تابعنا
على الرغم من تراجع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن تصريحاته الأخيرة المسيئة، التي أثارت غضب الجزائر وصعّدَت التوتر بين الطرفين، فإن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لم يُبدِ أي تجاوب إزاء أسف ماكرون.

شهدت العلاقة بين الجزائر وفرنسا خلال الأشهر القليلة الماضية توتراً حادّاً، بلغ ذروته عقب تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي ازدرى فيها الامتداد التاريخي للجزائر، وذلك خلال حديثه مع صحيفة لوموند الفرنسية.

وبينما أثارت تصريحات ماكرون غضباً وحنقاً في الشارع الجزائري، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون جملة من القرارات والإجراءات الفورية، التي رجّح خبراء ومحللون أنها قد تكون نهاية العلاقة بين البلدين.

وتعززت الترجيحات والآراء في ذلك، بتجاهل تبون أسف ماكرون تجاه الخلاف بينهما، ورفضه حضور القمة الفرنسية المقبلة.

خلافات متلاحقة

في الوقت الذي كانت تنتظر فيه الجزائر اعتذار فرنسا عن ماضيها الاستعماري وما تسببت فيه من حجم كبير من الدمار والجرائم الإنسانية الفظيعة، فوجئ بإعلان الرئيس الفرنسي يوم 20 سبتمبر/أيلول الماضي عن مشروع قانون "لتعويض" الحركيين الجزائريين، وذلك خلال حفل استقبال كبير لهم في قصر الإليزيه.

وأثار ذلك استياء الجزائريين، فلا تزال هذه القضية نقطة خلاف تاريخي بين الجانبين، لأن الجزائر تعتبر الحركيين مجموعة من الخونة والعملاء الذين قاتلوا إلى جانب الجيش الفرنسي ضد بلادهم.

ولم تمضِ أيام قليلة على ذلك حتى أعلنت السلطات الفرنسية تقليص التأشيرات وتشديد شروط منحها لمواطني الجزائر وتونس والمغرب. وبررت باريس ذلك بدعوى رفض هذه الدول إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لإعادة مهاجرين غير نظاميين موجودين على ترابها. واحتجاجاً على هذه الخطوة قرّرَت حينها وزارة الخارجية الجزائرية استدعاء سفيرها بباريس.

ومع تراكم الاضطرابات المتلاحقة التي بدأت تشوب العلاقة بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، أشعلت تصريحات ماكرون لصحيفة لوموند الفرنسية خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فتيل أزمة حادة غير مسبوقة بين الجانبين.

وكان ماكرون نفى خلال مقابلته الصحفية، وجود أمة جزائرية قبل فترة الاستعمار الفرنسي التي بدأت منذ عام 1830، قائلاً: "هل كانت قبل الاستعمار الفرنسي أمة جزائرية؟". واتهم في المقابل النظام السياسي الجزائري بتكريس "ريع الذاكرة".

وأثارت هذه التصريحات سخطاً حاداً لدى الجانب الجزائري، وقالت الرئاسة الجزائرية في بيان رسمي تعليقاً على ذلك: "إن تصريحات ماكرون إساءة لذاكرة أكثر من 5 ملايين شهيد خلال فترة الاستعمار الفرنسي‎". وأكدت أنّ "جرائم فرنسا ضد الإنسانية بالجزائر خلال فترة الاستعمار لا يمكن أن تكون محلّ مناورة سياسية‎".

وتبادل الطرفان منذ ذلك الوقت تصريحات ساخنة عبر عديد من القنوات الرسمية التي كانت تنذر بقطيعة وشيكة. وقررت الجزائر في خطوة تصعيدية منع دخول الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة إلى إفريقيا عبر أجوائها، ليتعين بذلك على فرنسا استغراق 9 ساعات بدل 4 ساعات للوصول إلى مالي مثلاً. ولوّح بعض الجهات الرسمية الجزائرية باحتمال تنفيذ "قطيعة اقتصادية"، في خطوة متقدمة. وأُلغيَ في تلك الأثناء عديد من الزيارات الدبلوماسية بين البلدين التي كان مخطَّطاً انعقادها قبل أن يفجر ماكرون قنبلته الأخيرة.

جفاء وتوتر دبلوماسي

يبدو أن ماكرون كان يجهل في الواقع ما ستؤول إليه تصريحاته غير المسؤولة تجاه الجزائر في نهاية المطاف، وفق ما أشار إليه مراقبون ومحللون، إذ كان يطمح بالأساس عبر إثارة الخلاف التاريخي وخلاف الهُويَّة، جذب أصوات المعسكر اليميني خلال الانتخابات الرئيسية المقبلة.

ولكنه سرعان ما حاول استدراك الخطأ وتلافيه، بخاصة مع إدراكه الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للجزائر بالنسبة إلى فرنسا. وعبّر ماكرون خلال عديد من التصريحات الإعلامية عن أنه تربطه "علاقة ودية جداً" مع الرئيس الجزائري تبون، آملاً في أن ينتهي الخلاف الدبلوماسي بين البلدين في أقرب وقت، قائلًا في مقابلة مع إذاعة فرانس إنتر: "نرجو أن نتمكن من تهدئة الأمور لأنني أعتقد أن من الأفضل أن نتحدث معاً وأن نحرز تقدماً".

لكن تصريحات ماكرون يبدو أنها لم توفِ بالغرض، ولم تجد الأصداء لدى الرئيس الجزائري الذي أعلن في وقت لاحق خلال مقابلته مع مجلة شبيغل الألمانية يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أنه لم يرد على اتصالات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طوال فترة الأزمة، احتراماً لمشاعر الجزائريين،

وأكّد في السياق ذاته قائلاً: "لن أتخذ الخطوة الأولى في اتجاه فرنسا، ولن أكون الشخص الذي يتخذ الخطوة الأولى، وإلا فسأفقد بذلك حينها كل الجزائريين. فالأمر لا يتعلق بي، بل يتعلق بمشكلة وطنية".

ولمواجهة مزيد تدهور العلاقات تحاول الرئاسة الفرنسية نزع فتيل الأزمة الدبلوماسية، وفي هذا السياق كشف مستشار الرئيس الفرنسي يوم الثلاثاء 9 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أن ماكرون كان وجَّه دعوة إلى نظيره الجزائري لحضور مؤتمر باريس حول الأزمة الليبية المزمع انعقاده يوم الجمعة 12 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.

وأكد المستشار الفرنسي أن ماكرون يتمنى حضور تبون، باعتبار أن الجزائر لاعب رئيسي ومهمّ في المنطقة، معرباً في الوقت ذاته عن "أسفه" على "سوء التفاهم والخلافات" التي جدّت بينهما، مجدّداً "احترامه" تاريخ الجزائر وسيادتها.

ولكن أسف ماكرون لم يكن كافياً لإقناع عبد المجيد تبون بحضور مؤتمر باريس، وقد أعلن وزير الخارجية الجزائري يوم الأربعاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري خلال مؤتمر صحفي أن "الشروط غير متوفرة للمشاركة الشخصية للرئيس، ولكن مع ذلك فإن الجزائر ستكون ممثَّلة في المؤتمر".

وبينما يُصِرّ عبد المجيد تبون في تصريحاته وخطاباته المتكررة على موقفه، ويتمسك باحترام الجزائر تاريخا وسيادة وشعبا، ويشدد على ضرورة الاعتذار الرسمي من الجانب الفرنسي والاعتراف بجرائم حقبة الاستعمار الفرنسي، يبدو أن الجانب الفرنسي مستعد من ناحيته للتهدئة وخفض التصعيد، وذلك للأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها الجزائر كواحدة من بين أهم دول الحوض المتوسطي، في ظلّ تحولات واستحقاقات أمنية وإقليمية، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية الهامة التي تربط بينهما والمستمرة منذ عقود.

TRT عربي