تابعنا
توقّد فتيل النقاش في الجزائر، حين تسربت أرقام تقترن بحجم الأموال التي شابها الفساد، ما جعل الجزائريين يطالبون بإنزال أقسى العقوبات على من ثبت تورطهم في النهب واسترداد أموال الشعب في الداخل والخارج.

على إثر إيداع رجال أعمال جزائريين الحبس المؤقت بأوامر من القضاء على خلفية متابعتهم بتهم تتعلق بالفساد، انطلق نقاش مستفيض حول مصير أموال منهوبة وأخرى مهربة إلى الخارج من قِبل من سمّاهم قائد أركان الجيش الجزائري بـ"العصابة".

وتوقّد فتيل النقاش للوهلة الأولى على منصات التواصل الاجتماعي، حين تسربت أرقام تقترن بحجم الأموال التي شابها الفساد، تطابقت بشأنها مطالب الجزائريين مؤيدة إنزال أقسى العقوبات على من ثبت تورطهم في النهب ومشددة على استرداد أموال الشعب في الداخل والخارج.

تخفيفاً من حدة الجدل الحاصل وبغرض استعادة الثقة بين الشعب والقضاء، جاءت تصريحات وزير العدل الجزائري بلقاسم زغماتي، إذ قال في هذا الصدد إن مكافحة الفساد لن تكتمل وتبلغ غايتها إلّا باسترجاع الأموال المنهوبة التي تشكل حجر الزاوية على المستويين الوطني والدولي.

وعود الحكومة

وفسّر الوزير في خطابه الذي نقلته وكالة الأنباء الجزائرية، أن هذا الملف يستوجب تعميق التحقيقات الأولية من أجل كشف الجناة وحصر عائداتهم الإجرامية وتحديد أماكن تواجدها وإحصائها، بقصد حجزها أو تجميدها ريثما تعرض على الجهات القضائية للفصل فيها طبقاً للقانون.

وطمأن المشككين في نوايا الحكومة استرداد الأموال بأن الجزائر تتوفر على الآليات القانونية اللازمة، مستنداً إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لمساعدة الدول التي يصعب عليها بمفردها محاربة هذه الآفة لتعزيز مجالات التعاون مع بقية الدول.

وفي تقدير الكثير من الخبراء، على غرار أستاذ العلوم السياسية لحبيب بلية، أن مكافحة الفساد ليست ذات معنى ما لم تكن هناك مساعٍ لاسترجاع الأموال المنهوبة وعائداتها سواء تلك المستثمرة داخلياً أو المهربة إلى الخارج.

وصنف القضاء الجزائري الجرائم المتابع فيها رجال الأعمال أنها ذات طبيعة اقتصادية تقنية، تتعلق بالصفقات العمومية والمبالغ المالية الضخمة التي نهبت من الخزينة العمومية، مما قد يجبر القضاة على الاستعانة بالخبراء والمتخصصين في المجال.

وهنا نبّه الباحث إلى وجود صعوبة في تتبع مسار الأموال المنهوبة، بخاصة تلك المهربة إلى الدول المعروفة بالجنات أو الملاذات الضريبية، على اعتبار أنها دول لا تبذل جهوداً كافية لمكافحة التهرب الضريبي، أو أودعت في حسابات بنكية بأسماء أخرى أو بأسماء مستعارة.

وفي غياب أرقام رسمية، يقدّر اقتصاديون حجم الأموال العمومية المبددة بـ200 مليار دولار خلال فترة حكم بوتفليقة، في حين قدّر آخرون قيمة الأموال العمومية المهربة إلى الخارج خلال نفس الفترة بما لا يقل عن 24 مليار دولار.

قوانين الارتكاز

وقال بلية في اتصال مع TRT عربي إنه بمقدور الجزائر أن تعمل على استرجاع أموالها بالارتكاز على العديد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية الموقع عليها مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2003.

ونصت مواد منها على المساعدة القانونية المتبادلة بين الدول الأطراف في التحقيقات والملاحقات والإجراءات القضائية كتحديد العائدات الإجرامية والممتلكات أو اقتفاء أثرها، واسترداد الموجودات، ومنعت الدول الأطراف فيها من رفض تقديم المساعدة القانونية بحجة السرية المصرفية.

وأشار الباحث إلى أن السلطات الجزائرية يمكنها أيضاً الاعتماد على اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمنع الفساد ومكافحته المعتمدة بمابوتو في 11 يوليو/تموز 2003 والمصادق عليها بموجب المرسوم الرئاسي رقم 06-137 المؤرخ في 10 أبريل/نيسان 2006.

أما على الصعيد الإقليمي العربي، لفت الباحث إلى وجود الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد المحررة بالقاهرة بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 2010 والمصادق عليها بموجب المرسوم الرئاسي رقم 14-249 المؤرخ في 8 سبتمبر/أيلول 2014.

وعن مدى إلزامية أحكام هذه الاتفاقيات الدولية، يؤكد بلية أن المعاهدات الدولية تسمو على التشريعات الوطنية قياساً بنص المادة 150 من الدستور التي تنص على أن المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهوريّة، حسب الشّروط المنصوص عليها في الدّستور، تسمو على القانون.

ودعا الباحث إلى عدم إغفال اتفاقيات التعاون القضائي الثنائية التي أبرمتها الجزائر مع العديد من الدول خصوصاً منها تلك التي كانت قبلة للأموال العمومية المهربة، فضلاً عن القانون المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته، الذي جرى سنُّهُ بمقتضى الاتفاقية الدولية التي سبقت الإشارة إليها.

التسوية مقابل التخفيف

علاوة على الاعتبارات القانونية الإجرائية، يتصور بلية أن الاعتبارات السياسية المتعلقة أساساً بمدى متانة العلاقات الدولية الثنائية تمثل محدداً حاسماً في الاستجابة لطلبات استرجاع هذه الأموال، كما يمكن أن تدخل هذه المسألة في سوق الابتزاز والمساومة السياسية.

وكان ثلة من الخبراء نبهوا إلى وجود آليات بديلة أكثر نجاعة، من بينها عقد اتفاق تسوية مع المتهمين يقضي بإرجاع الأموال العمومية المنهوبة وعائداتها مقابل الاستفادة من الظروف المخففة.

لكن المحامي عبد الغني بادي استبعد حدوث ذلك، لعدم توفر نصوص قانونية تسمح بالتسوية مقابل التخفيف، إلا في حال انتهجت الجزائر سياسة المصالحة الاقتصادية، غير أن هذه الاجراءات قد تصلح مع رجالات المال دون رجالات السياسة، ممن استغلوا وظائفهم في نهب الأموال وتهريبها، على حد قوله.

ضمن المنوال نفسه، يعتقد المحامي أن أهم العناصر التي تبقى أكثر من ضرورية ولا يمكن أن نخطو خطوة واحدة من دونها في مسار استرجاع الأموال تبدأ بصدور أحكام نهائية تدين المتهمين وتصادر الممتلكات أو تحكم عليهم بالتعويض.

الشرعية تضمن استرجاع المال

ويقبع العديد من رجال الأعمال متهمين بنهب الأموال وتهريبها رهن الحبس المؤقت، كانوا قبل بداية الحراك الشعبي محسوبين على محيط الرئيس بوتفليقة، في حين لا تزال التحقيقات القضائية جارية قادت بعض المسؤولين إلى السجن كانوا على صلة بالفساد.

وفي نظر المحامي فإن أهم نقطة تنظر إليها بالخصوص الدول الغربية والبنوك التي يفترض أنها مكان وديعة الأموال هي ضرورة إرساء قواعد الديمقراطية والشفافية في التسيير الاقتصادي، ذلك أن الدول والبنوك العالمية لا يمكنها أن تتعامل مع دولة تمر بفراغ مؤسساتي ولا تملك رئيساً أو سلطة شرعية.

ومن هنا، يعتقد بادي في اتصال مع TRT عربي أن من الصعب جداً استرداد الأموال في وضع سياسي مثل الذي تعيشه البلاد، خصوصاً أن الحراك الشعبي لا يزال متواصلاً ولم تستجب السلطة الفعلية للمطالب التي رفعها الجزائريون.

ويتساءل قائلاً: في ظل غياب المؤسسات، فمن المؤسسة الشرعية التي يمكنها أن تقدم ضمان الشفافية والديمقراطية؟ مشيراً إلى أن الدول القائمة على مبدأ الشفافية لا يمكنها أن تسلم الأموال لحكومة تعرف أنها غير شرعية ينادي شعبها في الشارع برحيلها، كما لا يمكنها كذلك أن تتعامل مع العسكر.

وعلى هذا الأساس، لا يرى الخبير القانوني أي حل عدا إرساء الشرعية وقواعد الديمقراطية وتسليم السلطة للشعب، على اعتبار أن الوضع القائم غير شرعي ولا يسمح لأي دولة تهتم بالشأن الديمقراطي أن تتعامل مع دولة لا تملك شرعية شعبية.

وحال إجراء انتخابات شفافة تشهد عليها التقارير الدولية، وتثبت بعدها الجزائر أنها قادرة على تسيير اقتصادي وفق المؤشرات العالمية لقواعد الشفافية حينها يقول بادي إنه يمكن أن تبدأ المفاوضات الجادة حول استرجاع الأموال بضمان الديمقراطية والسير الحسن.

TRT عربي