تابعنا
لا تزال قضية الاتفاق التركي-الليبي تتصدر واجهة الأحداث شرقي المتوسط، بخاصة بعد أن انتقل ملف الاتفاق من مكاتب الدبلوماسية التركية إلى أروقة الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

منذ توقيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، مذكرتَي تفاهم مع فائز السراج رئيس الحكومة الليبية، تتعلقان بالتعاون الأمني والعسكري، وبتحديد مناطق الصلاحية البحرية، بهدف حماية حقوق البلدين وذلك وفق القانون الدولي، تحاول أطراف عدة عرقلة هذا التفاهم والتقارب التركي-الليبي، سواء من جانب عربي أو حتى أوروبي.

ويرى مراقبون أن تركيا، رغم كل محاولات الوقوف بوجه هذا الاتفاق، مصممة على المضي فيه، مشيرين إلى أن ما يكسبها القوة في ذلك هو أنها فرضت هذا الاتفاق فرضاً على مختلف الأطراف في منطقة شرقي المتوسط أو المحيطة بها، بمعنى أنها تمكنت من تطويق الجميع وفرض سيادتها في المنطقة البحرية.

التوجُّه صوب الأمم المتحدة لتوثيق الاتفاق

ويقول مراقبون إن تركيا تمتاز من غيرها من الأطراف بحنكتها السياسية والقانونية، الأمر الذي يتيح فتح الأبواب المغلقة أمامها، بخاصة أنها لا تدخل أي معترك سياسي أو عسكري أو دولي إلا وبحوزتها جميع الوثائق والأدلة المقنعة لتخرج ظافرة بما تريد ووفق الأحكام والقوانين الدولية.

من أجل ذلك حملت تركيا ملف الاتفاق ومذكرات التفاهم الموقعة أخيراً مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليّاً، وتوجهت به إلى الأمم المتحدة لتضعه أمامها على الطاولة من أجل توثيقه وشرعنته.

يرى مراقبون أن تركيا لا تدخل أي معترك سياسي أو عسكري أو دولي إلا وبحوزتها جميع الوثائق والأدلة المقنعة لتخرج ظافرة بما تريد ووفق الأحكام والقوانين الدولية.

إذ ذكرت الدبلوماسية التركية أنه في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري، تقدمت تركيا بطلب إلى الأمم المتحدة لتسجيل مذكرة التفاهم مع حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دوليّاً، والمتعلقة بتحديد مناطق الصلاحية البحرية شرقي المتوسط، مؤكدة أن الهدف هو تسجيل مذكرة التفاهم الموقعة بين الجانبين مؤخَّراً.

ويشير هذا التحرك إلى مدى إصرار تركيا في المضي قدما بهذه الاتفاقية والتحرك قانونيّاً رغم معرفتها المسبقة أنها تفعل ما تفعله وفق القانون الدولي، إلا أن الاتفاقات بين الدول تصدّقها الأمم المتحدة لأخذ شرعية واعتراف بها.

ويطرح هذا التحرك التركي نحو الأمم المتحدة عديداً من الأسئلة، بخاصة في ما يتعلق بقوة تلك الخطوة وما إذا كانت الأمم المتحدة ستقبل الاعتراف بهذا الاتفاق من عدمه؟

وفي هذا السياق قال الباحث في العلاقات الدولية حسن الشاغل، في حديثه لـTRT عربي، إنه "لا يكفي أن تُسَجَّل في الأمم المتحدة حتى تصبح نافذة قانونيّاً، لكن حسب القانون الدولي الذي ينظم الاتفاقيات الموقعة بين الدول الإقليمية في ترسيم الحدود يجب أن لا تعترض دولة أخرى على هذه الاتفاقية لتصبح نافذة، وإلا دخلت الاتفاقية في مرحلة التحكيم بين الأطراف الموقعة على الاتفاقية والأطراف المعترضة".

وأشار الشاغل إلى أن "مسألة التحكيم تأخذ وقتاً طويلاً، وهذا سوف يعطي تركيا ميزة إضافية أنها ضمنت على الأقل الدخول إلى منطقة شرق المتوسط وأصبحت لاعباً أمنيّاً وسياسيّاً في المنطقة، بالإضافة إلى أن هذه المذكرات خلقت لتركيا مجالاً واسعاً في التحرك سياسيّاً في المنطقة، بالإضافة إلى أنها أصبحت أكثر قدرة وقوة على مفاوضة كل من اليونان وقبرص الرومية لتحديد المنطقة المائية لكل دولة".

دائماً ما تشير تركيا إلى أن الغرب يتعامل معها ومع قراراتها ومواقفها بمعايير مزدوجة ودائماً ما ندّد الرئيس أردوغان بهذه الازدواجية في أكثر من خطاب له.

الأمم المتحدة وحيادها تجاه تركيا

ودائماً ما تشير تركيا إلى أن الغرب يتعامل معها ومع قراراتها ومواقفها بمعايير مزدوجة، ودائماً ما ندّد الرئيس أردوغان بهذه الازدواجية في أكثر من خطاب له، بخاصة أن ازدواجية المعايير كانت حاضرة لتلك الدول في أثناء إطلاق تركيا عملية نبع السلام شرقي الفرات من أجل طرد التنظيمات الإرهابية.

ورغم إدراك تركيا ذلك فإنها تخطو خطواتها بثقة وحذر، ومن بين تلك الخطوات توجهها نحو الأمم المتحدة لشرعنة اتفاقها مع حكومة السراج الليبية، لكن ذلك يطرح سؤالاً مفاده: هل ستكون الأمم المتحدة حيادية في تعاملها مع هذا الاتفاق أم أنها ستخضع لرغبات ومزاج الأطراف اللاعبة وصاحبة القرار أيضاً في الأمم المتحدة؟

وفي ردّ منه على هذا السؤال، رأى الخبير والمستشار الدولي في شؤون المجتمع المدني الدكتور وليد الصالحي، أن تصديق الأمم المتحدة على البروتوكولات الإقليمية "قد يسير في سلسلة الإجراءات والقراءات والمراجعات، ومن الممكن التوقيع عليها ولكن إذا كان هذا البروتوكول يتلاءم مع مصالح أعضاء مجلس الأمن الدائمين فعندها سيجري التصديق عليه وتبنِّيه، وتتم عملية التأكيد عليه ليأخذ طريقه للنفاذ والتنفيذ، وسيتم حفظ هذه البروتوكولات في حالة تعارضها مع مصالح الكبار وتحفظ للقرن الجديد".

الاتحاد الأوروبي وموقفه من الاتفاق التركي-الليبي

بالعودة إلى نقطة الأطراف المعترضة على هذه الاتفاقية ومنها مصر واليونان وقبرص الرومية وحتى أطراف أخرى من خلف الكواليس، خرج الاتحاد الأوروبي ببيان بعد اجتماعه في بروكسل الخميس، مدعيا أن مذكرة التفاهم المبرمة بين تركيا وليبيا تنتهك الحقوق السيادية للدول الثلاث المحيطة في تلك المنطقة، وأنها تتعارض مع قانون البحار، وأنه لا يتمخض عنها نتائج قانونية ملزمة بالنسبة إلى الدول الأخرى.

وسارعت وزارة الخارجية التركية على لسان المتحدث باسمها حامي أقصوي الجمعة، إلى الردّ على بيان الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى أن الاتحاد الأوروبي غير مخوَّل إليه تحديد مناطق الصلاحية البحرية، ولا يحق له إصدار حكم بشأن مدى قانونية مذكرة التفاهم المبرمة، وفق الأصول القانونية الدولية بين تركيا وليبيا، وأن هذا الموقف ضدّ تركيا يُعَدّ مثالاً جديداً على سياسة المعايير المزدوجة التي ينتهجها.

وفي هذا الصدد قال الصالحي: "نعيش هذه الأيام في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين في ظل وجود عديد من التكتلات الإقليمية المنتشرة في قارات العالَم اليابسة والتي تشهد حاليّاً تغيرها المناخي، ومن هذه التكتلات على سبيل المثال وليس الحصر الاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي، ومنظمة التعاون الإسلامي، واتحادات الدول الآسيوية وأمريكا اللاتينية، وغيرها، وهي تكتلات رسمية حكومية لدعم سياساتها الدولية لتكون مؤثرة في أروقة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، ولا سيما محاولة التأثير في أعضاء مجلس الأمن الدائمين".

أما الشاغل فرأى أن "تركيا انطلقت في إبرام هذه المذكرات مع الجانب الليبي انطلاقاً من حقوقها وحقوق قبرص التركية في منطقة شرق المتوسط، واستغلت تركيا عدة نقاط لإبرام هذه المذكرات في هذا التوقيت، أولاً تعيش الدول الأوروبية حالة من عدم التوافق فيما بينها بخاصة مع رغبة بريطانيا من الخروج من الاتحاد، ثانياً أهمية تركيا لدول الاتحاد الأوروبي من الناحية الأمنية التي تعتبر أن تركيا هي الخط الأمني الأول لدول الاتحاد، ثالثاً أصبحت تركيا مركزاً لنقل الطاقة إلى دول الاتحاد من منطقة بحر قزوين بعد اكتمال إنشاء خط (تاناب)، ورابعاً حالة التفاهم والتوازن التي تعمل تركيا على تحقيقها بين الجانبين الأمريكي والروسي، فقد استطاعت تركيا تحقيق توازن في العلاقات مع الطرفين مِما اكسبها قوة استراتيجية في المنطقة".

ما بعد توقيع المذكرة التركية ـ الليبية ليس كما قبله

وعقب توقيع مذكرات التفاهم تلك، بدأ الرئيس أردوغان وفي كل خطاب له يؤكد حقوق تركيا شرقي المتوسط، ويؤكد أن بلاده استخدمت حقها الطبيعي بالتوقيع على تلك الاتفاقية، التي تمت مع الحكومة المعترف بها دوليّاً.

كما يؤكد أردوغان أن تركيا تنتمي إلى لدول الضامنة (إنكلترا واليونان) بالنسبة إلى قضية قبرص، وأن بلاده تعلم جيداً طبيعة الحدود والمناطق بخاصة حدود المنطقة الاقتصادية، وهي حدود تابعة لها وستقوم السفن بعمليات البحث والتنقيب وبشكل حر ومستقل شرقي المتوسط.

تركيا انطلقت في إبرام هذه المذكرات مع الجانب الليبي انطلاقاً من حقوقها وحقوق قبرص التركية في منطقة شرق المتوسط.

حسن الشاغل، باحث في العلاقات الدولية

وفي هذا الصدد أوضح الشاغل أنه "بعد التوقيع على هاتين المذكرتين أصبحت تركيا من أكثر الدول تأثيراً في نقل الطاقة من الدول المصدرة إلى الدول المستهلكة، وهذا سيعود على تركيا بفوائد استراتيجية سياسية وأمنية، أي إن أمن تركيا سوف يرتبط بالأمن العالَمي لسوق الطاقة لكونها المتحكم بخطوط النقل، وأيضاً فوائد اقتصادية بسبب العائدات التي سوف تحصل عليها تركيا من مرور خطوط الطاقة من أراضيها".

وفي هذا الجانب أشار "الصالحي" إلى أن تركيا تعتمد على القوانين الدولية في كل خطوة تخطوها، سواء في اتفاقياتها العسكرية في ليبيا وتواجدها في البحر المتوسط وتسيير سفنها المنقبة عن الغاز، أو اهتمامها بالقسم التركي من قبرص ومنطقة البلقان، يضاف إلى ذلك الدور المحوري في عملية الشد والرخي ما بين الولايات المتحدة وروسيا في صفقات (S 400) وطائرات (F35) أو صواريخ الباتريوت، فضلا عن قدرتها على تصنيع المنتجات العسكرية الدفاعية محليا، وارتباطاتها الاقتصادية مع آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، بالإضافة إلى وجودها في شمال سوريا لحماية أمنها القومي، فكله يندرج في إطار الأعراف الدولية التي تستند إليها تركيا.

ووسط تلك الأحداث المتسارعة في ما يخص الاتفاق التركي الليبي، يرى مراقبون أنه اتفاق غيّر قواعد اللعبة ووقف بوجه من يحاول اغتصاب حقوق الدولتين شرقي المتوسط، وهذا ما أكده أمر الله إيشلر، مبعوث أردوغان إلى ليبيا، إذ قال الثلاثاء الماضي في تغريدات له على تويتر، إن "الخطوة التي قامت بها ليبيا وتركيا والتي غيرت قواعد اللعبة، وأقلقت كل الجهات التي تحاول تقاسم البحر المتوسط بطرق غير مشروعة، لذلك كلهم تحفزوا للرد، لكن تركيا وليبيا أكّدتا إصرارهما على موقفهما في كل مرة".

TRT عربي
الأكثر تداولاً