عاش الاتحاد سنة من الأزمات المتلاحقة زادت مخاوف تفكُّكه. (Yves Herman/Reuters)
تابعنا

تلاحقت على أوروبا طوال سنة 2021 الأزمات متتاليةً، وعدا تلك التي تشارك العالم وطأتها منذ انفجار الجائحة الوبائية لفيروس كورونا منذ 2019، أو تلك التي ورثتها عن السنوات الماضية مثل بريكسيت، عاشت بروكسيل عاماً تطبعه النزاعات الداخلية تهدّد بتفكك لا اجتماع بعده لدولها الأعضاء.

يضاف إلى كل هذا التهديد الخارجي قرب حدودها، إثر ازدياد التوتر شرقي أوكرانيا، كما ضغط النظام البيلاروسي الموالي لموسكو على بولندا بورقة المهاجرين. في المقابل بدا الاتحاد عاجزاً عن الدفاع عن نفسه وخارج المعادلات الدفاعية، خصوصاً بعد القرار الأمريكي الأحادي بالخروج من أفغانستان، واستثناء بروكسيل من حلف "أوكوس" وما تلاه من "صفعة" غواصات تلقتها فرنسا. فيما تزيد مخاوف نشوب اقتتال جديد في دول البلقان مع دفع صرب البوسنة نحو الانفصال.

فيما يتفق مراقبون على أنها كانت سنة الأزمات بامتياز بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، إذ تَلقَّى فيها كل هذه الضربات، خارجياً وداخلياً، بما يعيد طرح أسئلة كثيرة حول مدى نجاحه في تحقيق الغايات السياسية والاستراتيجية التي أُنشئَ من أجلها، ومدى قدرته على الحفاظ على جمعه ملتئماً.

حرب اللقاح ومثالب بريكسيت التي لا تنتهي

بدأت أوروبا سنتها، كباقي العالم، متفائلة بالنجاحات العلمية التي حققتها الأبحاث في اللقاح المضاد لفيروس كورونا. حاول الاتحاد معتدّاً بثقله التاريخي أن يؤمّن لنفسه الجرعات الكافية لتطعيم شعبها، فيما اصطدمت هذه الإرادة بتنافس عالمي شرس، وأيقنت فيه بروكسيل تضاؤل تأثيرها الدولي. بداية بإعلان شركة أسترازينيكا عن أعطال في سلاسل إنتاج الجرعات الأوروبية، ردّت عليها المفوضية بالتلويح بورقة منع الإنتاج الأوروبي من اللقاح من التصدير نحو بريطانيا التي كانت أول من تعاقد مع الشركة المذكورة.

إثر هذا الواقع اندلعت حرب كلامية بين بريطانيا من جهة والاتحاد الأوروبي على الجانب الآخر. استعمل هذا الأخيرة من أجل الضغط، ورقة تعليق استعمال اللقاح البريطاني لشكوك حامت حول تسبُّبه في تخثر الدم لبعض الحالات التي طُعّمَت به. ردّت عليه شركة أسترازينيكا وقتها بأنه لا يوجد إلا "37 حالة تخثُّر دم من بين 17 مليون شخص تَلقَّوا اللقاح في دول الاتحاد السبع والعشرين زائد بريطانيا"، وهذا رقم "لا يبلغ إحصائيّاً حتى احتمالية حدوث تلك التجلطات عند الساكنة عامة".

من جانب آخر هُرعت دول أوروبا الشرقية نحو التزود بلقاح "سبوتنيك V" الروسي، الذي لم ترخّصه الوكالة الأوروبية للدواء. على رأسها هنغاريا التي رخصت اللقاح الروسي بلا رجوع إلى توصيات هيئة الدواء الأوروبيَّة، بل وشدَّدت وزارة صحَّتها في بلاغ على أن اللقاح الروسي هو "الأكثر أمناً وفاعلية بين اللقاحات المطروحة ضد فيروس كورونا". فيما أدَّى قرار مماثل في جارتها سلوفاكيا إلى أزمة سياسية، مطيحاً برئيس الحكومة هناك إيغور ماتوفيتش، بعدما عمد إلى عقد صفقة سريَّة لشراء 200 ألف جرعة سبوتنيك. كما عُزل وزير خارجية التشيك توماس بيترشيك، بسبب مواقفه المعادية للقاح الروسي، بعد سجال بينه وبين رئيس الوزراء ميلوس زيمان، المعروف بميله نحو موسكو.

فيما كانت أوروبا لم تحسم بعدُ خلافها الجديد-القديم مع بريطانيا، هذه المرة حول تنزيل اتفاق بريكسيت الذي وقّعه الطرفان في ديسمبر/كانون الأول 2020. ظلت النقاط الخلافية بينهما، وعلى رأسها التجارة عبر حدود إيرلندا الشمالية، التي أدى التشاحن حولها في أبريل/نيسان المنصرم، إلى انفجار أعمال عنف طائفية بين سكان البلاد البروتستانت الداعمين لبريكسيت والكاثوليك الرافضين له. وسارع وقتها كل من لندن ودبلن وواشنطن إلى إطلاق دعوات التهدئة.

في ذات سياق بريكسيت، لا يزال التنافس بين فرنسا وبريطانيا حول الصيد في بحر المانش مشتداً، إذ تضغط باريس ممثلة الاتحاد في المنافسة بصياديها الذين خاضوا احتجاجات بالمواني البريطانية طلباً من حكومتها زيادة أعداد تأشيرات الصيد في مياهها، كما تضغط كذلك بورقة المهاجرين من أجل انتزاع دعم مالي بريطاني، وفق اتفاقية وقّعها الطرفان في 20 يوليو/تموز، بموجبها تشدّد باريس الخناق على سواحلها الشمالية التي تُعَدّ المنصَّة التي تنطلق منها رحلات المهاجرين السريين نحو جارتها الشمالية، مقابل دفع لندن حزمة مالية تقدَّر بـ74 مليون دولار لفرنسا، إعانات لتدعيم منظومة حمايتها تلك السواحل وتجديد تكنولوجاتها المستخدمة في ذلك.

"عقوق" بولندا وهنغاريا

منذ سجال التصديق على الموازنة الأوروبية لسنوات 2021-2027، أخذت الشقاقات التي أفرزتها النقاشات وقتها في الاتساع، بعد ربط المفوضية الأوروبية حزمة الإعانات الاقتصادية لتخطي تبعات كوفيد-19 بمبدأ سيادة القانون، ما رفع في وجهه كل من حكومتَي المجر وبولندا اليمينيتين الشعبويتين الفيتو. سرعان ما تخلتا عنه ليمر قانون الميزانية، لكن النزاع بقي عالقاً إلى أن انفجر منتصف يوليو/تموز بعد أن أقرت المحكمة الدستورية البولندية بأن "النظام والإجراءات والمبادئ القضائية الأوروبية لا تتماشى مع القانون البولندي، وبالتالي غير قابلة للتنفيذ في البلاد".

بعدها في شهر سبتمبر/أيلول، غرّمَت المحكمة الأوروبية الحكومة البولندية بغرامة يومية قدرها 500 ألف يورو على استمرار استغلالها منجم تور للفحم المتنازَع عليه بينها وبين جمهورية التشيك. قرارٌ أثار حفيظة حكومة وارسو التي أعلنت تمسُّكها باستغلال المنجم، وقالت على لسان المتحدث باسمها بيوتر مول إن "السلطات البولندية ترفض وقف العمل في منجم تورو، لتشكيل ذلك تهديداً لأمنها الطاقي". ليزيد التوتر بين الجانبين استعاراً، بما يهدّد بتفكك جديد في الجسد الأوروبي، وقامت من أجل منع حدوثه مظاهرات واسعة بالعاصمة وارسو، فيما قررت المفوضية الأوروبية وقف تحويل حزمة الإعانات المخصص لبولندا.

نفس المخاوف قائمة بالنسبة إلى المجر، التي عمد رئيس وزرائها فيكتور أوربان في كثير من الأحيان إلى تصوير الاتحاد الأوروبي في بروكسيل قوةً أجنبيةً استبدادية تهدف إلى سلب المجر إرادتها، بخاصة في ما يتعلق بشؤون الهجرة. وقال إن قانون موازنة الاتحاد الأوروبي للظروف يشبه "الابتزاز الآيديولوجي" الذي مارسه الاتحاد السوفييتي سابقاً.

حروب على أبواب أوروبا

في بلوندا كذلك، وهذه المرة على حدودها مع بيلاروسيا، اندلعت منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي أزمة لاجئين مع توافُد أعداد كبيرة منهم من مينسك لدخول الاتحاد الأوروبي. أزمة وصفتها المفوضية بأنها "هجمة هجينة" يشنّها نظام لوكاشينكو ضدها، فيما كان ردّ وارسو هو حظر المنطقة الحدودية على الوجود المدني وتعبئة جيشها هناك من أجل صدّ عمليات التسلل إلى أراضيها.

رافق ذلك استفزاز بين قوات الجانبين، سارعت فيه موسكو إلى تحريك قاذفات نووية استراتيجية في سماء بيلاروسيا في رسالةَ تحذير من لجوء الجانب الأوروبي إلى الحل العسكري. وفي وقت لاحق قال الرئيس ألكسندر لوكاشينكو إن بلاده ستعرض على روسيا نشر أسلحة نووية على أراضيها، إذا نشر الناتو أسلحة نووية في بولندا. هذا مع تزايد المخاوف من أن التقارب بين مينسك وموسكو قد يؤدي إلى ضمّ ناعم لبيلاروسيا على شاكلة شبه جزيرة القرم.

ولم تنتهِ مشكلات أوروبا مع روسيا، إذ تزداد التحذيرات من خطر اجتياح روسي لأراضي أوكرانيا، مع تزايد التقارير عن احتشاد تشكيلات عسكرية واسعة روسية في شبه جزيرة القرم وعلى الحدود الشرقية للبلاد. يوازيها في المقابل سعي أوكراني للدخول تحت حماية حلف الناتو، في حرب قد تنشأ وتكون أوروبا مرمى لعدوانها، كما ستتحمل كل تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية.

وفي نفس النسق التصعيدي للتوتر، تدعم روسيا تحرُّك صرب البوسنة نحو فرض الأمر الواقع بالانفصال، بما قد يعيد منطقة البلقان إلى مستنقع الاقتتال الذي غادرته في منتصف تسعينيات القرن الماضي، في تهديد لأوروبا يدخل في إطار النزاع الروسي مع الغرب، الذي يلقي بالجزء الأكبر من ثقله على الاتحاد الأوروبي. فيما تواردت الانتقادات على السياسة الدفاعية الأوروبية، خصوصاً بعد خروج أمريكا من أفغانستان، مما أبان ضعفاً في التنسيق بين واشنطن وبروكسيل على هذا المستوى، ضعفاً أكّده استثناء أوروبا من حلف أوكوس، وتخلِّي أستراليا عن صفقة الغواصات العسكرية الفرنسية.

TRT عربي