مواطنون أفغان ينتظرون قرب سياج في مطار كابل على أمل الحصول على مقعد بإحدى الطائرات المغادرة (Shakib Rahmani/AFP)
تابعنا

أعاد مشهد الطائرات المروحية الأمريكية وهي تُخلي في حالة إرباك موظفي السفارة الأمريكية في كابل إلى الأذهان مشهد إخلاء السفارة الأمريكية في فيتنام عقب هزيمة أمريكا في الحرب هناك، حيث تركت واشنطن خلفها أعداداً كبيرة من المتعاونين المحليين الذين توسلوا القوات الأمريكية لاصطحابهم لكن دون جدوى، حيث تركوا لمصيرهم الذي كان في كثير من الأحيان القتل وفي أحسن الأحوال النبذ من المجتمع بعد وصمهم بـ"العملاء".

هذا المشهد لم يكن الوحيد، حيث يتكدس آلاف الأفغان الذين عملوا إلى جانب القوات الأمريكية طوال عشرين عاماً ماضية في مطار كابل، في محاولة للخروج بصحبة القوات الأمريكية التي أطلقت النار في الهواء لتفريقهم حتى لا يعيقوا عمليات سحب الدبلوماسيين والقوات الأمريكية التي تبقى لها الأولوية الكبرى للإدارة الأمريكية التي فوجئت بالتطورات، واضطرت إلى إرسال آلاف القوات الإضافية لحماية مواطنيها وسحبهم.

وعلى الرغم من أن الصورة النهائية لم تتضح بعد في أفغانستان فإن كل التطورات تشير إلى أن القوات الأمريكية سوف تترك جزءاً كبيراً من المتعاونين الأفغان لمواجهة مصيرهم، وهو ما أعاد إلى الأذهان الكثير من المشاهد المماثلة في التاريخ، لا سيما المصير الذي لاقاه المتعاونون المحليون مع الاحتلال الفرنسي للجزائر، والاحتلال الأمريكي لفيتنام والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان لا سيما ما كان يعرف باسم "جيش لحد".

لبنان.. "جيش لحد"

جيش لحد نسبة إلى مؤسسه وقائده العسكري الأبرز أنطوان لحد الذي قاد التشكيل العسكري عقب وفاة مؤسسه سعد حداد 1984، وكان يضم في صفوفه قرابة 6 آلاف جندي، تشكل تحت اسم جيش لبنان الجنوبي في إطار الجيش اللبناني لكنه انحدر تدريجياً وصولاً إلى تلقيه الدعم الكامل من إسرائيل التي احتلت جنوب لبنان عام 1982، ليتولى مهام القتال وإدارة شؤون المناطق المحتلة بدلاً عن إسرائيل.

ولسنوات قاد جيش لحد القتال أمام المقاومة اللبنانية ووفر على إسرائيل الكثير من الخسائر البشرية، كما تولى إدارة شؤون الإدارة المدنية في المناطق المحتلة، وعندما قررت إسرائيل الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 لم تكلف نفسها حتى التنسيق مع هذه القوات أو وضع خططها لسحبها معها، أو حتى مجرد إبلاغها لاتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنب نقمة المقاومة والشعب اللبناني الذي ذاق مرارة ممارسات هذه القوات المتعاونة مع الاحتلال. ومن شدة ارتباط هذه المليشيات بالاحتلال الإسرائيلي حاولت ثني إسرائيل عن قرار الانسحاب وحثها على البقاء.

وعقب الانسحاب الإسرائيلي المفاجئ، نجح جانب من عناصر المليشيا بالهروب إلى داخل إسرائيل، بينما لم ينجح البعض ليلقى مصيره إما بالقتل وإما بالاعتقال على يد المقاومة والجيش اللبناني حيث جرت محاكمتهم بتهمة "الخيانة"، بينما تشرد كثيرون في العديد من الدول الأوروبية وواجهوا ملاحقات بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

أما من نجحوا في الدخول إلى إسرائيل، فعاشوا في أحياء مختلفة في حيفا ونهاريا وطبريا شمالي إسرائيل ولم يتمكنوا من العودة إلى لبنان، حيث تلقى بعضهم مساعدات جزئية من الحكومة الإسرائيلية في حين اشتكى كثيرون من الإهمال وضعف الدعم وصعوبة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي وصعوبة الحصول على عمل، وتحدث بعضهم عن أن إسرائيليين ينعتونهم بـ“الخونة” على الرغم من أنهم لبنانيون قاتلوا لمصلحة إسرائيل ضد بلدهم ما دفهم إلى الهجرة من إسرائيل إلى دول أوروبية، في حين عمل زعيم المليشيات أنطوان لحد في إدارة مطعم لبيع الحمص والفلافل قبل أن يتوفى عام 2015 بعد أن رفضت فرنسا منحه حق اللجوء، فيما يواصل حتى اليوم بعضهم العودة إلى لبنان.

فيتنام.. "القتل مصير الخونة”

في مشهد ما زال راسخاً في ذاكرة كل من تابع الانسحاب الأمريكي من فيتنام 1975، تقترب مروحية شينوك تابعة للجيش الأمريكي من سطح السفارة الأمريكية في سايغون لتخلي الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين، وبينما يحاول متعاونون محليون حجز مقعد لهم على متن تلك المروحيات، كان يتم انتقاء الأمريكي ودفع المتعاونين المحليين إلى الابتعاد كي لا يعيقوا سحب الأمريكيين، فالأولوية للأمريكي.

كان المتعاونون الذي قدرت أعدادهم بعشرات الآلاف يخشون الانتقام من قوات فيتنام الشمالية (الفيت كونغ)، نجح عدة آلاف منهم في المغادرة مع القوات الأمريكية لكن عددهم كان قليلاً جداً بينما بقيت الأغلبية العظمى لتلقى مصيرها الذي كان القتل أو السجن أو التعذيب، حيث جرى معاملتهم وطنياً كـ"خونة".

وتعتبر عملية "الريح المتكررة" التي خصصت لإجلاء الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين من سايغون واحدة من أكبر عمليات الإجلاء الجوي في العالم، وبينما أعطيت الأولوية للأمريكيين احتشد المتعاونون الفيتناميون الذين أصابتهم حالة هستيرية من الخوف في المطار ومحيط السفارة الأمريكية في محاولة للحصول على مقعد، لكن عقب سحب آخر جندي أمريكي من سطح السفارة اكتشف كثير من المتعاونين أن مشغليهم غادروا وقد تخلوا عنهم بالفعل بلا رجعة.

الجزائر.. "الحركيون"

استعمرت فرنسا الجزائر وعلى غرار أي استعمار او احتلال شكلت فرنسا جيشاً من المتعاونين معها عرفوا باسم "الحركيون" خلال فترة حرب التحرير بين عامي (1954-1962)، وهم المواطنون الجزائريون الذين تعاونوا وعملوا مع الاستعمار الفرنسي بأشكال مختلفة وتقدر أعدادهم بمئات الآلاف، دعموا الاستعمار بطرق مختلفة منها القتال المباشر والتجسس وتولي مهام الإدارة المحلية وغيرها.

عندما اضطرت فرنسا إلى إنهاء استعمارها للجزائر على وقع ضربات المقاومة الشعبية الجزائرية اصطحبت جانباً من المتعاونين، لكن القسم الأكبر منهم تُرك ليلقى مصيره من قبل المقاومة والشعب الجزائري الذي كان يعتبرهم "عملاء وخونة"، وصدرت بحقهم ملاحقات وقرارات ثورية كان أبرزها مصادرة ممتلكاتهم ومنع عودتهم إلى موطنهم الأصلي حيث فر الكثير منهم مع عائلاتهم إلى فرنسا بعد الاستقلال، لكنهم ما زالوا يتهمون فرنسا بـ"الجحود" للخدمات التي قدموها لفرنسا على حساب وطنهم، قبل أن يتركوا لملاقاة مصيرهم وعدم تقديم الدعم الكافي حتى لمن نجح في الوصول إلى فرنسا.

ويعتقد أن عشرات الآلاف من "الحركيين" الذين تركتهم فرنسا لملاقاة مصيرهم قد تعرضوا بالفعل إلى القتل، فيما تعرض اخرون لممارسات مختلفة وسط رفض شعبي لهم، فيما عانى من وصل إلى فرنسا من التهميش والإهمال ووضعوا في مخيمات ومعسكرات قبل أن يحصلوا على بعض الخدمات التدريجية التي ظلت دون المستوى بحسب تقديرهم، وعانوا من الفقر والتهميش.

ولاحقاً بدأ نقاش واسع في فرنسا حول مسؤولية باريس عن مصير القتل الذي واجهه عشرات آلاف "الحركيين"، وعن عقود الإهمال والتهميش والظروف غير الإنسانية التي تعرض لها من عاشوا في فرنسا، وخصص يوم وطني لهم "للاحتفال بتضحياتهم" لكن هذه الخطوات زادت من نظرة الشعب الجزائري لهم "كخونة وعملاء".

أفغانستان.. المصير واحد

شكلت الصورة الواصلة من مطار العاصمة الأفغانية كابل في صباح اليوم التالي لسيطرة طالبان على كابل نموذجاً جديداً لمصير المتعاونين مع القوات الأمريكية.

حيث أطلق جنود أمريكيون النار في الهواء لتفريق مئات الهاربين الأفغانيين الذين يحاولون الحصول على مقعد طائرة تقلهم إلى خارج البلاد، بهدف تيسير إجلاء الموظفين الأمريكيين وما بقي من بعثات دبلوماسية.

وعلى من الرغم أن واشنطن سمحت بنقل جزء من المتعاونين معها على مدار عشرين عاماً من احتلالها لأفغانستان إلى الولايات المتحدة، فإن هناك جزءاً كبيراً لم يحصلوا على هذه الفرصة، وتركوا لمصيرهم أمام حركة طالبان.

TRT عربي