يترنّح الاقتصاد الأوروبي منذ أسابيع تحت الضربات المتوالية لأزمة الطاقة، التي بدورها تصيب قطاع الصناعة في العمق (Carlos Osorio/AP)
تابعنا

أصبح من الواضح أن القارة الأوروبية تتجه نحو ركود اقتصادي، هذا ما أشارت إليه استطلاعات رأي شهر سبتمبر/أيلول الماضي، والتي أظهرت تفاقم أزمة تكاليف المعيشة في مجموع دول الاتحاد، كما شيوع نظرة قاتمة للمستقبل ما يجعل المستهلكين قلقين إزاء الإنفاق.

هذا في وقت، يتنامى فيه التضخم في القارة شهراً بعد الآخر، بالغاً مستويات قصوى خلال الصيف، إذ لامس عتبة 9.1%. وهو ما يضع البنك الأوروبي تحت ضغوط متزايدة، يحبط كل جهوده للتحكم في نسب التضخم، حيث وعد في بداية السنة الإبقاء عنها في 2%.

وحسب ما أورد عدد من الخبراء، ستواصل نسب التضخم الأوروبية طريقها بالارتفاع، حيث توقعوا "حصول ارتفاع جديد للأسعار بالنسبة إلى المواد الاستهلاكية، وكان متوسط هذه التوقعات نحو 9.7%، مع وجود توقعات لـ4 نتائج مكونة من رقمين، أي أعلى من 10%".

هي إذن الظروف الاقتصادية التي ترسم معالمها أزمة الطاقة الأوروبية، عقب فقدان القارة موردها الطاقي الرئيسي جراء الحرب الأوكرانية. ويعد قطاع الصناعة أكبر المتضررين من هذا الوضع، إذ يصيبه في مقتل، دافعاً عدداً من المصنعين إلى نقل أعمالهم إلى دول أخرى.

متاعب الصناعة الأوروبية

يمثل الطلب على الطاقة لقطاع الصناعة في أوروبا نسبة 30% من مجموع الطلب القاري. وحسب إحصاءات سنة 2019، تأتي الصناعات الكيماوية والبيتروكيماوية على رأس ترتيب الاستهلاك الصناعي للطاقة، تليها الصناعات المعدنية ثم صناعات الصلب والحديد، حيث تستهلك مجتمعة 20% من واردات الطاقة في القارة العجوز.

من جهة أخرى، تواصل أسعار الطاقة ارتفاعها الصاروخي، إذ بلغت ذروتها شهر أغسطس/آب إلى سعر 300 يورو للميغاواط/ ساعة، بعد أن كانت لا تتعدى 200 يورو للميغاواط/ ساعة بداية العام الجاري، و30 يورو للميغاواط/ ساعة قبل ذلك. وهو ما يضرب قطاع الصناعة في مقتل، برفعه تكاليف الإنتاج إلى مستويات غير مسبوقة.

ينضاف إلى هذا سياسات التقشف الطاقي التي أعلن عنها الاتحاد الأوروبي، شهر أغسطس/آب المنصرم، في شكل خطة لتخفيض استهلاك الغاز بنسبة 15% "على الأقل". هذا التقشف الذي طال المعامل أيضاً، وأجبرها على خفض الإنتاج وتسريح عدد من العمال الذين كانوا يشغلون الخطوط التي أصبحت معطلة.

وفي عديد من الصناعات، مثل صناعات الأسمدة، فإن الغاز ليس فقط مصدراً للطاقة بل مادة خام أساسية. على الأرض، تعاني هذه الشركات من متاعب مزدوجة، يشرحها سفين هولستر، المدير التنفيذي لـ "Yara" النرويجية للأسمدة بالقول: "إذا تناولت اليوريا (أحد المنتجات المصنعة في مصانعه)، على سبيل المثال، عندما قررنا الإغلاق، فقد كلفنا إنتاجه 2000 دولار للطن أثناء بيعه مقابل 800 دولار. ويكلف الطن نفسه 200 دولار لإنتاجه في الولايات المتحدة و 100 دولار في روسيا".

أكبر صدمة تنافسية

بمثل ما أوضح رئيس شركة "Yara" للأسمدة، تضرب هذه الأوضاع الاقتصادية القدرات التنافسية للصناعة الأوروبية في مقتل. سواء كان ذلك على المستوى الخارجي، أم الداخلي. وهو ما يتضح جلياً في الاختلال الكبير للميزان التجاري الأوروبي.

ويكشف تحليل بيانات المعاملات التجارية الأوروبية لشهر أغسطس/آب المنصرم أن الفائض التجاري الصناعي للاتحاد الأوروبي قد انخفض إلى النصف تقريباً هذا العام. حيث بلغ عجز الميزان التجاري لمنطقة اليورو في الشهر ذاته، وفقاً لأرقام يوروستات، 50.9 مليار يورو، مقارنة بفائض 2.8 مليار يورو في الفترة ذاتها عام 2021. وهي أعلى نسبة عجز جرى تسجيلها على الإطلاق.

وفي شهر أغسطس/آب نفسه، شهد ميزان الحساب الجاري في منطقة اليورو، والذي يجمل مجموع التجارة في السلع والخدمات وكذلك التحويلات الدولية لرؤوس المال، عجزاً قدره 26.32 مليار يورو مدفوعاً، إلى حد كبير، بالعجز التجاري في السلع، حسب ما أفاد البنك المركزي الأوروبي.

وبالتالي فإن ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض المبيعات، تجبر المصنعين الأوروبيين على إغلاق مصانعهم ومغادرة القارة. وهو ما قام به مدير شركة "Yara"، الذي أوقف جميع عملياته في أوروبا وسرَّح ما يزيد عن 7000 عامل. فيما وصفه روبن بروكس، كبير الاقتصاديين الألماني في "معهد التمويل الدولي" (IIF)، بأنه "أكبر صدمة تنافسية في أوروبا منذ الثمانينيات".

في ألمانيا

تعد ألمانيا من أكبر الدول الصناعية المتضررة من هذه الأوضاع، فحسب مسح حديث أجراه معهد IFO لمناخ الأعمال الألماني، اشتكى أكثر من 68% من المصنعين الألمان من اختناق سلاسل الإمداد، كما انخفضت توقعات مبيعات التجزئة إلى مستوى قياسي جديد، ما جعل المعهد يتوقع بأن تشهد البلاد موجة ركود بحلول الشتاء.

ووفق ما أفادت استطلاعات أخرى، فإن واحدة من كل ثماني شركات صناعية في ألمانيا، تفكر بأن تغلق مصانعها. فيما الأكثر تأثراً هي الشركات الصغرى، وهو ما أوضحته الباحثة في معهد IFO، يوهانا غارنيتز، لموقع "ذا لوكال" الألماني، مُرجعة ذلك لأنه "كلما كانت الشركة أصغر حجماً جرى البدء في اتخاذ الإجراءات بشكل أقل".

وتتسع وفق هذه المعطيات رقعة التهديد بإفلاس هذه الشركات، وهو ما تؤكده دراسة لمؤسسة "إليانس ترايد"، حيث رصدت ارتفاع عدد الشركات التي يتوقع أن تشهر إفلاسها خلال عام 2023 إلى 16100 شركة، وهو ما يقارب 40% من مجموع الشركات الألمانية.

وحسب نائب رئيس اتحاد الصناعات الألماني، فولكر تراير، يوجد "تهديد باحتمال فقدان ألمانيا عدداً كبيراً من الشركات، لا سيما من قطاع الصناعة، والبعض يتحدث حتى عن احتمال ألا تعود ألمانيا دولة صناعية في المستقبل القريب، علماً أن ما شكّل قوة ألمانيا حتى اليوم هو كونها دولة صناعية".

TRT عربي