تابعنا
خلّفت الثورة التونسية ضحايا كثراً بسبب مواجهة قوات الأمن لهم بالرصاص الذي اخترق أجسادهم واستقرت شظاياه داخلهم، ليعيشوا معها طوال حياتهم.

تونس - تمكنت الثورة التونسية من الإطاحة بأكبر الأنظمة استبداداً، وتمكين التونسيين من ممارسة الديمقراطية التي تَعطَّشوا إليها منذ استقلال بلادهم عن المستعمر الفرنسي عام 1956، لكنها خلّفَت مئات القصص المليئة فصولها بمشاعر الألم والخذلان، التي تشعر بها عائلات شهداء الثورة وجرحاها، بعد أن تنكرت لهم الحكومات المتعاقبة، ولم تنصفهم الطبقة السياسية التي استطاعت بفضل دمائهم الوصول إلى سدة الحكم.

كان المساء قد حلّ حين قرّر محمد الجندوبي (31 عاماً) يوم 13 يناير/كانون الأول 2011، أن يتحدى صوت الرصاص الذي خنق الحيّ ويخرج من منزله، لينضم إلى التحرك الاحتجاجي بالكرم الغربي (الضاحية الشمالية للعاصمة تونس) المطالب بالحرية وبإسقاط النظام، لكن قوات الأمن واجهتهم بوابلٍ من الرصاص المتفجر، اخترقت إحداها جسده واستقرت شظاياها في عموده الفقري.

رصاصةٌ أطفأت روحه الثائرة التي خرج بها مندفعاً، ليطالب بحياةٍ كريمةٍ، يمارس فيها حريته الطبيعية، بسقوط جسده من مجرى الأحداث، وانكسرت آمالها على صخور القمع الذي تصدى به الأمن للاحتجاجات الممتدة منذ 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 بمحافظة سيدي بوزيد (وسط غرب تونس)، ليعود مشلولاً يحمل انكسار ألف عامٍ في لحظةٍ غادرةٍ، اخترقت حماسه، وفجرت أحلامه.

ألمٌ ممزوجٌ بالفخر

جريح الثورة التونسية محمد الجندوبي، الذي أصابته الرصاصة قبل تسع سنواتٍ، لا يزال يحتفظ في ذاكرته، بأدقّ تفاصيل يوم 13 يناير/كانون الأول، قبل هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي بيومٍ واحدٍ، إذ يقول لـTRT عربي، إنه خرج ليشارك في مظاهرات طرد بن علي الذي استبد بالحكم لـ23 عاماً، حتى إنه يذكر الشعارات التي رفعها يومها، من قبيل "شغل حرية كرامة وطنية"، و"خبز وماء وبن علي لا".

ويضيف كأنه يسترجع آلامه لتوّه، محاولاً إخفاء ندوب روحه التي تركها "بوليس بن علي"، أن الرصاصة التي أصابته في صدره وانفجرت داخل جسده، لتتوزع شظاياها إلى عموده الفقري، وتستقر بين فقراته، ألزمته الكرسي المتحرك، وأن الأطباء رفضوا إزالتها خوفاً من أن يتسبب تحريكها في مضاعفاتٍ أخرى.

محمد الذي أجرى خمس عملياتٍ جراحية، إحداها بسبب خطأ طبي، كاد يحبس أنفاسه بسبب انسداد القصبة الهوائية، لم يستطع الوقوف على ساقيه مجدَّداً، لكنه فخورٌ بأن تضحياته لم تذهب سُدىً، وأن تونس نجحت فعلاً في اقتلاع الظلم والاستبداد من أرضها، لكن القائمين عليها لم ينصفوه بعد، ولم يمكنوه من حقه في العلاج، وفي موطن شغلٍ يسترزق منه.

والدة محمد تبدو هي الأخرى متأثرةً بإصابة فلذة كبدها، وبالحالة التي وصل إليها، هي تقول في حديثها لـTRT عربي، مسترجعةً ذكرى أليمةً، لا تريد عودتها إلى ذاكرتها: "ابني كان ميتاً والأطباء أعادوه إلى الحياة، فقد دخل في غيبوبةٍ لثلاثة أشهرٍ، بعد أن سال دمه بغزارةٍ وكاد قلبه يتوقف، لولا تدخل الأطباء مستخدمين جهاز الصدمات الكهربائية".

طريقٌ معبَّدة بالدماء

وضعٌ ينطبق في مأساته، مع وضع جريح الثورة مسلم قصد الله، الذي ظلّ محمَّلاً بشظايا رصاصةٍ في ساقيه، أصابته حين عرّض صدره للرصاص، وحاول برفقة مجموعةٍ من أصدقائه منع هرب قيس بن علي، ابن شقيق بن علي، في منطقة الوردانين من محافظة المنستير، يوم 15 يناير/كانون الثاني 2011، بعد هروب المخلوع بيومٍ واحد.

مسلم الذي حاولوا إسكات صوته وإخماد ثورة بلاده، يقول لـTRT عربي وهو يمسك عكازيه بيديه، واضعاً رجله اليمنى المبتورة من فوق الركبة فوق العكاز الأيمن، ليسترجع تسلسل الأحداث، إن الأمنيين يومها عمدوا إلى إطلاق النار بصفةٍ عشوائية، مما تسبب في إصابته برصاصةٍ على مستوى ساقه اليمنى، لكنه حين أفاق لم يستوعب كيف التصقت ساقاه، محمِّلاً الدولة التي أهملته مسؤولية بتر ساقه.

يشير قصد الله إلى أنه أجرى 32 عمليةً جراحيةً، دون جدوى، إلى أن بُتِرَت ساقه اليمنى عام 2012، مما دفعه إلى محاولة الانتحار، بخاصة مع تنكر السلطات لمطالبه في الحصول على تعويض يمكنه من العيش الكريم، كما خاض إضراباً عن الطعام، وخاط فمه، احتجاجاً على تنكر الحكومة لتضحياته.

محمد بوغانمي جريحٌ آخر بلغ به العمر 48 عاماً، وهو أبٌ لطفلين، يعيش مع شظايا رصاصةٍ أصابت أعلى فخذه، وفصلت حوضه عن ساقه، مما اضطره إلى وصلهما بحديدٍ، سيلازمه طوال حياته، رغم إجرائه 6 عملياتٍ جراحيةٍ، في انتظار إجراء السابعة، أملاً في أن لا يجرّ ساقه مرةً أخرى، وأن يمشي مستقيماً كما كان.

مشى بنا البوغانمي نحو الشارع الذي قاوم فيه الطغيان، وحال وصوله إلى النقطة التي اُصيب فيها سارع بأخذ سيجارةٍ، أوقدها لتشاركه الاحتراق، مسترسلاً في الحديث دون توقفٍ: "يومها حاولت الهرب من أعوان الأمن الذين احتلوا الشارع الرئيسي، ومشيت بين الأنهج، لأتجنب رصاصهم، لكنني لم أتوقع أن أُصاب على بعد نحو 200 متر".

ما يؤلم البوغانمي، كباقي الجرحى الذين قدّموا دماءهم ثمناً لحرية تونس، أن السياسيين، الذين ما كانوا ليتمكنوا من الوصول إلى الحكم، أو أن يمارسوا عملهم السياسي بكل حريةٍ لولا دماؤهم البريئة، لم ينصفوهم، وتلاعبوا بملفاتهم، دون مراعاة حالاتهم الصحية، ووضعياتهم الاجتماعية، وتفاقم مصاريف علاجهم.

ملف تتقاذفه الأرقام

واستناداً إلى التقرير النهائي للجنة تقصي الحقائق التي أنشأتها الحكومة الانتقالية الأولى، الذي صدر في الرابع من مايو/أيار 2012، فقد خلفت الاحتجاجات الشعبية 132 قتيلاً و1452 جريحاً في الفترة من 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 إلى يناير/كانون الثاني 2011.

كما قال التقرير إن معظم هذه الإصابات كان ناتجاً عن إطلاق النار، وإن 345 شخصاً أصيبوا بجروح بليغة بسبب الإصابة برصاص الشرطة، وهو ما تسبب في بتر أطرافهم أو في إعاقات جسدية أخرى.

في المقابل أصدرت هيئة حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي تتبع الرئاسة التونسية، في 8 أكتوبر 2019، قائمة تقول إنها نهائية، لشهداء الثورة وجرحاها تضمنت 129 شهيداً و634 جريحاً فقط، وصدمت هذه القائمة، عديداً من العائلات، وسط توقعات بتقديم طعون لمن لم يجد اسماً يبحث عنه، على اعتبار أن العدد الذي كان متوقَّعاً في حدود 380 شهيداً، فيما تضمنت القائمة 129 فقط.

وكان رئيس الهيئة العليا لحقوق والحريات الأساسية توفيق بو دربالة، أكّد خلال جلسة استماع له بالبرلمان، أنه ضُبطَت القائمة النهائية لشهداء وجرحى الثورة، التي تتضمن كل الضحايا الذين سقطوا في جميع ولايات الجمهورية منذ 17 ديسمبر 2010، ويقدر عددهم بـ7749 منهم 7363 جريحاً و386 شهيداً.

وتبعاً لهذا التضارب في الأرقام بين مختلف الهياكل التي اهتمت بالملف، سجلت المحاكم التونسية قبول أكثر من ألف اعتراضٍ على عدم التنصيص على بعض الأسماء في القائمة، وفق ما أعلنت عنه آمال المستوري قرعوش، رئيسة الهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية.

ويصف المتابعون لأطوار الملف، تعامل مختلف مؤسسات الدولة، والحكومات المتعاقبة بعد الثورة مع هذا الملف بـ"المريب"، ويعتبرون أنه يخضع لإرادةٍ سياسيةٍ، تعمل على تهميشه أو تشتيته، بخاصة أنه أُلحِقَ بشكلٍ دائم بملفات أخرى، كملف المنتفعين بالعفو التشريعي العامّ في فترة أولى، أو ملف ضحايا العمليات الإرهابية من أمنيين وعسكريين في ما بعد، حتى طالت فترة البَتّ فيه، وضاع بين مزايدات، ليقع التلاعب بأرقامه، لفائدة أجندات سياسية.

من جانبها لفتت محامية عائلات الشهداء والجرحى ليلى حداد، في تصريحها لـTRT عربي، إلى إرادة سياسية واضحة للتلاعب بملفّ الجرحى والتعتيم عليه، واصفةً القائمة النهائية الصادرة بالفضيحة، التي تحمل في طياتها حساباتٍ سياسية، وبالإهانة في حقّ الجرحى وعائلاتهم، لأنها لم تتضمن عدة أسماء، تحمل إصابات جراء أحداث الثورة.

ونددت الحداد بعدم إنصاف الجرحى وعائلاتهم، بإرسال طلب الاختبارات الطبية إلى حدود وقتٍ غير بعيدٍ، فضلاً عن إفلات مَن أجرم في حقهم من العقاب، وعدم محاسبتهم، فيما لم يُجِب المسؤولون عن القائمة عن التوضيحات التي تطلبها عائلات الجرحى.

ظلّ مسلم قصد الله محمّلاً بشظايا رصاصةٍ في ساقيه، أصابته حين عرّض صدره للرصاص، وأجرى 32 عمليةً جراحية (TRT Arabi)
بعد مشاركته في الاحتجاجات، تَعرَّض محمد الجندوبي لوابل من الرصاص المتفجر الذي أطلقته قوات الأمن، اخترقت جسده واستقرت شظاياها في عموده الفقري (TRT Arabi)
كان رئيس الهيئة العليا للحقوق والحريات الأساسية توفيق بو دربالة أكّد خلال جلسة استماع له بالبرلمان، أنه ضُبطَت القائمة النهائية لشهداء وجرحى الثورة (AP)
محمد بوغانمي جريحٌ آخر بلغ به العمر 48 عاماً، وهو أبٌ لطفلين، يعيش مع شظايا رصاصةٍ أصابت أعلى فخذه (TRT Arabi)
محمّد الذي أجرى خمس عملياتٍ جراحية، إحداها بسبب خطأ طبي، كاد يحبس أنفاسه بسبب انسداد القصبة الهوائية (TRT Arabi)
TRT عربي