"صنع في أمريكا".. هل نشهد حرباً تجارية بين دول أوروبية والولايات المتحدة؟ / صورة: AP (AP)
تابعنا

كتبت صحيفة لوموند الفرنسية مقالاً تحت عنوان "أوروبا تكافح لإيجاد رد على خطة الولايات المتحدة لمكافحة التضخم"، جاء فيه أنه في مواجهة الإعانات الهائلة للمنتجات الخضراء "المصنوعة في أمريكا" التي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في يناير/كانون الثاني المقبل، يخشى القادة الأوروبيون من أن الشركات ستفضل الولايات المتحدة في استثماراتها وإنتاجها.

وأشارت الصحيفة الفرنسية إلى أنه عندما يواجه الاتحاد الأوروبي مشكلة مع حليفه الأمريكي، يجد الاتحاد الأوروبي دائماً صعوبة في الاعتراف بذلك. لكن في الأيام القليلة الماضية، لم يتوجب على دول الاتحاد الاعتراف وحسب، بل أظهروا قلقاً كبيراُ تجاه سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي شعر الأوروبيون بارتياح شديد لرؤيته يخلف دونالد ترمب في البيت الأبيض في أوائل عام 2021، إذ يبدو أنه على استعداد للتضحية باقتصادهم عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الاقتصاد الأمريكي.

وفي خطاب ألقاه مؤخراً أمام منشأة عمليات مجموعة "فولفو" بولاية ماريلاند، استند بايدن إلى عبارة "صنع في أمريكا"، إذ كان يضع التصنيع في الولايات المتحدة أساساً للطبقة الوسطى الأمريكية. حسب منطق العبارة، لدعم الأمة، يجب على المرء شراء البضائع التي "صنعت في أمريكا" من العمال الأمريكيين.

ما الدوافع وراء "صنع في أمريكا"؟

ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن القادة الأمريكيين استندوا تاريخياً إلى "صنع في أمريكا" شعاراً وطموحاً يحددان الحياة الاقتصادية الأمريكية، جنباً إلى جنب مع إدخال تدابير حمائية، في أوقات الأزمات الاقتصادية أو غيرها من التغييرات العميقة. وجرى تأكيد هذا الالتزام من السياسيين الذين ينظرون إلى شراء المنتجات الأمريكية على أنه ضرورة حتمية للحفاظ على الوظائف الأمريكية، وتقوية الاقتصاد، وحتى حماية الأمن القومي.

وفي حين أنه من المغري النظر إلى العبارة على أنها نداء للوطنية واحتفاء بالطبقة العاملة في الولايات المتحدة، فإنها تقنياً تساعد المستهلكين الأمريكيين على التعرّف عند شرائهم منتجاً أمريكي الصنع.

في أواخر القرن التاسع عشر، حافظت الولايات المتحدة على تعريفات استيراد عالية نسبياً، وهو إجراء مزدوج يهدف إلى زيادة الإيرادات وحماية الاقتصاد المتعافي من المنافسة الأجنبية في التصنيع. وفي عام 1890، وضع السناتور الجمهوري ويليام ماكينلي مشروع قانون تعريفة لا يقتصر على فرض رسوم استيراد ضخمة على السلع الأجنبية فحسب، بل أدخل أيضاً شرط تمييز السلع الأجنبية بوضوح بعلامة بلد المنشأ، إذ أصبح استخدام عبارة "صنع في أمريكا" ممارسة تسويقية شائعة على مدار العقود التالية، لا سيما خلال فترة الكساد الكبير (1929-1933).

ومن وقتها، أصبحت عبارة "صنع في أمريكا" رمزاً ثقافياً للهيمنة الأمريكية العالمية. أكثر من كونها حقيقة، فقد أصبحت فكرة سياسية قوية واختصاراً جاهزاً للإشارة إلى قوة الولايات المتحدة وبراعتها الاقتصادية. إن احتضان بايدن للشعار هو مجرد الفصل التالي في تاريخ طويل لقوة الولايات المتحدة من خلال سلعها.

قلق أوروبي

بفضل طاقتها الرخيصة، التي تبيعها لأوروبا بأربعة أضعاف التكلفة، والتي منحتها ميزة تنافسية حاسمة على القارة الأوروبية منذ بدء الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، قررت الولايات المتحدة أيضاً تقديم دعم كبير لمنتجات "صنع في أمريكا" الخضراء باستثمار نحو 369 مليار دولار لدعم المنتجات التي تُصنع فوق الأراضي الأمريكية، وبخاصة السيارات الكهربائية والألواح الشمسية والبطاريات، وذلك بموجب قانون خفض التضخم الذي سيدخل حيز التنفيذ في 1 يناير 2023.

وبعد تأخر وصفه المراقبون بالطويل، اجتمع وزراء التجارة من الدول الأعضاء السبعة والعشرين الجمعة لبدء مناقشة سياسة بايدن لتحفيز الصناعات الخضراء التي تحمل ملصق "صنع في أمريكا". فيما نقلت لوموند تعليق دبلوماسي أوروبي أدلى فيه: "في البداية، قللنا من شأن عواقب الاستراتيجية الأمريكية. لكن الأوروبيين بدأوا يدركون أنه يمكن أن يكون لها تأثير كارثي على اقتصادنا".

فبالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، فإن هذا يعني بشكل ملموس للغاية مخاطر رؤية شركاتهم تغادر أوروبا للاستثمار عبر المحيط الأطلسي، وهي الهجرة الجماعية التي بدأت بالفعل. في الوقت الحاضر، الدبلوماسية هي النهج المفضل، إذ تجري مناقشات بين واشنطن والمفوضية الأوروبية، التي تناشد الولايات المتحدة عدم التمييز ضد المنتجات الأوروبية في إعاناتها، ومنحهم معاملة تفضيلية كتلك حصلت عليها كندا والمكسيك.

هل نشهد حرباً تجارية جديدة؟

على عكس الوحدة التي أظهرها الأوروبيون والأمريكيون في مواجهة روسيا بشأن حربها مع أوكرانيا، قررت الولايات المتحدة العزف منفردة في جوقتها الخاصة لمحاربة التضخم المشحون بالأزمة الاقتصادية العالمية والحرب على حد سواء، ما أدى إلى تصعيد التوتر بين أوروبا والولايات المتحدة بشأن قانون خفض التضخم الأمريكي.

وفيما يغدق قانون بايدن للحد من التضخم على الشركات الأمريكية العملاقة مئات المليارات من الدولارات في شكل إعانات، فإنه في الوقت نفسه يقوّض منافسيهم الأوروبيين، فيما تقوّض حملته الشعبية "صنع في أمريكا" التجارة عبر الأطلسي. كل هذا دفع الأوروبيين إلى اتهام أمريكا بالتربح من الحرب وتكديس استثماراتهم، مع تقويض التجارة العادلة والحرة.

وفي سياق متصل، ذكرت مجلة الإيكونوميست البريطانية، أن "الشعبوية الاقتصادية الأمريكية والخلافات الجيوسياسية تهدد القدرة التنافسية طويلة المدى للاتحاد الأوروبي"، محذرةً من أنه "ليس فقط ازدهار القارة هو الذي يتعرض للخطر، بل صحة التحالف عبر الأطلسي أيضاً". هذا كله، دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دعوة الاتحاد الأوروبي إلى "الاستيقاظ" لأن "لا الأمريكيين ولا الصينيين سيوقفوننا عن العمل".

TRT عربي
الأكثر تداولاً