رجل يقف أمام صورة تحمل ملصقاً مكتوباً عليه "تونس تنتخب وتواصل" خلال افتتاح المركز الإعلامي للانتخابات الرئاسية في تونس، 12 سبتمبر/أيلول 2019 (Reuters)
تابعنا

وفي الوقت الذي يتطلع فيه التونسيون إلى معرفة التركيبة الحكومية المقبلة والشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة يبدو المشهد مفتوحاً على سيناريوهات عدة لا سيما مع ما يصفه محللون بـ"تركيبة فسيفسائية" للبرلمان المنتخب، لا تعطي أي حزب أو أي كتلة أغلبية مريحة من شأنها تيسير عملية تشكيل الحكومة، بل إن مشهد التحالفات الممكنة يبدو معقداً لدرجة تجعل فرضية تطبيق بنود الفصل 89 من الدستور واردة وبقوة.

تشكيل الحكومة وفرضية اللجوء إلى الفصل 89 من الدستور التونسي

مع انتظار إصدار الهيئة المستقلة للانتخابات النتائج النهائية للتشكيلة البرلمانية المقبلة التي تجري بعد صدور الأحكام القضائية النهائية المتعلقة بالطعون، ينطلق رئيس الجمهورية في إجراء أول خطوة دستورية في أجَل أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية، بتكليف رسمي منه لمرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بالبرلمان بتشكيل الحكومة.

وينص الفصل 89 من الدستور على وجوب تكوين حكومة من قِبل الشخصية المكلفة في شهر واحد، وإن فشلت يُمدد لها شهراً آخر، ما يعني أنه يجب على الحزب الفائز أن يشكل تحالفاً حكومياً يمتلك الأغلبية في البرلمان (109 مقاعد) في مدة لا تتجاوز شهرين على أقصى تقدير.

أما إذا تجاوز المكلف بتشكيل الحكومة أجل شهرين أو في حالة فشله في الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، يقوم رئيس الجمهورية آنذاك في أجل 10 أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة.

وإذا فشلت الشخصية المكلفة في تشكيل الحكومة يمر رئيس الجمهورية إلى الخطوة الأخيرة وهي إعلان حل البرلمان وتكليف هيئة الانتخابات بإجراء انتخابات تشريعية جديدة.

وهو ما يضع راشد الغنوشي زعيم حزب حركة النهضة (الفائز بأكثر من 50 مقعداً من أصل 217 مقعداً في البرلمان) في حرب مع الزمن لإيجاد حلفاء يضمنون له التصويت بالأغلبية على الحكومة التي ستشكل، وإلا فإن الفصل 89 سيكون ضوءاً أخضر للرئيس المنتخب قيس سعيّد لاختيار شخصية تقود حكومة لا شك في أنها آنذاك ستحظى بدعم شعبي كبير، بخاصة أن عدد المصوتين لقيس سعيّد في الجولة الثانية من الانتخابات (2.777.931) يقارب عدد المصوتين لكل الطيف السياسي بفائزيهم وخاسريهم في الانتخابات التشريعية (2.946.628).

الأحزاب الفائزة ومواقفها من التحالفات

مع بداية صدور نتائج الانتخابات التشريعية يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 2019 تدافعت مواقف الأحزاب والائتلافات السياسية لتوضيح مكانها في المشهد السياسي المقبل بين الحكم أو المعارضة حتى قبل إعلان النتائج النهائية.

إذ أكد حزبا النهضة (52 مقعداً) وقلب تونس (38 مقعداً) عدم الانضمام إلى أي حكومة تضم الطرف الآخر، فيما أكد حزب التيار الديمقراطي الذي حل ثالثاً بـ22 مقعداً على لسان زعيمه محمد عبو الشريك السابق في حكومة الترويكا مع النهضة، أن موقعه الطبيعي في المعارضة، مشترطاً للمشاركة الحصول على وزارات الداخلية والعدل والإصلاح الإداري مع وجود شخصية مستقلة على رأس الحكومة، وهو ما اعتبره مراقبون شروطاً تعجيزية.

أما حركة الشعب "القومية" (15 مقعداً) فقد عبّر عديد من قيادييها عن تفضيل البقاء في المعارضة على التحالف مع حركة النهضة، فيما أعلن قياديون في حزب تحيا تونس (16 مقعداً) الذي يتزعمه رئيس الحكومة يوسف الشاهد عن تموقعهم فيما وصفوها بالمعارضة البناءة من دون رفض فكرة التحالف في مشروع حكومة يوافقون على برنامجها إذا عُرض عليهم ذلك.

فيما اعتبر سيف الدين مخلوف الناطق باسم ائتلاف الكرامة (21 مقعد) وهو ائتلاف يضم نخبة من القوى الثورية اليمينية، اعتبر أنه لا مانع من فكرة التحالف مع حركة النهضة.

أما الحزب الدستوري الحر (15 مقعداً) فهو يعبر عن موقف راديكالي بإيمانه بوجوب اجتثاث حركة النهضة والإسلاميين عموماً من المشهد السياسي، ما يعني أنه غير معني بحكومة تقودها النهضة والتي عبرت بدورها عن استحالة التحالف مع هذا الحزب.

كل هذه المواقف تضع حركة النهضة في مأزق حقيقي إزاء تشكيل الحكومة المقبلة، وأمام عملية حسابية معقدة لجمع 109 أصوات فما فوق لتزكية من ستتقدم به. فأي خيارات ممكنة أمامها في هذه الظرفية الزمنية الوجيزة؟ وهل سيكون الفصل 89 هو مآل المشهد القادم أو أن للأحزاب حسابات أخرى؟

النهضة وسيناريوهات تشكيل الحكومة

المواقف المسبقة من الأحزاب المشكِّلة للصورة البرلمانية المقبلة تضعنا أمام سؤال جوهري. هل انتخب الناس ممثلين عنهم في البرلمان كي يحكموا وينجزوا ما فشلت في إنجازه النخبة السابقة التي أقصيت معظمها من المشهد عبر الصندوق أو كي يرتموا في مقاعد المعارضة منذ أول يوم، والعودة إلى خطاب المحاصصة؟ أو أن هذا الخطاب يندرج ضمن رفع السقف لتحقيق ما هو ممكن من شروط ومطالب؟

وفي معرض حديثه مع TRT عربي أجاب عن هذا السؤال القيادي في حركة النهضة وعضو لجنة المفاوضات المكلفة بالتحاور والتفاوض مع الأحزاب السياسية والشخصيات المعنية بتشكيل الحكومة عبد الحميد الجلاصي قائلاً: "إن التصريحات ورفع السقف يتراوح بين المزايدة التفاوضية بغاية المشاركة وبين الرفض بطريقة لا تكون محرجة أمام جمهور الناخبين". مضيفاً أن "كل الأحزاب تشهد اختلافات عميقة في وجهات النظر بشأن مشاركة النهضة وبالتالي من السابق لأوانه الحكم في هذه المرحلة بالنجاح أو الفشل في تشكيل الحكومة".

وفي حديثه معTRT عربي عن السيناريوهات الممكنة لتشكيل الحكومة قال الجلاصي بأن "النهضة توضع أمام 4 سيناريوهات" وهي كالتالي:

سيناريو إيجابي: يتمثل في نجاح النهضة في تشكيل الحكومة في الشهر الأول من التكليف الرئاسي بأوسع إسنادٍ ممكنٍ من البرلمان في صيغة مشاركة أو مجرَّد دعمٍ من الخارج بشرط تفاعل مرن ومسؤول من أحزاب التيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وتحيا تونس، وعدد من نواب قلب تونس والكتل الصغيرة والنواب المستقلين. إضافة إلى دور مشجِّع ومجمِّع لرئيس الجمهورية وتفهُّم من اتحاد الشغل بخاصةً ومنظمة الأعراف.

فيما تتمثل صيغ هذا الخيار في أن تكون النهضة في رئاسة البرلمان مع تكليف شخصية مستقلة برئاسة الحكومة أو أن تكون النهضة في رئاسة الحكومة، مع الاتفاق على أن يكون رئيس البرلمان من غيرها.

أما تخلِّي النهضة عن الرئاستين فيعتبره الجلاصي تشويهاً لإرادة الناخبين ولن يكون مقبولاً من داخلها ولن ينجح المسار. كما أن جمع النهضة بين الرئاستين لن يكون ممكناً على حد قوله.

سيناريو مقبول: يتمثل في اعتذار النهضة عن تشكيل الحكومة بعد عجزها عن ذلك لعدم توفُّر الحد الأدنى المقبول من مؤسساتها، ونجاح الشخصية التي يكلِّفها رئيس الجمهورية وفقاً للصلاحية الدستورية في ذلك مع مشاركة النهضة أو اختيارها موقع المعارضة.

أما شروط نجاح هذا الخيار فهو رهين اسم الشخصية المقترحة ونوعيتها.

سيناريو سلبي: يتجلى في فشل النهضة في تشكيل الحكومة، وفشل الشخصية المكلَّفة بعدها في هذه المهمَّة أيضاً، واتجاه البلاد إلى انتخاباتٍ سابقة لأوانها مع قدرة حكومة الشاهد على مواصلة عملها في تسيير شؤون البلاد وقبول الشعب، على الرغم من التبرم والاحتجاج.

وسيكون الذهاب مجدداً إلى صناديق الاقتراع بعد إمضاء رئيس الجمهورية تعديل القانون الانتخابي الذي أقره مجلس نواب الشعب في شهر يوليو/تموز الماضي ورفض الرئيس السابق المرحوم الباجي قايد السبسي إمضاءه. إذ إن الذهاب إلى الانتخابات بالقانون الحالي نفسه لن يعطي نتائجَ مختلفةً نوعياً. ولن تكون هذه الانتخابات -إن حصلت- قبل بداية الصيف القادم.

سيناريو شديد السلبية: وهو الاحتمال السابق مع اشتداد الاحتجاج الاجتماعي، ورفض المضيِّ إلى الصندوق، وحينها يدخل المسار التونسي منطقة اللا يقين.

لذلك، فإن المرجَّح حسب الجلاصي والأقرب إلى الواقع هو السيناريو الأول أو الثاني، لأنه لن يتحمَّل أحد تكلفة قيادة البلاد إلى المجهول، كذلك فإن الجميع يدرك أن المجازفة بانتخاباتٍ سابقة لأوانها لن تكون مضمونة النتائج.

هل سيصوت نواب من قلب تونس لصالح حكومة النهضة؟

يُطرح هذا السؤال بقوة في الأيام الأخيرة لا سيما بعد عدم طعن المرشح الخاسر في انتخابات الرئاسة نبيل القروي في النتائج معتبراً أن قيس سعيد استحق الفوز ونال ثقة الشعب. وأضاف القروي في حديثه إلى وسائل إعلام بأن حزبه سيكون داعماً لسعيّد.

أما فيما يتعلق بمشاركته في الحكومة يقول القروي بأنه سيسعى لأن يكون حزبه معارضة إيجابية قد تدعم أي حكومة يُنظر إليها أنها ستخدم الاستحقاقات المستعجلة للشعب التونسي.

تصريحات تدل على أن القروي لم ينفِ إمكانية تصويت كتلته لحكومة تشكلها حركة النهضة وهذا ما يحيلنا إلى ما ذكره القيادي في النهضة عبد الحميد الجلاصي في السيناريو الأول حينما تحدث عن فرضية تصويت نواب من قلب تونس على الحكومة.

هذا الطرح يراه العديد من المحللين قريباً من التحقق بخاصة مع ما يتسرب عن بحث قيادات في "حزب قلب تونس" عن تسويات سياسية في خصوص ملفات فساد موجهة إلى رموز في الحزب على غرار زعيمه نبيل القروي الذي خرج من السجن مؤخراً، ولا تزال تتعلق به قضايا فساد مالي إضافة إلى زوجته المتهمة بدفع مبلغ مالي إلى شركة لوبينغ صهيونية، وشقيقه غازي القروي الهارب من العدالة بتهم تهرب ضريبي.

فهل يكون قلب تونس الخصم الأول لحركة النهضة هو قارب إيصال حكومة النهضة إلى بر الأصوات الـ109 فما فوق؟ هذا ما سنعلمه في الأيام القادمة.

TRT عربي
الأكثر تداولاً