل الأطراف- يصب في صالح بلد المنبع، من خلال نشر منظومة دفاع صاروخي في محيط السد، في رسالة ضمنية بأن الخيار العسكري يحمل في طياته عواقب وخيمة لن يتحملها أطراف الأزمة.

صراع زعامة سياسية في القارة السمراء

الرئيس الأمريكي أعرب في أكثر من مناسبة في اتصالات هاتفية جرت بين البيت الأبيض والاتحادية، خلال العام الماضي، عن حرص واشنطن التامّ على إنجاح مفاوضات سد النهضة، لكن هذا لم يحدث، على مدار نحو 8 أشهر من التفاوض المتردّد.

بل رفضت إثيوبيا توقيع مصر في واشنطن بالأحرف الأولى على المبادئ التوجيهية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، معلنة أنها ستواصل "بناء السد"، بجانب بدء "ملء البحيرة" بما يتوافق مع التوقيع على اتفاقية «إعلان المبادئ» عام 2015.

ورغم توصُّل الدول الثلاث إلى اتفاق في محادثات واشنطن مطلع العام الجاري، يشتمل على جدول لملء خزان السد، وعلى آليات لتخفيف الآثار خلال فترات الجفاف والقحط، فإن إثيوبيا أصرت على أنه لا يزال يتعين عليها وضع اللمسات النهائية، وهو التسويف الذي لم يحرّك ساكناً في الأزمة.

وهنا بدا أن الدخول الأمريكي لم يكن من أجل السد فحسب، ولكن من أجل شغل مقعد المفاوض، لسدّ الطريق أمام طرف آخر كروسيا أو الصين ، في خطوة تهدف إلى حسم صراع النفوذ في القرن الإفريقي، الذي كاد يشعل فتيل الحرب العالمية الثالثة في أواخر سبعينيات القرن الماضي.

مسرح جديد لتقاطع المصالح

وقبل منتصف 2019، وعلى مدار سنوات العقد الماضي، لم تزد بيانات الخارجية الأمريكية على عبارات دبلوماسية فضفاضة، ومناشدات لحثّ أطراف الأزمة بالعمل معاً لحل الخلافات المترتبة حول سد النهضة عن طريق التعاون.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، استضاف الكرملين القمة الروسية-الإفريقية، التي شارك فيها الاتحاد الإفريقي، قبل أن يتطوّر المشهد إلى عرض موسكو لعب دور الوسيط بين مصر وإثيوبيا، الأمر الذي أجبر أمريكا على مراجعة حساباتها سريعاً، باعتبارها أكبر جهة داعمة للدولتين، بمساعدات عسكرية واقتصادية تتخطى مليارَي دولار سنوياً.

التحرك السريع تبلور عقب دعوة رسمية وجهتها القاهرة لواشنطن مطلع أكتوبر الماضي، بعد إعلان مصر فشل المفاوضات المتعلقة بالسد بعدم التوصل إلى اتفاق حول قواعد كيفية تشغيل وملء ما يُعتبر أكبر السدود التي جرى بناؤها في القارة السمراء، لكنّتعنُّت إثيوبيا حول الجدول الزمني لملء الخزان،عصف بطموحات الإدارة الأمريكية الاستعراضية.

أمريكا على خط صراع سدّ «الألفية»

ورغم التشكك في الدوافع، بذل الوسيط الأمريكي، ولو نظرياً، جهوداً ملموسة لتفنيد جذور الخلافات المتعمقة بين مصر وإثيوبيا، الذ يكشف أن الحل في المتناول، خصوصاً أن الاعتراض المصري والسوداني حالياً، لم يكن على السد، بل يتعلق بالجدول الزمني لملء بحيرة سد «النهضة».

وزير الخارجية المصري سامح شكري، من جانبه، أوضح أن التفاوض يتم حالياً بين الدول المشاركة على ملء خزان سد النهضة خلال 10 سنوات، وهو ما دار بجولات التفاوض منذ 2015 حتى الآن.

فيما نقلت وكالة الأنباء الإثيوبية "أينا"، عن وزير الري الإثيوبي سيليشي بيكيلي، أن "دول الحوض اتفقت على ملء السد على مراحل، في موسم الأمطار، خلال الفترة من يوليو/تموز إلى أغسطس/آب، على أن يتواصل الملء في سبتمبر/أيلول حال توافر شروط محددة» لم يذكرها".

ووفقاً لذلك تعتزم أديس أبابا البدء ملء البحيرة البالغة سعتها نحو 74 مليار متر مكعب، خلال فترة تتراوح بين 4 و7 سنوات، وهو ما ترفضه القاهرة والخرطوم، خشية أن يؤثر بالتبعية على حصتيهما من مياه النيل، وما قد ينتج عنه، وفق خبراء، فقر مائي وتصحر للأراضي الزراعية في البلدين.

لكن رغم إمكانية تقارب وجهات النظر، على مدار أشهر التفاوض الثمانية بالحضور الأمريكي، لم تتحلحل الأمور خارج إطار تفاهمات ما تلبث أن تنكص على عقبيها، لتجد مصر نفسها مضطرة أخيراً إلى نقل الملف إلى طاولة مجلس الأمن، بدعم أمريكي أيضاً، ولا مانع من دخول أطراف أخرى لا تهدد واشنطن في مساعيها، مثل الاتحاد الإفريقي.

فشل الوسيط الأمريكي في الملف؟

مع انتصاف يونيو/حزيران الماضي، أعلنت الخارجية المصرية إحالة الملف إلى مجلس الأمن، للوصول إلى حلّ عادل ومتوازن لقضية السد الإثيوبي التي تتفاوض حولها الدول الثلاث منذ 10 سنوات تقريباً، مشيرة إلى أن المحادثات وصلت إلى طريق مسدود بسبب ما وصفته بـ "تعنت" أديس ابابا.

من جانبها، اعتبرت الخارجية الإثيوبية الموقف المصري دليلاً على عدم نية مصر المساهمة في نجاح المفاوضات الثلاثية، مؤكدة في رسالتها أن مشروع السد لا يُلحِق بدول المصبّ أي ضرر، وليس مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين.

تراشق العواصم، وثّق فشل وساطة الولايات المتحدة لإيجاد مخرج للنزاع، الذي يشهد منذ أشهُر تصعيداً لم يخلُ من التلميحات العسكرية.

الحل مقابل 1% من مياه النيل

الجمود الذي غلّف المشهد، والدور الأمريكي المتذبذب، قدّم بُعداً آخر على وقع الحلم الإسرائيلي القديم، الذي برز تحت لافتة عسكرة المياه، بعدما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية، في يوليو الماضي، عن إكمال تل أبيب نشر منظومة الصواريخ Spyder-MR المضادة للطائرات حول سد النهضة.

المنظومة الصاروخية قادرة على إطلاق نوعين مختلفين من الصواريخ من قاذفة واحدة التي يتراوح مداها بين 5 و50 كلم.

وقال موقع «ديبكا» الاستخباراتي الإسرائيلي، إن مكتب عبد الفتاح السيسي شهد مشاورات حول كيفية إقناع إسرائيل بالتوقف عن نشر نظام الصواريخ هذا في إثيوبيا، موضحاً أن تل أبيب رفضت النداءات المباشرة وغير المباشرة من الرئيس المصري الواردة إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وفي خضم الأزمة بين أديس أبابا والقاهرة والخرطوم بشأن ملف سد النهضة، أعربت إسرائيل في أثناء اجتماع عقدته وزيرة الدولة الإثيوبية للشؤون الخارجية هيروت زمين، مع نائبة المدير العامّ للشؤون الإفريقية في وزارة الخارجية الإسرائيلية آينات شيلين، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، استعدادها لتبادل الخبرات مع إثيوبيا في مجال إدارة المياه.

فلاش باك

الدور الإسرائيلي في دول المنبع الذي عدّل معادلة السد، بدأ قبل الشروع في مشروع «النهضة» بسنوات، وبالتوازي مع التوغل في بلد القرن الإفريقي، حيث كشفت دراسة قدمها مركز «ديان» الإسرائيلي، دعم تل أبيب لانفصال جنوب السودان، عبر تعميق الفجوة بين أطراف الصراع، وصل إلى تفتيت السودان، ليجرد مصر من عمقها الاستراتيجي، ويُدخل جوبا طرفاً جديداً في معادلة النيل.

كما أثمر التعاون الإسرائيلي الإثيوبي عن تنفيذ عدد كبير من المشروعات المائية على النيل الأزرق من بينهم 25 سداً من أصل 37 سداً، قامت إثيوبيا بتنفيذها في الفترة من نوفمبر 1989 وحتى منتصف فبراير 1990 بنسبة 67%.

وأسندت الحكومة الإثيوبية إلى إحدى الشركات الإسرائيلية مهمة إدارة وتوزيع ونقل الكهرباء المتوقع توليدها من سد النهضة الجاري تنفيذه، الأمر الذي يؤكد أن سد النهضة حلقة من حلقات المخطط الإسرائيلي لخنق مصر مائياً.

وما بين وساطة أمريكية، وطموحات إسرائيل، ومعاناة مصر بين اتفاقية عنتيبي وتعنت إثيوبيا، أفرز طرحاً ربما ينضج في الكواليس على نار هادئة، ليلبّي الحلم الإسرائيلي القديم-الجديد، بحل الأزمة مقابل حصول إسرائيل على 1% من مياه النيل، بما يعادل 800 مليون متر مكعب من أصل 80 مليار متر سنوياً، هو مجموع إيراد النهر، وهو الطرح الذي ظهر إلى النور على لسان إليشع كالى عام 1974.

ومع تصريحات الدكتور صفوت عبد الدايم، مستشار المجلس العربي للمياه، بأن "بناء إثيوبيا سد النهضة سيؤدي إلى انخفاض حصة مصر من النيل الأزرق ما بين 5 و 10 مليارات متر مكعب سنوياً"، يبرز ما كان ربما مستتراً ربما خلف التباطؤ الأمريكي، بتقديم طرح جديد يجبر مصر على التضحية بـ800 مليون متر مكعب لصالح إسرائيل، والاحتفاظ بالباقي، وتنازل أديس أبابا عن تعنُّت الجدول الزمني، ويصبح هنا حلّاً يرضي الجميع.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً