تابعنا
أسفرت الإجراءات القضائية الشاملة التي جرى تنفيذها في السنوات الأربع الماضية عن لوائح اتهام تجاوز عدد صفحاتها عشرات الآلاف، إضافة إلى محاضر الجلسات، وأحكام قضائية، وتضمنت ملفات الدعاوي كلاً من شهادات الشهود والدفاع وأدلة واضحة قائمة على حقائق علمية.

كانت محاولة الانقلاب في 15 يوليو/تموز 2016 من بين الأزمات الأكثر شُؤماً في تاريخ الجمهورية التركية، حين حاول حفنة عسكريين مندسين داخل الجيش التركي وبتعليمات من منظمة كولن الإرهابية إزاحة الحكومة المنتخبة ورئيس البلاد وحل البرلمان.

وبينما كانت أحداث الانقلاب مستمرة، بدأت أولى التحقيقات لكشف الملابسات من طرف قضاة ومدعين بالنيابة اختاروا الوقوف إلى جانب الديمقراطية في وجه الانقلاب.

ولا شك أن بدء الانقلاب في حدود الساعة الثامنة والنصف بالتوقيت المحلي ساهم بشكل ملحوظ في إفشاله والسيطرة عليه، فمنظمة كولن الإرهابية كانت حددت الساعة الثالثة بعد منتصف ليل 16 يوليو/تموز في خطتها الأولية كموعد لبدء الانقلاب.

غير أن وصول بلاغ إلى جهاز الاستخبارات التركي بخصوص أحد الأنشطة التي سيتم تنفيذها خلال الانقلاب قبل ذلك بساعات، تسبب في انتشار الذعر بين الانقلابيين وخشوا أن تُكتشف خطتهم، فقرروا تبكير مرحلة التنفيذ، ليشرعوا في أولى تحركاتهم في حدود الساعة الثامنة والنصف من مساء 15 يوليو/تموز.

تمت مقاومة المحاولة الانقلابية بشكل ملحمي وجرى السيطرة عليها، وفي الشهور التالية تم توسيع رقعة التحقيقات وتعميقها، وبدأ إطلاق الدعاوي أمام القضاء واحدة تلو الأخرى.

وأسفرت الإجراءات القضائية الشاملة التي جرى تنفيذها في السنوات الأربع الماضية عن لوائح اتهام تجاوز عدد صفحاتها عشرات الآلاف، إضافة إلى محاضر الجلسات، وأحكام قضائية.

وتضمنت ملفات الدعاوي كلاً من شهادات الشهود والدفاع وأدلة واضحة قائمة على حقائق علمية. وتحليل هذه الملفات الضخمة يزيح الستار عن غرف مظلمة عديدة بخصوص منظمة كولن الإرهابية والمحاولة الانقلابية.

للمزيد حول الموضوع يمكنك قراءة أيضا:
تركيا.. كيف ساهم وعي المجتمع في إفشال الانقلابيين؟

وفي ضوء ما سبق سنحاول في هذه المقالة تحليل محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز، إلى جانب الفترة التي سبقتها والأخرى التي تلتها، مستندين في ذلك إلى المصادر الموضوعية التي قدمها القضاء لنا.

في البداية ينبغي الإشارة إلى أن محاولة الانقلاب العسكري لم تكن حدثاً تشهده تركيا لأول مرة، فالوصاية العسكرية على الحياة السياسية ظلت في مقدمة العوامل التي تُضعف الديمقراطية التركية، رُغم التراجع الذي أصابها بفضل إصلاحات ديمقراطية أجراها حزب العدالة والتنمية عبر حكوماته المتتالية منذ صعوده إلى سدة الحكم عام 2002.

فالجيش التركي تدخل في الحياة السياسية المدنية 4 مرات في أعوام 1960، و1971، و1980، و1997، ونجح في فرض إرادته، وهذا الأمر يعني أن تركيا كانت تعاني من أزمة هيكلية وفق مفهوم دولة القانون الديمقراطية، لذا فلن نكون مخطئين إذا قلنا إن منظمة كولن الإرهابية شيدت محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز على تلك البنية غير الديمقراطية التي كانت تسمم العلاقات المدنية العسكرية في تركيا.

بيد أن محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز تختلف إلى حد كبير عن الانقلابات السابقة التي شهدتها تركيا، ولعل الاختلاف الأكثر مأساوية هو تخطيط انقلاب 15 يوليو/تموز من طرف مسؤولين مدنيين بمنظمة إرهابية مقرها خارج البلاد. فإنه لأمر مفزع وجود آلاف الضباط والقيادات بالجيش التركي مرتبطين بمسؤولي منظمة كولن الإرهابية، يسعون إلى السيطرة على حكم البلاد عبر انقلاب يعد تهديداً وجودياً للدولة التركية.

الهيكلة المعقدة لمنظمة كولن الإرهابية داخل الجيش التركي

لا شك أن الهيكل التنظيمي المعقد لمنظمة كولن الإرهابية هو السبب الحقيقي وراء التحليلات الخاطئة والناقصة حول ما جرى في 15يوليو/تموز وخصوصاً في الرأي العام الغربي، التي كانت نتيجة الدعاية السوداء المقنّعة التي نفذها الانقلابيون.

لذا من الضروري فحص الهيكل التنظيمي لهذه المنظمة الإرهابية من أجل فهم حقيقة ما جرى في المحاولة الانقلابية والجهات التي وقفت وراءها.

تمتد هيكلة المنظمة الإرهابية داخل القوات المسلحة التركية إلى نحو 40 عاماً، قامت فيها بتثبيت عناصر عسكرية في مواقعهم داخل الجيش وإخفاء ذلك بدقة متناهية، إلى جانب أفراد مدنيين مسؤولين عن أولئك العسكريين. ما يعني أن عناصر المنظمة الإرهابية داخل الجيش هم جناح المنظمة العسكري المسلح.

يُطلق اسم "طالب" على كل العسكريين، بغض النظر عن رتبهم، الموجودين داخل هذه الهيكلة التي تُعرف داخل المنظمة الإرهابية باسم "الوحدة المَحْرَمة (السرية)".

وكما حدث في 15 يوليو/تموز، تُتخذ القرارات الاستراتيجية من طرف المسؤولين المدنيين وفق التسلسل الهرمي داخل المنظمة، في حين يتولى العسكريون المهام التنفيذية.

وبإمكان العسكريين التدخل في القرارات التكتيكية على أقصى تقدير، فمثلاً نجد أن جنرالاً عضواً بالمنظمة قد يتلقى تعليمات من معلم خريج المدرسة الثانوية، وهذه التعليمات قد تكون أحياناً في صورة التجسس على اتصالات قائد الأركان وتسجيلها، وقد تكون في أحيان أخرى في صورة تنظيم هجوم يستهدف رئيس الجمهورية.

من المهم الإشارة إلى أن عضو المنظمة يفقد قدرته على التساؤل والتفكير منذ اللحظة الأولى لدخوله خلايا المنظمة في سن مبكرة، والمهمة الأساسية بالنسبة إليه تتمثل في تنفيذ الأوامر مهما كان محتواها.

ويعد هذا الخصوص أمراً مهماً يميز منظمة كولن الإرهابية عن بقية التنظيمات الإرهابية الأخرى، فكما هو معروف في التنظيمات الإرهابية يأتي قائد التنظيم ورجاله البارزون من الجناح المسلح، على عكس ما يحدث في منظمة كولن الإرهابية.

وهنا يظهر سؤال مهم: حسناً كيف كانت تحركات هؤلاء العسكريين في 15 يوليو/تموز وهم عناصر غير قادرة ولا مؤهلة للتحرك واتخاذ قرارات منفردة؟ وللوصول إلى إجابة هذا السؤال علينا البحث في العلاقة بين المدنيين والعسكريين داخل المنظمة الإرهابية.

يرتبط كل عضو عسكري في منظمة كولن بأفراد مدنيين يطلق على كل واحد منهم "إمام محْرَم (سري)". وفي اعترافات عقيد سابق وأعضاء مدنيين بالمنظمة نرى أن هذه العلاقة جوهرية وأساسية في التواصل داخل المنظمة الإرهابية.

ويظل العضو العسكري في حالة خمول تُعرف بـ"خلية نائمة" ما دامت تعليمات الإمام السري لم تأتِ، ويصبح "فعالاً" من جديد في حال تواصله مع المسؤول عنه وحصوله على أوامر.

وهذه كانت الآلية التي اتبعتها منظمة كولن الإرهابية في محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز. وتخبرنا الجهات القضائية أنه وفق الأدلة التي تم الحصول عليها، تلقى المدعو عادل أوكسوز، وهو القيادي المسؤول عن الجيش التركي، تعليمات من زعيم المنظمة الإرهابية فتح الله كولن بإيقاظ تلك الخلايا النائمة داخل القوات المسلحة وتفعيلها.

فقد بدأ التخطيط للانقلاب اعتباراً من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وعُقدت اجتماعات شارك فيها أعضاء كبار مدنيون وعسكريون لبحث سبل تنفيذ الانقلاب. ومن المهم توضيح أن "الأئمة السريين" المدنيين بحثوا مع "طلابهم" العسكريين في هذه الاجتماعات المسائل التكتيكية فقط.

واستمر هذا التسلسل الهرمي داخل المنظمة الإرهابية خلال أحداث الانقلاب، حيث تم القبض على 5 أعضاء مدنيين بينهم عادل أوكسوز في قاعدة أكينجي الجوية وجوارها التي اختارتها المنظمة الإرهابية لتكون مقر قيادة عمليات الانقلاب.

وأوضحت النيابة العامة أن المنظمة الإرهابية أرسلت هؤلاء الخمسة إلى قاعدة أكينجي وكلفتهم بإدارة الانقلاب وتنسيق العمليات، وظلوا هناك طوال الليل يديرون المحاولة الانقلابية. كما تعد تسجيلات كاميرات المراقبة التي ظهر فيها كمال باتماز، أحد "الأئمة السريين" الكبار، وهو في أروقة قاعدة أكينجي خلال الانقلاب، من أهم الأدلة التي تدعم نتائج تحقيقات النيابة العامة.

الوضع الراهن للمحاكمات

عقب إفشال الانقلاب والسيطرة عليه، بدأت مرحلة تطهير القوات المسلحة التركية من عناصر منظمة كولن الإرهابية وهي متواصلة حتى اليوم.

وتم إبعاد نحو نصف القادة الذين يشكلون كادر الجنرالات والأدميرالات بالجيش، إضافة إلى نحو 20 ألف عسكري عضو بالمنظمة.

وعلى الصعيد القضائي، تم فتح 289 دعوى أمام المحاكم بخصوص المحاولة الانقلابية. ويبرز من بين هذه الدعاوي دعويان رئيسيتان، من شأنهما أن تزيحا الستار عن كل تفاصيل الانقلاب بصفة عامة.

الأولى هي دعوى قاعدة أكينجي وتتعلق بما جرى في القاعدة والأئمة السريين المدنيين، والثانية هي دعوى قيادة الأركان التي يحاكم فيها كبار الضباط.

وحتى اليوم تم إصدار أحكام في 95 بالمئة من الدعاوى، وانتهت مرحلة المحاكم المحلية. والأهم من ذلك أنه تم تنفيذ الإجراءات القضائية دون التخلي عن ضوابط المحاكمة العادلة رغم الأساليب السرية المعقدة للمنظمة، واستفزازات بعض المتهمين.

ويُحسب للقضاء التركي نجاحه في إتمام هذا العدد الضخم من الدعاوي التي تضم آلاف المتهمين في فترة قصيرة، وفق ضوابط محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، مع مراعاة حقوق الدفاع.

ورغم ظروف تلك الفترة الاستثنائية حملت المحاكم التركية على كاهلها مهمة الكشف عن ملابسات المحاولة الانقلابية، وإصدار أحكام على أعضاء المنظمة الإرهابية استناداً إلى أدلة قوية.

كما حرصت بشكل خاص على التمييز بين المتهمين والأبرياء، وأصدرت أحكاماً بتبرئة كل من ثبت عدم وجود علاقة له بالأحداث.

ودخلت المنظمة الإرهابية في أزمة شرعية حادة مع الحكم بمسؤوليتها عن المحاولة الانقلابية التي استشهد فيها 251 إنساناً بريئاً. وعند الحديث عن الوضع الراهن يمكننا الإشارة إلى أمرين مهمين، الأول هو حفاظ تركيا على المعايير القانونية العالية التي وصلت إليها في الدعاوى المتعلقة بالمحاولة الانقلابية، وثانيهما نقل كفاحها لمنظمة كولن الإرهابية إلى مستوى مؤسساتي. فهذان الأمران هما أهم ضمان لتركيا في كفاحها سواء ضد منظمة كولن الإرهابية أو ضد بؤر الوصاية المشابهة.

TRT عربي