تابعنا
عام كامل شهدت فيه ولايات شرق السودان انفجارات غير معهودة بين مكوناته القبلية الرئيسية في أهم مدن الإقليم، تكررت فيها الوقائع والأحداث بشكل يكاد يكون متطابقاً، فمن المستفيد من إشعال هذه الفتن؟

شهدت منطقة شرق السودان منذ منتصف العام المنصرم تفجر موجات صراع قبلي تنقلت بين مدنها الرئيسية، في جولات عنف حصدت العديد من الأرواح ودمرت منازل ومحال تجارية.

ووفقاً لمصادر فإن هناك سمات مشتركة لهذه الجولات منها ظهور مجموعات مسلحة متفلتة تساهم في تصعيد أحداث عادية إلى مواجهات قبلية دامية، وتراخي الأجهزة الأمنية في القيام بمهامها، وارتفاع النبرة القبلية التحريضية في غياب محاسبة ومتابعة أمنية جادة، وبالتالي تكرر سيناريو المواجهة بشكل يكاد يكون متطابقاً رغم توقيع هُدن عرفية تسمى "القلد" ثبت هشاشتها مراراً، ما يستدعي السؤال عن المستفيد من توتير الأوضاع في شرقي السودان.

من المستفيد؟

وفقاً للباحث السوداني المختص في شؤون شرق السودان محمد جميل فإنه "لا يمكن القول إن هناك صراعات تاريخية بين مكونات شرق السودان وفي مدنه الكبرى"، مضيفاً أن هناك "إرادة لضرب الاستقرار السياسي وقطع الطريق على مسار الثورة في المرحلة الانتقالية".

فلول النظام هم المستفيد الأول من اضطراب الأوضاع وضرب النسيج المجتمعي في السودان.

محمد جميل، باحث سودان مختص في شؤون شرق السودان

وفي إفادته لـTRT عربي يوضح جميل أن فلول النظام هم المستفيد الأول من اضطراب الأوضاع وضرب النسيج المجتمعي، "وبجانبهم هناك الحلفاء الفاسدون الذين تقاسموا معهم السلطة عبر اتفاقيات مثل حزب مؤتمر البجا الذي يقوده موسى محمد أحمد، إلى جانب أصحاب المصالح الرخيصة ممّن تورطوا في ملفات فساد ظل متراكماً على مدى ثلاثين عاماً".

وفي هذا السياق يرى جميل على سبيل المثال أن هناك علاقة بين تفجر الأحداث الأخيرة في مدينة كسلا في مايو/أيار الماضي، ونشاط لجنة إزالة التمكين التي نشطت مؤخراً في كشف فساد رموز للنظام السابق.

وتربط تحليلات مختلفة بين ترتيبات الفترة الانتقالية ومحاولة بعض الزعامات القبلية والسياسية استخدام العنف القبلي للهيمنة على تمثيل المنطقة في هياكل السلطة الجديدة، كمجلس الوزراء والمجلس السيادي وتعيين الولاة وأعضاء المجلس التشريعي.

في حين يتساءل مراقبون عن ارتباط ما يحدث بالمنافسة بين المكونين المدني والعسكري لسلطة ما بعد الثورة، مستشهدين بعديد من الأدلة كالتراخي المريب للقوات النظامية عن حسم هذه الأزمات في بدايتها، وتمدد حضور قوات الدعم السريع في مدن الشرق.

ويتألف إقليم شرق السودان من ثلاث ولايات أهم سكانها قبائل البجة بشقيها من يتحدثون التبداويت كالهدندوة ومن يتحدثون التغرايت كالبني عامر والحباب، بالإضافة إلى قبائل أخرى من النوبة والرشايدة وغيرهم.

طموحات إماراتية

في إطار ما سُمي بالاقتصاد الأزرق وضعت الإمارات العربية المتحدة نصب أعينها إدارة ميناء بورتسودان، وسعت إلى بلوغ هذا الهدف بمحاولات متكررة أهمها عبر شركة فيلبينية مقرها في دبي.

وفي يناير/كانون الثاني 2019 وقعت هيئة الموانئ السودانية على اتفاق مع شركة الخدمات الدولية لمحطات الحاويات (ICTSI) المملوكة لرجل الأعمال الفلبيني إنريكي رازون، لإدارة وتشغيل الميناء الجنوبي للحاويات، أهم وأكبر الموانئ السودانية، لعشرين سنة.

جوبه هذا الاتفاق برفض من قبل العديد من الكيانات العمالية في هيئة الموانئ، كما أطلق عمال الميناء الجنوبي إضراباً عن العمل شل حركة الصادرات الواردات، وأرغم الحكومة على تعليق الاتفاق وإلغائه لاحقاً.

النظام الإريتري أسس بدعم دولي مجموعات مسلحة في شرق السودان ونقل المعركة من جنوب السودان إلى شرقه نهايات القرن المنصرم.

عمر زرآي، باحث في مركز دراسات القرن الإفريقي

ووفقاً لتصريح أدلت به ناشطة رفضت ذكر اسمها لـTRT عربي فإن من أهداف افتعال الاحتراب القبلي في شرق السودان تقويض صمود عمال الموانئ، بإنهاك مجتمعاتهم في صراعات مستمرة، ولا سيما أن جزءاً كبيراً منهم ينتمي إلى قبائل البني عامر التي أصابها قدر عظيم من الضرر في الاشتباكات المتقطعة طوال عام كامل، ولا سيما في مدينة بورتسودان التي وقعت فيها 3 مواجهات قبلية من أصل 6 في كل الإقليم.

مقالات ذات صلة، للمزيد اقرأ:

حكام السودان الجدد.. من هم؟

ولأهميته كان ميناء بورتسودان موضع نزاع بين العديد من القوى الإقليمية، باعتباره منفذاً للعديد من الدول الأفريقية الحبيسة، كما أن السيطرة عليه مرتبطة ببعد جيوسياسي وأمني يتعلق بسلامة الملاحة في البحر الأحمر الحيوي للتجارة الدولية وأمن الخليج العربي مصدر الطاقة الهام.

مخاوف أسمرة

لطالما أولت إريتريا شرقَ السودان أهمية كبيرة للعديد من الاعتبارات المرتبطة باستقرار النظام الحاكم في أسمرة، إذ يتشارك البلدان العديد من القبائل الحدودية الممتدة، التي تعتبرها أسمرة المعادل الديموغرافي والمنافس التاريخي لمجموعة التجرينية الحاضنة البشرية الأساسية لمؤيدي النظام الإريتري.

ووفقاً للدكتور عمر زرآي فإن "الكثير من هذه المجموعات القبلية المشتركة ليست على وفاق مع النظام الإريتري"، مضيفاً في إفادته لـTRT عربي أن الأخير كان مدركاً لهذا وبالتالي كان ينظر إليها نظرة ريبة وخوف.

ويبين الباحث في مركز دراسات القرن الأفريقي "أن النظام الإريتري أسس بدعم دولي مجموعات مسلحة في شرق السودان ونقل المعركة من جنوب السودان إلى شرقه نهايات القرن المنصرم".

وشهد عام 2006 توقيع اتفاقية سلام الشرق بين فصائل مدعومة إريترياً والخرطوم، كفلت لحلفاء أسمرة الوصول إلى أعلى مناصب السلطة في المركز والولايات الشرقية، كما مارست إريتريا نفوذها بعد ذلك عبر واجهات اجتماعية والإدارات الأهلية.

عملت أسمرة من خلال حلفائها على الحد من صعود أبناء قبائل البني عامر والحباب سياسياً، وهو ما تم تقويضه مع ثورة ديسمبر في السودان التي أزاحت القوى التقليدية الحليفة لأسمرة في أعلى هرم السلطة، وأتاحت الفرصة لقوى ثورية طامحة إلى ملء هذا الفراغ.

وفي مواجهة هذه المتغيرات عمد النظام الإريتري إلى استقطاب حلفاء جدد من زعامات قبلية وسياسية محلية كان لها دور في إذكاء الصراع القبلي المفتعل طوال الفترة الماضية، والذي استهدف بشكل رئيسي قبائل البني عامر والحباب في مدن مختلفة في الإقليم.

ويرى مراقبون أن هدف أسمرة هو خلط الأوراق وهندسة توازنات القوى في الإقليم بما يضمن تصعيد حلفائها، وإضعاف القبائل المذكورة بإشغالها في صراعات تهدد وجودها.

جذور الصراع وخريطة الحل

رغم الأهمية البالغة لإقليم شرق السودان فقد ظل يعاني من التهميش والإهمال بكل ما يتضمنه من غياب التنمية وضعف الخدمات والفرص الاقتصادية والجهل وحضور الروح القبلية.

ويرى محمد أحمد ناضلا أنه ليس هناك من جذر حقيقي مباشر للصراع بين قبائل شرق السودان، وليس بينها تقاطعات مصالح أو صراع على موارد وأرض وثروات.

ويضيف في إفادته لـTRT عربي أن "الصراع يستند الي التحريض العنصري ضد البني عامر والحباب من خلال التشكيك في مواطنتهم بحكم أن وجودهم ينقسم بين دولتي إرتريا والسودان"، مبيناً أن هناك ترويجاً لأقاويل تفتقد إلى الأدلة أن القبائل المذكورة كانت مستفيدة اقتصادياً من نظام البشير الإسلامي.

الصراع يستند الي التحريض العنصري ضد البني عامر والحباب من خلال التشكيك في مواطنتهم بحكم أن وجودهم ينقسم بين دولتي إرتريا والسودان.

محمد أحمد ناضلا، مدير الشبكة الوطنية للعدالة الاجتماعية

ووفقاً لناضلا مدير الشبكة الوطنية للعدالة الاجتماعية فإن تحسن الوضع الاقتصادي لأبناء تلك القبائل "يستغله أصحاب تحيزات سياسية يستخدمون مفاهيم عنصرية للتحريض، واستجلاب مرتزقة وعصابات متفلتة (النيقرز)، بدوافع حقد اجتماعي طبقي يشرعن لهم النهب والسلب".

وقد كان ارتفاع نبرة الخطاب الهوياتي، ولا سيما ضد قبائل الحباب والبني عامر، من أبرز ملامح الصراعات الأخيرة في شرق السودان، و تناول فائز السليك المستشار الإعلامي لوزير الإعلام السوداني هذا الخطاب في مقال له موضحاً أن "النوبة قبيلة سودانية أصيلة..والبني عامر هي مجموعة لها ارتباطاتها في السودان وإريتريا، مثلها مثل مجموعات أخرى في شرق السودان"، و"أن الطعن في انتمائهم عنصرية".

ويرى ناضلا في إفادته أن ما هيأ الأجواء لهذه الأحداث هو مرور البلاد في المرحلة الانتقالية وما تعانيه من سيولة أمنية والصراع بين المكونين العسكري والمدني للسلطة، بالإضافة إلى نأي نخب قوى الحرية والتغيير عن المشاركة الفاعلة في إطفاء ثائرة هذه الصراعات.

وبحسب مدير الشبكة الوطنية للعدالة الاجتماعية فإن مفتاح الحل بيد الحكومة، "وهو التعامل بمسؤولية مع هذه الملفات الخطرة، واعتقال مرتكبي الجرائم والمحرضين عليها وتقديمهم للمحاكمة وفرض هيبة القانون، وإعادة هيكلة القوات النظامية بحيث تمثل فيها جميع المكونات المحلية".

مبيناً أن هذه هي الدعامة الأساسية التي تُبنى عليها المعالجات المرتبطة بإرساء مفاهيم التعايش السلمي وتقاسم السلطة والتنمية وترسيخ خطاب المواطنة في البلاد.

وفي ظل التعايش والجيرة الطيبة تاريخياً بين المكونات القبلية لشرق السودان فإن المحركين للصراعات الأخيرة يغامرون بأرواح البسطاء الذين لا ينالهم إلا القتل والتدمير، كما أنهم يغامرون بمستقبل السودان، فشياطين الاحتراب عندما تطل برؤوسها لا تخلف إلا الخراب والأمثلة في دارفور وغيرها حاضرة.

رغم الأهمية البالغة لإقليم شرق السودان فقد ظل يعاني من التهميش والإهمال بكل ما يتضمنه من غياب التنمية وضعف الخدمات (AFP)
TRT عربي