الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ونظيره الصيني شي جين بينغ (AP)
تابعنا

تصعّد الإدارة الأمريكية خطابها ضد الصين، على خلفية اتهامها بالتستر على منشأ فيروس كورونا ومستوى التهديد الذي يشكله. وتحمِّلُها مسؤولية تأخر التجاوب العالمي في مواجهة الوباء. ويبدو أن هذا السلوك سيشكل مساراً طويلا ومتصاعداً بين البلدين، إذ صرّح الرئيس الأمريكي بأن الفيروس نشأ في مختبر في الصين، وأمر إدارته بفتح تحقيق في مصدره،وطالب الصين بالسماح لمحققين أمريكيين بالعمل على أراضيها، ودعا إلى تحقيق دولي بهذا الشأن، وهو ما أيدته فرنسا وأستراليا التي تنشط في الدعوة لإجراء "مراجعة مستقلة" للظروف التي أدت إلى بدء الوباء، وهو ما ينذر بأزمة طويلة المدى على نطاق دولي. وتحصل الولايات المتحدة في مسعاها هذا على دعم غربي بالإجمال، وإن كان بعض الدول الأوروبية غير متشجع لهذا المسار كدول شرق أوروبا.

في المقابل تبذل الصين جهوداً حثيثة في مجال الدعاية والعلاقات الدولية لتبرئة نفسها من الاتهامات الأمريكية والغربية، وتمارس ضغوطا على دول أوروبية لتخفيف لهجة النقد الموجه إليها من قبل الاتحاد الأوروبي. بما يشي بقلقها من مآل هذه الاتهامات.

والسؤال الذي تثيره هذه التطورات: هل يبرّر "التقصير الصيني" أو عدم الشفافية بخصوص تأثيرات فيروس كورونا وعدد ضحاياه، مستوى التصعيد الأمريكي، أم إن لذلك أسباباً جيوسياسية ترتبط بالتنافس على تشكيل النظام الدولي؟

ترى الولايات المتحدة في الصعود الاقتصادي والسياسي الصيني تهديداً لمكانتها الدولية، ومن المعلوم أن النظام الدولي يشهد تراجعاً مطّرداً في مستوى الأحادية القطبية، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال القوّة الكبرى في العالم، فإن هيمنتها على العالم في تراجع مستمر منذ ما لا يقل عن عقد ونصف. وأمارة ذلك أن قدرتها على فرض خياراتها عالميا تراجعت كثيراً، وهي تتجه نحو المزيد من التراجع على ما يرى الكثير من خبراء العلاقات الدولية، ومن أبرزهم عالم السياسة الأمريكي المعروف ستيفن والت.

وتشكل الصين التهديد الأساسي لهيمنة الولايات المتحدة العالمية، فقد شهد العقدان الماضيان تصاعداً متصلاً للقوة الاقتصادية الصينية، وترافق ذلك مع زيادة وزنها السياسي على المستوى الدولي، فيما يتزايد تناقض مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة، بفعل توجهها لاستعادة دورها كقوة عالمية عظمى.

وكانت النقطة الفارقة بهذا الشأن تدشين الصين في العام 2013 استراتيجية لتوظيف صعودها الاقتصادي في تعزيز قوتها السياسية والعسكرية والاستراتيجية، وكان التعبير الأبرز لهذه الاستراتيجية مشروع "الطريق والحزام"، الذي يشمل استثمار مئات مليارات الدولارات في خطوة تهدف إلى بناء شراكات وتحالفات سياسية قائمة على مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة على طول "طريق الحرير" التاريخي الممتد من الصين حتى أوروبا، وذلك على مساريه البر والبحر.

وكان العديد من الدراسات -على رأسها مقالة فخ ثوسيديدس لغراهام آليسون- توقعت تصاعد الصراع الأمريكي-الصيني حينما يقترب منحنى الصعود الاستراتيجي الصيني من منحنى الهبوط والتراجع الأمريكي، إذ ستزداد الدافعية الأمريكية لتوظيف تفوقها العسكري لإعاقة الصعود الصيني.

ومع انتشار الوباء، واتضاح تجاوز الصين ذروته مبكراً، مقابل التوقعات بضخامة الأضرار الاقتصادية والسياسية التي ستتكبدها الولايات المتحدة وحلفاؤها، فمن المتوقع أن تتزايد المخاوف الأمريكية من الصعود الصيني، كما أن السلوك الصيني المتهم بالافتقار إلى الشفافية في التعامل مع نشأة الفيروس وفّر فرصة سانحة لتدشين حملة سياسية وربما اقتصادية ضدها. إلا أن الصين نفت إخفاء أي معلومات من هذا النوع، وقالت إن مراجعة حصيلة الوفيات الناجمة عن الفيروس في معقلها مدينة ووهان جاءت نتيجة للتحقق من الإحصاءات وتعد ممارسة دولية شائعة.

كما أن لتصعيد الإدارة الأمريكية دافعاً محتملاً آخر -أشار إليه مقال الكاتب باتريك كوكبيرن في الإندبندنت أونلاين- هو صرف الانتباه عن بطئها في التجاوب مع الوباء، وحشد الشعب الأمريكي خلف رئيسه بذريعة مواجهة تهديد خارجي، خصوصاً مع مخاوف ترمب من تأثير الأزمة على حظوظه للفوز بولاية رئاسية ثانية.

إلا أن قدرته على تحقيق ذلك أمر مشكوك فيه، إذ إن الاتهامات تتركز على حدث في الماضي لا في المستقبل. وفي هذا السياق يمكن فهم تصريح وزير الخارجية الأمريكي بأن الصين "ما زالت تشكل تهديداً للعالم بإخفائها معلومات عن مصدر الفيروس مما تسبب في انتقاله إلى دول أخرى".

وهنا تجدر الإشارة إلى التضارب بين المؤسسات الأمريكية في التعاطي مع هذا الملف، ففي حين يصر البيت الأبيض على اتهام الصين بأن الفيروس ذو منشأ مختبري، صدر عن الاستخبارات الأمريكية تقارير لا تتفق معه، إذ أصدر مكتب الاستخبارات القومي بأمريكا بيانا أكّد فيه أنه "لا تقييم حول ذلك" مع الاستمرار في تفحص إن كانت الجائحة "بدأت عبر تواصل مع حيوان يحمل الفيروس أو إنه ناجم عن حادثة داخل مختبر في ووهان".


وفي المقابل تحرص الصين على حرمان ترمب مما يريده، لذلك فهي تتجنب مجاراته في التصعيد الإعلامي، وتركز الخطاب على القصور في أداء الإدارة الأمريكية في التعامل مع الوباء، بالتوازي مع دبلوماسية نشطة في الكواليس لتحييد أكبر قدر من الدول واستصدار المواقف الدولية التي تشيد بالأداء الصيني في مكافحة الوباء على المستوى العالمي، وتوظّف معوناتها للدول الأكثر تضرراً، وصادراتها من الأجهزة والمعدات الطبية في هذا السياق .

ومن المتوقع أن يستمر الخلاف بين الطرفين في الأشهر القادمة، أولاً بفعل حاجة ترمب إلى توظيف هذا "التسخين" في العلاقة مع الصين قبل الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وثانياً بفعل مقاومة الصين -مدعومةً بروسيا- أي مساعٍ لإدانتها دولياً، أو للمساس بسيادتها من خلال تحقيق دولي على أراضيها، إذ إنها تتخوف من أن يصبح تحقيق كهذا أداة سياسية لابتزازها سياسياً واقتصادياً، وهو ما اشتكت منه دول أخرى سابقاً، كإيران، والعراق في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين.

إلا أن البعد الأكثر أهمية هو مدى تبلور سياسة أمريكية لتوظيف الوباء في إعاقة صعود الصين وتأثيرها في النظام الدولي، إذ إن حضور سياسة كهذه يعني مزيداً من الصراع والاضطراب في النظام الدولي، وحضور خطر الاشتباك الجزئي أو غير المباشر بين الدولتين أو حلفائهما، وهو ما سيكون تطوراً غير سارٍّ للبشرية، خصوصاً في الزمن الذي تكافح فيه لمواجهة الوباء وآثاره.

TRT عربي