شهدت بوركينا فاسو انقلابا عسكرياً هو الثاني في أقل من عام.  (Sophie Garcia/AP)
تابعنا

أعلن رئيس بوركينا فاسو بول هنري داميبا استقالته يوم الأحد بعد يومين من التوتر الذي شهدته البلاد إثر المحاولة الانقلابية التي قادتها مجموعة عسكرية موالية لخصمه الجديد الكولونيل إبراهيم تراوري. وكان الانقلابيون سيطروا على مبنى الإذاعة مساء الجمعة، وأعلنوا حل الحكومة وإبطال العمل بالدستور.

فيما هي المرة الثانية التي تشهد فيها البلاد انقلاباً عسكرياً، بعد الأول الذي حمل اللفتنانت كولونيل داميبا إلى السلطة، في 24 يناير/كانون الثاني الماضي. غير أن الانقلاب الأخير حمل معه موجة عداء كبيرة ضد فرنسا، المستعمر القديم واللاعب الدولي النافذ في المنطقة، إذ اتهمها الانقلابيون بدعم الرئيس المخلوع عسكرياً، ما نتج عنه مهاجمة المحتجين سفارتها في واغادوغو.

وتكشف التطورات الأخيرة في بوركينا فاسو فشل باريس في الحفاظ على مصالحها في البلاد، وإبقاء البلد الإفريقي تحت نفوذها. مقابل التنافس الروسي معها على مد روبط مع سلطات واغادوغو، في إعادة لنفس سيناريو ما وقع في مالي، وفي جمهورية إفريقيا الوسطى قبلها.

انقلاب على الهزائم؟

خلال الانقلاب الأول، وفي أثناء تلاوة اللفتنانت كولونيل داميبا إعلان الإطاحة بالحكومة المنتخبة ورئيسها روش مارك كريستيان كابوري، كان فشل هذا الأخير في مكافحة هجمات الجماعات الإرهابية وحماية المدنيين، على رأس الإعلان والمسوغات التي صاغها الانقلابيون للعملية العسكرية التي قادوها لقلب نظام الحكم.

وبعد تسلمه السلطة، وسط إدانات دولية، سواء من حلفاء باريس الأوروبيين أو الإفريقيين متمثلين في "المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا"، يجمع مراقبون، أن داميبا لم يحقق أياً من وعود الأمان والاستقرار التي أعطاها. بالمقابل تزايدت وتيرة الهجمات الإرهابية على البلدات في بوركينا فاسو، تزامناً مع الضربات التي كانت تتلقاها الجماعات في مالي.

وللعام الثاني على التوالي، تحتل بوركينا فاسو صدارة ترتيب دول الساحل خسارة للأرواح جراء هجمات المجموعات الإرهابية. وحسب وكالة الأناضول، في شهر أبريل/نيسان الماضي وحده، قُتل ما لا يقل عن 240 شخصاً، بينهم 108مدنيين. وفي 14 يونيو/ حزيران الماضي، شهدت مدينة ستينغا شرقي البلاد أعنف هجوم إرهابي هذه السنة، سقط جراءه 79 قتيلاً، من بينهم 68 مدنياً و11 عسكرياً.

وترجّح الوكالة في مقال تحليلي، بأن هجوم ستينغا كان النقطة التي أفاضت الكأس، ودفعت بالعسكريين المتذمرين إلى الانقلاب، بقيادة "الضابط المغمور" إبراهيم تراوري. ويؤكد ذلك إحساس داميبا نفسه بأن شيئاً يطبخ في الخفاء للإطاحة به، ما دفعه إلى إعفاء وزير الدفاع وتولي المنصب بدلاً منه قبل أسبوعين، في 13 سبتمبر/أيلول الماضي.

بالمقابل، تطرح أسئلة عديدة بشأن جدوى الوجود العسكري الفرنسي بالبلاد، أمام فشله في كبح نشاط الجماعات الإرهابية التي تبرر من خلالها باريس نشر قواتها هناك. وتنشر فرنسا ما يعادل 800 عسكري في بوركينا فاسو، تتوزع بين قوات "بارخان" ومفرزة القوات الخاصة "سابر" وخبراء عسكريين لتدريب الجيش البوركيني.

كيف فشلت فرنسا في إعادة بوركينا فاسو إلى نفوذها؟

في الأيام الأولى لانقلاب يناير، أدانت باريس ما فعله اللفتنانت كولونيل داميبا، وطالبت بنقل السلطة إلى المدنيين. إذ صرَّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقتها بأنه يدين "بوضوح" ذلك الانقلاب، معتبراً أن "سلسلة الانقلابات العسكرية تثير القلق للغاية، في وقت يجب أن تكون فيه الأولوية في المنطقة لمحاربة الإرهاب".

وفي مؤشرات أخرى على التباعد بين نظام داميبا وباريس، خرج آلاف البوركينيين عقب الانقلاب احتفالاً بنجاحه، في مسيرات نددوا فيها بالوجود الفرنسي هناك، حاملين صور دامبيا (رجل البلاد الجديد)، مرفقة بصور عاصمي غويتا (رئيس المجلس العسكري المالي) والأعلام الروسية.

لكن سرعان ما آلت العلاقات إلى مهادنة صامتة، إذ خفَّفت واغادوغو حدة لهجتها اتجاه فرنسا، بل وحاولت تلميع صورتها عبر إشادة وزير الدفاع المقال، إيمي سيمبوري، بمشاركة قوات الجو الفرنسية في إجلاء المصابين إثر العملية الإرهابية الأخيرة. كما زار الممثل الخاص للرئيس الفرنسي في قيادة الأركان الأدميرال جان فيليب رولان بوركينا فاسو، منتصف سبتمبر، في محاولة لرأب الصدع بين القوات الفرنسية والجيش المحلي.

وحسب مقال الأناضول، فإن داميبا "كان يُعرّف على أنه أحد رجال فرنسا في المنطقة"، وأنه "على عكس الانقلابيين في مالي وغينيا، لم تفرض "إيكواس" أي عقوبات على المجلس العسكري في بوركينا فاسو، ما يعكس كرماً غريباً من منظمة إقليمية تملك باريس نفوذاً قوياً في عديد من أعضائها".

هذا ما يؤكد فرضية أن الانقلاب الأخير أتى ليعصف ببوادر المهادنة تلك، لتفشل باريس مجدداً في رهان استمرار نفوذها في بوركينا فاسو. فمنذ يومها الأول، عبرت السلطات العسكرية الجديدة عن عدائها لفرنسا، متهمة إياها بدعم داميبا، وتوفير ملجأ له في قاعدتها العسكرية من أجل التخطيط لهجوم مضاد.

وهو ما نفته باريس جملة وتفصيلاً، لكن ذلك لم يمنع تعرض سفارتها في واغادوغو للهجوم من محتجين داعمين للانقلاب، حاملين شعارات مناهضة لفرنسا ورايات روسية، إذألقوا الحجارة على السفارة وأضرموا النار في أجزاء منها.

بالمقابل، أوضح الانقلابيون البوركينيون توجههم الواضح نحو ربط علاقات وطيدة مع روسيا. وهو ما يؤكده المختص في منطقة الساحل بجامعة كينت البلجيكية إفان غيشوا، بقوله إن "الانقلابيين يضعون أنفسهم بوضوح داخل منطق وجود تنافس روسي فرنسي حول الساحل (...) فمن المدهش أن نراهم بسرعة يغازلون حليفهم الاستراتيجي الجديد (روسيا) حتى قبل أن يحسموا السلطة لأنفسهم".

وبالتالي، يضيف الخبير، "نحن أمام فرضيتين: إما أن يكون هذا التقارب مع الروس هو هدف مشروع الانقلاب منذ البداية، ونحن نتعامل مع خطة مدروسة جيداً لزعزعة استقرار بوركينا فاسو. وإما أنه استغلال للتنافس الفرنسي الروسي بشكل انتهازي لحشد الدعم والشرعية للانقلاب".

TRT عربي