تابعنا
أدى قصف قوات الأسد وحليفه الروسي على منطقتي إدلب وحماة بالكثير من السوريين إلى النزوح، غير أن آخرين فضلوا البقاء في أماكنهم. ولا أحد منهما سلِم من المعاناة.

في ساعات الفجر الأولى من كل يوم، وقبل بدء طيران قوات الأسد وحليفه الروسي قصفه الصباحي المعتاد بريف إدلب الجنوبي يخرج عمر الصالح لتأمين حاجيات منزله الأساسية، دون أن يفارق جهازه اللاسلكي يده، وذلك لمتابعة التحذيرات التي ترسلها المراصد عن أماكن تواجد الطائرات ومناطق التنفيذ.

سوء الأوضاع التي يعيشها النازحون دفع بعض العائلات لاختيار البقاء في أماكنهم على الرغم من حدة القصف وانعدام الخدمات الإنسانية.

"ليس النزوح بالأمر السهل في ظل الفقر وارتفاع إيجارات المنازل، ما دفعنا للبقاء، إذ أقضي معظم الوقت داخل هذا الملجأ مع زوجتي وأبنائي الستة، كما اضطررت إلى بيع المواشي التي كنت أربيها لصرف ثَمنها في تأمين بعض حاجيات المنزل الضرورية"، يقول عمر، الذي يمضي ساعات طوال برفقة عائلته داخل ملجأ في بلدة حيش بريف إدلب الجنوبي.

الموتُ أرحم من حياةٍ تحت الأشجار

غير بعيد عن عمر وعائلته تقطن أم علاء في مدينة معرة النعمان بريف إدلب، والتي شهدت مئات الغارات خلال الأيام الماضية.

تقول السيدة التي فقدت زوجها وتعيش مع أطفالها الثلاثة "إن الموت هنا أفضل من الحياة تحت الأشجار". في إشارة منها إلى ما يقاسيه الأشخاص الذين اختاروا النزوح إلى أماكن تنعدم فيها الخصوصية وتنتشر الحشرات والأوبئة والأمراض.

صوت الطائرة يصيب طفلها ذا السنوات السبع بحالة من الذعر الشديد، تقول إنه ليس بيدها حيلة سوى الصبر، وأن تضم طفلها إلى صدرها في محاولة للتخفيف من خوفه الشديد، غالباً لا يفلح ذلك، على حد قولها.

رحلة الهرب من الموت

أجبر استمرار المعارك سكان أكثر من أربعين بلدة ومدينة بريفي حماه وإدلب على النزوح، تاركين منازلهم وأرزاقهم خلفهم، قاصدين المخيمات على الشروط الحدودي مع تركيا، أو اللجوء إلى مناطق أكثر أمناً في إدلب المدينة ومحيطها أو ريف حلب الغربي، بعضهم استطاع الحصول على منزل مستأجر ليأوي إليه على الرغم من غلاء الإيجارات وسوء الأحوال الاقتصادية، فيما لجأ القسم الأكبر إلى العراء أو تحت أشجار الزيتون، وهناك من قصد المغاور والمواقع الأثرية ليعيشوا في ظروف حياتية مأساوية، ترافق ذلك مع ضعف في استجابة المؤسسات الحكومية والمجالس المحلية، كذلك المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني التي قدمت استجابة طارئة مع عجزها عن استيعاب الأعداد الكبيرة التي تزيد في كل يوم.

يقول أبو محمد (نازح من مدينة خان شيخون) لـTRT عربي إنها المرة الثالثة التي يخرج فيها من مدينته خلال السنوات الماضية بفعل القصف والمعارك الدائرة. لم يستطع هذه المرة حمل الكثير من أمتعته نظراً إلى كثافة القصف، فاكتفى ببعض البطانيات والمؤن التي حملها متجهاً نحو المخيمات الحدودية المكتظة بالوافدين، ما حال دون حصوله على خيمة تؤويه، ليسكن مع عائلته تحت واحدة من أشجار الزيتون بالقرب من سرمدا (شمال إدلب).

يقول "لا أملك القدرة على دفع بدل الإيجار الذي تجاوز مئة دولار، وقد يصل أحياناً إلى ما يزيد عن ثلاثمائة دولار للشهر الواحد".

قصفٌ وتدمير

وتواصل قوات نظام الأسد وحليفه الروسي وبمشاركة المليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني مؤخراً حملتها العسكرية على أرياف حماه وإدلب، والتي بدأتها بقصف جوي منذ فبراير/شباط 2019 بعد خمسة أشهر من الاتفاق الروسي التركي الذي نص على إقامة منطقة منزوعة السلاح في تلك الأرياف منذ سبتمبر/أيلول 2018، لتتبعها بهجوم بري في نهاية أبريل/نيسان الماضي لا يزال مستمراً حتى اللحظة، ما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من المدنيين، وتدمير للبنى التحتية والمرافق العامة، ومقتل وإصابة الآلاف من أبناء المنطقة بينهم نساء وأطفال.

في هذا السياق، قال عماد زهران، رئيس شعبة الإعلام في صحة إدلب، لـTRT عربي إن "القصف المتواصل أسفر عن خروج 32 منشأة طبية عن الخدمة في إدلب، وتعليق العمل في أكثر من أربعين نقطة أخرى نتيجة سوء الأوضاع الأمنية، إضافة إلى مقتل سبعة أفراد من الكوادر الطبية والإسعافية".

من جهته وثق فريق منسقو استجابة سوريا والذي أسسه عدد من النشطاء والعاملين في المجال الإنساني في الشمال السوري استهداف قوات الأسد لـ66 منشأة طبية و106 مدراس و18 سوقاً شعبياً و11 مخيماً للنازحين، إضافة إلى ثلاثة محطات لتوليد الكهرباء ومحطتي تحويل مياه في الشمال السوري، كما ذكر أن 133.912 عائلة تضم 869.992 شخصاً قد نزحت إلى مناطق أكثر أمناً، فيما لقي 1269 مدنياً مصرعهم بينهم 352 طفلاً نتيجة القصف، وجرح ما يزيد عن 3439 آخرين.

كما جرى استهداف مراكز وفرق الدفاع المدني والعمل الإنساني، ما أدى إلى خروج ثلاثة مراكز عن الخدمة ومقتل 30 من الكوادر الإنسانية العاملة في المنطقة (4 كوادر طبية - 11 مسعفاً - 10 من كوادر الدفاع المدني - 5 عمال في المجال الإنساني).

منطقة عسكرية

وليست المنازل وحدها ما يتعرض للاستهداف من قبل طائرات الأسد، فمعظم المحال التجارية أغلقت أبوابها خوفاً، أو بسبب انعدام الحياة في القرى والبلدات التي نزح أهلها، كما هجر المزارعون أراضيهم في مواسمها دون أن يتمكنوا من قطافها، علماً أن أكثر من نصف سكان إدلب وحماه يعتمدون على الزراعة كمصدر دخل وحيد لحياتهم.

يقول محمود القدور من بلدة التمانعة بريف إدلب، والتي تشتهر بكروم الفستق الحلبي أو "الذهب الأحمر" كما يطلق عليه أبناء المنطقة، إن موسم القطاف قد بدأ دون قدرة السكان على الاستفادة منه، بخاصة مع رصد قوات الأسد للمنطقة الجنوبية من المدينة والتي تمثل الحقول الأوسع لكروم الفستق، كذلك وصول قوات الأسد إلى مشارف خان شيخون من الجهة الشمالية وهو ما أسفر عن اعتبار المدينة منطقة عسكرية.

يكمل الرجل، إن مصدر دخله الوحيد يتمثل بمحصول الفستق، إذ يمتلك حوالي خمسة دونمات في التمانعة، اضطر إلى تركها نتيجة القصف والنزوح، وبذلك يكون قد فقد ما كان يأمل به ليعينه على الحياة خلال الأشهر القادمة، إضافة إلى التكاليف المالية التي دفعها في فلاحة أشجاره وتقليمها ورعايتها.

تجاهل المجتمع الدولي

محمد الحلاج، مدير منظمة منسقي الاستجابة السورية، تحدث إلى TRT عربي عن الوضع في المنطقة قائلاً "تستمر الأعمال العسكرية في محافظة إدلب والمناطق المحيطة بها من قبل قوات النظام السوري وبدعم مباشر من الطرف الروسي، إذ تواصل تلك القوات حملتها العسكرية على المنطقة منذ 2 فبراير/شباط 2019 وسط تجاهل تام من المجتمع الدولي لما يحصل في المنطقة"، واصفاً ما يحدث بـ"أكبر موجة نزوح تشهدها سوريا منذ عام 2011"، الأمر الذي يجعل المنطقة عاجزة كلياً عن الاستجابة العاجلة للنازحين في المنطقة وسط استمرار تدفق الآلاف من النازحين الفارين من الأعمال العسكرية.

كما طالب الحلاج كل الجهات الدولية المعنية بالشأن السوري بالتدخل بشكل مباشر لإيقاف الأعمال العدائية التي تستهدف المدنيين في محافظة إدلب والمناطق المحيطة بها.

تعتبر إدلب في الشمال السوري آخر معاقل الثورة السورية، والحاضنة للعدد الأكبر من المهجرين قسرياً والنازحين داخلياً من مختلف بقاع الجغرافيا السورية، ولكن أهلها يتعرضون لوتيرة متصاعدة من القصف والتدمير كل يوم، يضاف إلى معاناتهم انعدام سبل المعيشة، والمشكلات المرتبطة بانهيار البنى التحتية والوضع الصحي المتردي، والظروف الأمنية الخطرة التي يعيشون ضمنها، فيما يهدد بكارثة إنسانية تهدد ما يزيد عن أربعة ملايين مدني يعيش أكثرهم تحت خط الفقر.

استهدفت قوات الأسد مركزا صحيا في بلدة ترملا في ريف إدلب الجنوبي (TRT Arabi)
لجأ الكثير من السوريين إلى الهرب من القصف مختبئين تحت الأشجار، حيث لا توجد خصوصية، وتنتشر الحشرات والأوبئة (TRT Arabi)
لجأ القسم الأكبر من سكان حماة وإدلب إلى العراء أو تحت أشجار الزيتون، وهناك من قصد المغاور والمواقع الأثرية ليعيشوا في ظروف حياتية مأساوية (TRT Arabi)
استهدف نظام الأسد أيضاً خلال القصف طواقم الدفاع المدني (TRT Arabi)
سوء الأوضاع التي يعيشها النازحون دفع بعض العائلات لاختيار البقاء في أماكنهم على الرغم من حدة القصف (AFP)
فضل بعض سكان إدلب وحماة السكن في مدفن أثري يعود إلى العهد الروماني على النزوح (TRT Arabi)
يتدفّق الكثير من النازحين من ريفي إدلب وحماة باتجاه الشمال السوري هرباً من القصف (TRT Arabi)
TRT عربي