عاشت فرنسا نكسات متلاحقة بمنطقة الساحل ما أدى إلى تقهقر نفوذها هناك. (Pool/Reuters)
تابعنا

منذ انكسار مغامرتها في ليبيا على أعتاب طرابلس سنة 2020، وفرنسا تتلقى الضربات المتلاحقة في القارة السمراء. هذا ما يفسر التقهقر الكبير الذي عرفه نفوذها بمنطقة الساحل طوال السنة التي اقتربنا من توديعها. أمام توسع للنفوذ الروسي بأداة مرتزقته مستغلاً في ذلك السخط العام الذي يحصده تواجد المستعمر القديم على أراضي مستعمراته السابقة.

غضب شعبي سمته الأبرز هو اليقين أن فرنسا فشلت في كل ما وعدت به تلك الدول الفقيرة، وعلى رأس ذلك تحقيق الأمن ومحاربة "الجماعات الإرهابية" بالمنطقة، والتي اتخذتها باريس ذريعة لوجودها العسكري هناك. يضاف إليه الانقلاب الذي عرفته مالي، والحرب في تشاد التي قتل فيها رجل الإيليزيه الرئيس إدريس ديبي، كما بلوغ العلاقات الفرنسية الجزائرية أقصى مستويات التوتر. كلها وقائع اتحدت لتشكل عاماً من المتاعب عاشته باريس.

غضب شعبي

لم ينجح الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل في تحقيق الهدف الذي ادعى أنه قدم من أجله، محاربة الجماعات المسلحة التي تروع المدنيين. فلا تزال تلك الجماعات منتشرة في مالي، ويمتد نفوذها إلى أجزاء من النيجر وبوركينا فاسو، ففي يونيو/حزيران الماضي، نفذت تلك الجماعات هجوما داخل الحدود البوركينابية أودى بحياة ما يقارب 160 قتيلاً من المدنيين، من بينهم 20 طفلاً. وتعرضت النيجر أيضاً في 21 مارس/آذار لهجمات كبرى على قرى في منطقة تيلا القريبة من حدود مالي وأسفرت عن 141 قتيلاً.

وزادت منذ 2020 بشدة هجمات جماعات مسلحة في منطقة الساحل غرب إفريقيا، موقعة في بوركينافاسو وحدها نحو 500 قتيل أغلبهم من المدنيين. فيما زادت كذلك الانتهاكات التي ترتكبها قوات التحالف الذي تقوده فرنسا ضد المدنيين، وفي آذار/مارس كشف تحقيق أممي أن ضربة جوية نفذها الجيش الفرنسي في مالي، في 3 يناير/كانون الثاني الماضي، تسببت في مقتل 19 مدنياً.

أمام هذا الواقع انتفضت شعوب تلك البلدان، وخرج في مايو/أيار مئات الماليين في مظاهرات مطالبة بانسحاب القوات العسكرية الفرنسية. كما في بوركينا فاسو خرج المحتجون بهتافات: "نريد خروج فرنسا" و"كايا تقول للجيش الفرنسي: عُد إلى وطنك".

نزيف الحلفاء

هذا وكما فقدت فرنسا الحاضنة الشعبية لوجودها، فقدت كذلك قيادات تلك البلدان الموالية لها، التي بدأت تتساقط تحت وطأة الانقلابات. أبرزها الانقلاب الثاني الذي عرفته مالي في 24 مايو/أيار الماضي، والذي قاده الكولونيل عاصمي غويتا المائل نحو الروس. علمت فرنسا وقتها تلاشي نفوذها في المنطقة، بسحب جنودها الذين بلغ تعدادهم 5100 وإنهاء عملية "برخان" التي تقودها منذ 2013. وصرح الرئيس الفرنسي وقتها قائلاً: "التزامنا في الساحل لن يستمر بنفس الطريقة. سنبدأ تغييراً عميقاً لوجودنا العسكري في منطقة الساحل".

في تشاد كذلك لم يكن الوضع الفرنسي على ما يرام، إذ سقط رئيس البلاد ورجل باريس الموثوق، إدريس ديبي، قتيلاً في معارك قادها جيشه لمنع متمردي حركة "فاكت" من دخول العاصمة نجامينا, فيما تولى ابنه أحمد كاكا رئاسة البلاد، ما خلق مأزقين لفرنسا، أولهما أن رفض الشعب التشادي لما رأو فيه توريثاً للسلطة يناقض المبدأ الجمهوري للدولة. أما المأزق الثاني هو سعي كاكا إلى إجراء مصالحة وطنية مع الحركة المتمردة المعادية لفرنسا والمدربة من مرتزقة فاغنر الروسية.

هذا وفي شهر أغسطس/آب أعلنت السلطات التشادية تخفيض قواتها المشاركة في "برخان" إلى النصف. مما رأى فيه مراقبون نكسة أخرى تكبدتها فرنسا، بالتزامن مع التصعيد الأمني الخطير الذي راح ضحيته مئات القتلى المدنيين طوال السنة.

من جهة أخرى، أدت تصريحات ماكرون المسيئة للجزائر لفقدانه حليفاً استراتيجيا في المنطقة. إذ ردت الجزائر بإعلان سحب سفيرها محمد عنتر داود من باريس، وإغلاق مجالها الجوي أمام مرور الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة إلى منطقة الساحل في إطار عملية "برخان"، إضافة إلى تضييقات اقتصادية كانت كذلك مطروحة على طاولة الردّ الجزائري حسب ما كشفت عنه سابقاً وكالة أنباء جزائرية.

الساحل في أيدي الروس

بالمقابل أدى التقهقر الفرنسي إلى اتساع رقعة النفوذ الروسي، بعد اختراقها المنطقة. وهذا ما تم في حالة جمهورية إفريقيا الوسطى التي نجحت موسكو في التغلغل داخل مفاصل الدولة الفقيرة. وعملت روسيا على زيادة وجودها العسكري هناك مستخدمة مرتزقة "فاغنر"، المتهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة. بالمقابل جمدت فرنسا جميع اتفاقيات التعاون العسكري مع حكومة بانغي.

نفس السيناريو يحتمل أن تشهده فرنسا مجدداً في مالي، مع تداول تقارير عن استعانة حكومة البلاد بعدد من مرتزقة فاغنر من أجل تأمين مصالحها وتدريب قواتها، في عقد مع المتعهد الأمني المقرب من الكريملين قيل أنه بلغ 10ملايين دولار شهرياً. هذا ونفت الحكومة المالية ما نسب إليها في هذا الصدد، قائلة أنها: "تقدم نفياً رسمياً لهذه المزاعم بشأن انتشار مزعوم لعناصر من شركة أمنية خاصة في مالي". بالمقابل حذر عدد من الدول الغربية من مغبة وجود القوات الروسية في مالي.

هذا وعلى الأرض، حملت طائرة شحن أربع طائرات هليكوبتر وأسلحة وذخيرة من روسيا إلى مالي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي في إطار ما وصفته الحكومة في باماكو بصفقة تجارية مع الدولة الروسية. وقالت موسكو على لسان ديبلوماسي كبير في خارجيتها: "سنواصل الدفاع عن مصالح باماكو المشروعة في الأمم المتحدة وكذلك تقديم المساعدة لشركائنا في مالي في المجالات العسكرية والفنية العسكرية من خلال القنوات الحكومية".

TRT عربي