تابعنا
شهدت الساعة الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة تصريحات أمريكية وأوروبية تكشف تبني واشنطن وبروكسل المحاولة والرغبة بنجاحها قبل أن يغير مسار الأحداث موجة المواقف ويجبر الغرب على المسارعة إلى إبداء دعمه الصريح للمؤسسات المنتخبة ديمقراطياً في تركيا.

في 16 يوليو/تموز من عام 2016، شهدت تركيا أحدث انقلاب في تاريخها الحديث بعد مضي أكثر من 3 عقود ونصف العقد على آخر انقلاب عسكري، ولكن هذا الانقلاب يختلف عن كل ما سبقه في أنه سجل في التاريخ كمحاولة انقلابية فاشلة. وبالطبع كان لهذه المحاولة الانقلابية من يقف خلفها من منظمات إرهابية مدعومة من دول بعضها خطط لها وبعضها ساند في تمويلها، وبعضها الآخر حاول توفير مساندة إعلامية لها في ساعاتها الأولى دون جدوى.

لم تكن مهمة الانقلابيين في 2016 من أتباع منظمة فتح الله غولن الإرهابية سهلة، ولكنهم خططوا لها بشكل جيد على مدى أشهر وربما سنوات، وأظهرت مجريات المحاولة الانقلابية أنهم أعدوا سيناريوهات خطط بديلة عديدة، لكن المفاجأة التي لم يحسبوا لها حساباً فيما يبدو هي ردة فعل الشعب التركي، ومبادرته لإحباط التحركات الانقلابية بنفسه في الشوارع، في هبة فريدة للدفاع عن الديمقراطية ومؤسساتها والمكتسبات الناجمة عنها.

شهدت الساعة الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة تصريحات أمريكية وأوروبية تكشف تبني واشنطن وبروكسل المحاولة والرغبة بنجاحها قبل أن يغير مسار الأحداث موجة المواقف ويجبر الغرب على المسارعة إلى إبداء دعمه الصريح للمؤسسات المنتخبة ديمقراطياً في تركيا.

كما سادت في هذه الأثناء حالة من الهيستيريا في بعض الإعلام العربي المحسوب على السعودية والإمارات كما في عدد من وسائل الإعلام الغربية قادتها إلى الدوس على جميع المعايير المهنية الصحفية المتعارف عليها، تهليلاً بالانقلاب أو مساندة له، وهو سلوك يرى فيه خبراء وباحثون انعكاساً لمواقف الدول المالكة لهذا الإعلام أو الممولة له، لا سيما فيما يتعلق بالإعلام العربي.

الموقف الأمريكي والأوروبي

جاء أول تعليق للولايات المتحدة على المحاولة الانقلابية خلال الساعة الأولى لبدئها عندما أصدرت السفارة الأمريكية في أنقرة بياناً تدعو فيه مواطنيها لأخذ الحذر في ظل ما وصفته بـ"انتفاضة" في البلاد قبل أن تحذف البيان وتنشر بيانات متتالية أسقطت منها هذا الوصف.

تلا ذلك إدلاء وزير الخارجية الأمريكية آنذاك جون كيري بأول تصريح له حول ما يجري في تركيا مكتفياً بالقول: "آمل في حل الأزمة والحفاظ على السلام واحترام استمرارية السلطة". وينظر إلى وصفه الانقلاب بأنه "أزمة" محاولة للتقليل من الطابع اللاشرعي للتحرك، فيما تعد دعوته لاحترام "استمرارية السلطة" مساندة أقل من مباشرة للديمقراطية في البلاد، وبذلك حاولت واشنطن أن تمسك بالعصا من المنتصف ريثما يتبين نجاح المحاولة الانقلابية من فشلها.

وبعد وضوح فشل الانقلاب كتب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في اليوم التالي على حسابه في تويتر أنه على جميع الأحزاب في تركيا دعم الحكومة "المنتخبة ديمقراطيًا"،وفي اتصال هاتفي مع نظيره التركي مولود جاوش أوغلو أكد وزير الخارجية الأمريكية جون كيري أن بلاده تدعم بشكل مطلق المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً في تركيا.

اقرأ أيضا:

أما الاتحاد الأوروبي فلم يقع في خطأ البيانات الرسمية الذي وقعت فيه السفارة الأمريكية في أنقرة، وعمد في اللحظات الأولى للانقلاب إلى الإدلاء بتصريحات لمصادر غير معلومة تلمح إلى ضرورة أخذ حجم التحرك العسكري بجدية وكأنه تمهيد لموقف لاحق يمكن أن يقبل فيه الاتحاد التعامل مع النظام المرتقب بعد الانقلاب.

فقد نقلت رويترز عن مصادر في الاتحاد الأوروبي أن محاولة الانقلاب العسكري الجارية في تركيا "تبدو كبيرة وليست من بضعة أفراد في الجيش". ولكن بعد انقضاء أول ساعة وبروز تعثر الانقلاب دعت فيديريكا موغيريني، مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن آنذاك، على حسابها على تويتر إلى احترام مؤسسات الديمقراطية في تركيا.

الإعلام السعودي والإماراتي

يعد الإعلام الخليجي، خاصة السعودي والإماراتي، إلى جانب الإعلام المصري الأكثر غرقاً في الأوهام ليلة الانقلاب الفاشل ما تسبب له بالكثير من الفضائح الأخلاقية والمهنية، وكشف عن مواقف مالكيه ومموليه.

ولعل من أبرز السقطات التي ارتكبها إعلام الدولتين زلة لسان مذيعة قناة العربية السعودية عندما كانت المذيعة نيكول تنوري، تتلو تصريحاً للرئيس التركي السابق عبد الله غول خلال نشرة إخبارية إذ قالت "ضباط من الجيش قاموا بمحاولة انقلاب، لكن للأسف" قبل أن تعدل جملتها هذه قائلة: "ولكن الشكر لله تم إحباطها".

أما قناة سكاي نيوزعربية المملوكة لأبو ظبي فارتكبت أسوأ الكوارث المهنية تلك الليلة والتي ستظل تلطخ سجلها المهني، وتذكر مقترنة بها على الدوام، وتتمثل تلك الكارثة بإذاعة مزاعم "لجوء أردوغان إلى ألمانيا" نقلاً عن مصدر أمريكي حسب قولها دون أن يكون للخبر أصل في أي وسيلة إعلام أخرى.

وبينما عبر مسؤولون غربيون في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة عن رأيهم بأن هذه المحاولة لم تكن محكمة وغير مخطط لها بشكل جيد فإن هذا الرأي تخالفه الحقائق على الأرض، فالعملية كان مخططاً لها إلى درجة أن الأخبار التي نشرتها وسائل الإعلام السعودية والإماراتية وبعض وسائل الإعلام الأجنبية عن تطورات متوقعة للانقلاب كانت تشي بأنها مكتوبة مسبقاً، وقد تسبب فشل الانقلاب بتعرية هذه الوسائل إلى حد كبير.

الموقف في سياسة التحرير

الباحث والكاتب المختص بالشأن التركي، سعيد الحاج، يرى أن "ما نشر ليلة الانقلاب الفاشل مؤشر على حالة من التقصد والتحيز والترصد لتركيا، وتحديداً لحزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان". وأضاف أن "وسائل الإعلام التي نشرت تلك الأخبار غير الموثقة أو الملفقة ضربت عرض الحائط بالحد الأدنى من قواعد العمل الصحفي وكان واضحاً أن هناك نشوة في الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية".

ويقول "الحاج" في حديث مع TRT عربي إن ما حدث "يشير إلى أن وسائل الإعلام هذه كانت راضية وسعيدة بما يحصل، وقد يشمل ذلك رغبتها وتشجيعها لنجاح هذا الانقلاب الفاشل".

لكن الموقف الذي يمكن قراءته في سلوك وسائل الإعلام تلك قد لا يقتصر عليها ويتعداها إلى الدول المالكة لها. فبحسب الباحث السياسي الذي عايش أحداث الانقلاب الفاشل، فإن "بعض وسائل الإعلام هذه تعمل في دول من الصعب تخيل أن تكون سياساتها التحريرية بعيدة عن توجهات الدول السياسية، والتي بعضها معروف بعدائه أو خصومته الشديدة لتركيا في ملفات السياسة الخارجية وخصوصاً قضايا المنطقة".

ويؤكد الحاج أن "السياسة التحريرية في وسائل الإعلام هذه تعكس رغبة سياسية لبعض الأنظمة الحاكمة وبعض الدول في المنطقة والعالم".

ويخلص الخبير بالشأن التركي إلى القول بأن "أنقرة مقتنعة أن بعض الدول العربية والإقليمية كان لها مساهمة ما في المحاولة الانقلابية الفاشلة، على الأقل على مستوى التمويل، إن لم يكن على مستوى التخطيط".

خارج حسابات الانقلابيين

لم يكن أي من الجهات المشاركة في الانقلاب تنفيذاً أو دعماً أو تخطيطاً يتوقع حجم ردة الفعل الشعبية إزاء التحركات التي جرت ليلة 15 يوليو/تموز 2016، وكانت تتوقع من المعارضة التركية وقواعدها الشعبية الانخراط الكامل في المؤامرة، لكن المفاجأة أن الانتفاضة الشعبية التي شارك فيها مختلف أطياف الشعب التركي، والاحتشاد في ساحات حماية الديمقراطية شكّلا ضغطاً على جميع السياسيين، وأجبرت الأحزاب كافة على رفض الانقلاب وتحديه علناً.

ولعل من أهم أسباب الهبة الشعبية التي ساهمت في إحباط الانقلاب والإطاحة بمنفذيه هو أن الشعب التركي بكل أطيافه نهض للدفاع عن مكتسباته سواء على صعيد الديمقراطية التي ترسخت على مدى عقود منذ آخر انقلاب عسكري شهدته البلاد عام 1980، أو على صعيد الرفاهية والنمو الاقتصادي الذي شهدته البلاد خلال الأعوام الـ15 التي سبقت محاولة الانقلاب في 2016، كما يرى الكاتب والمحلل السياسي يوسف كاتب أوغلو.

وفي حديث مع TRT عربي يوضح كاتب أوغلو رأيه بالقول إنه "وبعد 36 عاماً من الديمقراطية بإيجابياتها وسلبياتها ومع مجيء حزب العدالة والتنمية قبل 15 عاماً مع استقرار سياسي ونمو اقتصادي ورخاء وحرية وكرامة أصبح هناك جيل مستعد للتضحية بنفسه للدفاع عن المكتسبات".

ويضيف: "الشعب التركي لمس فرقاً واسعاً بين ما قبل 2002 وما بعد حتى 2016، سواء من حيث معدل دخل الفرد أو حجم الصادرات أو بقية المؤشرات الاقتصادية".

ويرى الكاتب والمحلل السياسي أنه "عندما أحس الشعب التركي بأن هناك من يريد أن يسلبه هذه المكتسبات من خلال محاولة الانقلاب العسكري الفاشل هب وانتفض بقوة بكل أطيافه، الكل نزل إلى الشوارع ليقول للانقلابيين لن تمروا إلا على أجسادنا، وهذا أربك الانقلابيين أيما إرباك وأفشل المخطط".

وذكر كاتب أوغلو دور الإعلام في إفشال الانقلاب من خلال تغطيته للأحداث لحظة بلحظة، وتغطية الهبة الشعبية تحديداً، وأيضاً إيصال رسالة الرئيس أردوغان للشعب للنزول إلى الشارع.

وأشار كذلك إلى "اجتهاد رئيس الشؤون الدينية آنذاك محمد غورماز الذي أمر المؤذنين في كل تركيا أن يحيوا ليلة الانقلاب بالصلوات والذكر والدعاء والتكبيرات، وهذا بث الرعب أيضاً في نفوس الانقلابيين".

مواطنون اتراك يوقفون مدرعات للجيش التركي في الميدان الرئيسي بالعاصمة انقرة (AA)
TRT عربي
الأكثر تداولاً