تابعنا
بشكل مفاجئ انزلق الوضع الميداني إلى التصعيد بين مليشيات PYD وبين قوات النظام السوري في محافظة الحسكة شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، لتستمر حالة التوتر إذ لا تزال مليشيات PYD تحتجز العشرات من عناصر النظام السوري بينهم ضباط.

بات من المعلوم أن العلاقة بين كل من PYD والنظام السوري وروسيا محكومة بالمصالح التي يحاول الطرفان تحصيلها، كما يجري العمل على تأطير أي تصعيد في حدود جغرافية معينة دون السماح له بالانتشار، ففي فبراير/شباط 2016 مثلاً قاتل PYD تحت نيران الطائرات الروسية ضد فصائل المعارضة السورية وساهم بتضييق الخناق على أحياء حلب الشرقية الخاضعة للمعارضة عندما تقدمت وحاصرت طريق "الكاستلو" من جهة "حي الشيخ مقصود"، كذلك فإنها حاولت الاستعانة بالنظام السوري من أجل منع استمرار عملية "غصن الزيتون" عام 2018، كذلك فإن مليشيات PYD لا تزال تسهل وصول إمدادات المحروقات إلى مناطق النظام السوري قادمة من شمال شرقي سوريا.

حالة التصعيد الأخيرة تضمنت محاصرة PYD منطقة المربع الأمني التابعة للنظام السوري بمركز مدينة الحسكة تحديداً بمناطق جسر النشوة - حي غويران - محطة انطلاق الحافلات، بالإضافة إلى تشديد الخناق على قوات النظام السوري المنتشرة بمركز مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة.

وعلى الرغم من الوساطة الروسية التي أسفرت في منتصف يناير/كانون الثاني 2020 عن عملية تبادل أسرى بين النظام السوري ومليشيات PYD، فإن الأخيرة طالبت النظام السوري بالانسحاب من مدينة الحسكة بالكامل، كما احتفظت بعدد كبير من المحتجزين لديها، وكان من بين الأسرى الذين أطلقت سراحهم العميد "ناظم حسون" قائد الفوج "154" المتمركز جنوب القامشلي.

النظام السوري من طرفه أرسل تعزيزات إلى اللواء 123 مشاة التابع للفرقة 17 المتمركزة بقمة جبل "كوكب" شرق مدينة الحسكة، فجرى نقلها عبر الطيران المروحي كما فرض النظام حصاراً على "حي الشيخ مقصود" بحلب الخاضع لسيطرة مليشيات PYD، بالإضافة إلى منع الغذاء ومواد التدفئة من الوصول إلى القرى الخاضعة لها شمال حلب الممتدة من ريف أعزاز حتى الريف الغربي لمدينة الباب.

الحصار المتبادل بين PYD والنظام السوري أدى إلى قطع المواد الأساسية عن مناطق مأهولة بالسكان بمدينتَي الحسكة والقامشلي وحي الشيخ مقصود بحلب وبعض القرى الأخرى، منها مادة الطحين التي بقيت غائبة عن الأفران لمدة تزيد على أسبوع، قبل أن يُسمح لعبورها وبكميات مضبوطة وقليلة، كذلك فإن الطرفين استخدما سلاح منع وصول المحروقات المخصصة للتدفئة إلى المناطق التي تخضع لسيطرة بعضهما، مما ألحق الضرر بعشرات الآلاف من السكان المدنيين.

عملية التصعيد هذه التي بدأتها مليشيات PYD في الحسكة متذرعة بتعرُّض عناصرها لمضايقات من قبل النظام السوري، يبدو أنه يقف خلفها العديد من الدوافع، فهي على الأرجح تأتي رداً على الضغوطات التي تمارسها روسيا والنظام السوري على PYD للتنازل عن مدينة "عين عيسى" الاستراتيجية بمحافظة الرقة، إذ إن موسكو ودمشق تريدان حل هذا الملف العالق لقطع الطريق على تركيا حتى لا تطالب بدخولها نتيجة عدم قدرة روسيا على الوفاء بالتزاماتها، يضاف إلى ذلك مطالبات مليشيات PYD بأن تُنشر حواجز مشتركة مع النظام السوري بمناطق واقعة شمال حلب تشكل بوابة عبور إلى منطقة "الشهباء" التي تمثل تجمُّعاً من القرى الخاضعة لسيطرة PYD.

من غير المستبعد أن مليشيات PYD التي لم تستجب مؤخراً للوساطة الروسية تتصرف بتفاؤل حيال وصول "جو بايدن" إلى البيت الأبيض وما رافقها من عودة شخصيات ديمقراطية محببة لها إلى العمل بالملف السوري، ومنهم "بريت ماكغورك" الذي جرت تسميته منسقاً للشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ومنذ أسابيع تروج PYD لمعلومة تفيد برغبة القوات الأمريكية بنشر نقاط عسكرية جديدة بـ"عين عيسى" بريف الرقة، وهذا يشي بمدى تعويلها على الإدارة الأمريكية الجديدة التي يشاع أنها ستحاول تحجيم نفوذ تركيا وروسيا شمال شرقي سوريا.

أيضاً لا يجب استبعاد رغبة مليشيات PYD في إرسال رسائل تحذيرية إلى روسيا التي تتحرك منذ منتصف 2020 لاستمالة عشائر عربية إلى جانبها لمنافستها شمال شرقي سوريا، من قائمة الدوافع، وكان آخر المحاولات الروسية اجتماع مدينة "الميادين" بديسمبر/كانون الأول 2020 بين ضباط روس وبين وجهاء عشائر من دير الزور، إذ طلب الضباط من خلالهتكثيف التنسيقبين الطرفين من أجل "إنهاء حالة الفوضى في المنطقة".

على الصعيد الشعبي يمكن القول إن الخيار المفضل للسكان المحليين هو تولِّي القوات التركية الانتشار في المدن والبلدات التي تسيطر عليها مليشيات PYD ولا يفضلون استعادتها من قبل النظام السوري، والسبب في ذلك الممارسات الأمنية المتشابهة لـPYD والنظام السوري، وتتضمن الاعتقالات التعسفية والتجنيد الإجباري وفرض الضرائب والغرامات الكبيرة.

مليشيات PYD والنظام السوري لا يولون أهمية لعملية إنشاء البنى التحتية كالمدارس والمستشفيات، ولا ينفقون مخصصات مالية كثيرة على الملف الخدمي، في حين أن مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون" التي دخلتها القوات التركية بالاشتراك مع فصائل الجيش الوطني السوري ارتفع فيها عدد المدارس المؤهلة لاستقبال الطلاب، بالإضافة إلى إنشاء مشافي وتزويدها بتجهيزات متطورة وخاصة في أعزاز وعفرين بريف حلب، وأصبحت هذه المشافي تغني إلى حد ما عن التوجه إلى الداخل التركي لطلب العلاج بالمشافي المتطورة.

على أية حال فإن مليشيات PYD في كل مرة فضَّلت التنسيق مع النظام السوري وروسيا على أن تخوض مفاوضات جدية مع المعارضة السورية أو القوات التركية، لكنها أيضاً وقعت بفخ التخلي الروسي عنها، ولذلك يبدو أنها تريد من خلال عملية التلويح بالخيار العسكري الضغط على روسيا من أجل عدم تكرار سيناريو "عفرين" في "عين عيسى" ومناطق أخرى، بانتظار أن تباشر إدارة بايدن لعملها واتضاح معالم سياساتها في سوريا، بخاصة في ظل مؤشرات عديدة تدل على اعتماد بايدن على فريق الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، وهو الرئيس الذي تأسست "قسد" في فترته وتلقت خلالها دعماً أمريكياً كبيراً، كما أنه تبنى التصعيد مع الجانب التركي إلى درجات بعيدة، وهذه كلها نقاط تصب في مصلحة "قسد" التي يبدو أنها اختارت توقيتاً دقيقاً لاتخاذ قرار مهم مثل التصعيد الميداني ضد النظام السوري.

من المرجح أن لا تتدهور الأمور باتجاه مواجهة مفتوحة بين الجانبين، بل يجري العمل على تأطيرها كما في مرات سابقة، وذلك بعد التفاهم بين الأطراف على الملفات الخلافية التي أدت إلى اندلاع المواجهات الأخيرة، وهذا يتناسب تماماً مع السياسة التي انتهجتها "قسد" منذ نشأتها والقائمة على تدوير زوايا الخلاف مع النظام السوري إلى أبعد الحدود وتجنُّب المواجهة وعدم استفزاز روسيا، وذلك بهدف الاستفادة من الموقف الأمريكي والموقف الروسي في مواجهة تركيا التي تعتبرها مليشيات PYD التهديد الأكبر لمشروعها الانفصالي، بالتالي تريد تركيز كامل جهودها لمواجهة هذه التهديدات وهذا يفرض عليها عدم الخوض بحرب مفتوحة مع أطراف أخرى، قد تضعف أوراق PYD في مواجهة أنقرة. في وقتدعا فيه مجلس الأمن القومي التركي، الأطراف الدولية الفاعلة للوفاء بمسؤولياتها في إنهاء وجود التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق.

جاء ذلك في اجتماع المجلس برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة الخميس الماضي، ففي بيان صدر عقب الاجتماع "ندعو الفاعلين الدوليين للإيفاء بمسؤولياتهم في إنهاء وجود المنظمات الإرهابية في الدول المجاورة لتركيا من الجنوب".

TRT عربي