تابعنا
مثلما باغت الحراك الشعبي النظام في الجزائر، أربك أيضاً حسابات فرنسا التي هُرعت إلى إنقاذ بقايا نفوذها التقليدي بعد أن استشعرت خطر الهبَّة الشعبية على مصالحها.

كأنّ التاريخ يعيد نفسه اليوم ويضع فرنسا في مواجهة قدرها المحتوم تُصارع لأجل إنقاذ آخر بقايا نفوذها التقليدي في الجزائر بعد أن بات الحراك الشعبي يهدّد مصالحها الحيوية في مستعمرتها القديمة.

فهل بقِيَت مكتوفة الأيدي، أم سعت لإفشال الحراك وحَرفِه عن غاياته الكبرى؟

كان أول تمظهرات التدخُّل الفرنسي في بداية الحراك حينما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى "فترة انتقالية لمدة معقولة"، إلى جانب إظهاره الدعم والتأييد لمواقف الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، قبل أن يعلن استقالته في 2 أبريل/نيسان.

لكن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان سارع لاحقاً إلى استدراك الموقف قائلاً إن بلاده تتابع من كثبٍ الاحتجاجاتِ المناهضةَ للحكومة في الجزائر، وهي مستعمرة فرنسية سابقة، لكن الأمر يرجع إلى الجزائريين في تحديد مستقبلهم.

وأضاف "علينا أن ندَعَ العملية الانتخابية تتقدم، وفرنسا تتابع الأمر باهتمام، نظراً إلى الروابط التاريخية بيننا".

في هذا الإطار يكشف المحلل الأمني العقيد المتقاعد العربي شريف لـTRT عربي أن أهمية الجزائر لفرنسا يعكسها حجم خلايا الأزمة التي وُضعت بداية من وزارة الخارجية ثم وزارة الدفاع فالرئاسة بعد استقالة بوتفليقة، مؤكّداً أن "خروج الجزائر من العباءة الفرنسية سيفتح الباب أمام باقي مستعمراتها السابقة بإفريقيا".

يُعتقد على نطاق واسع أن نجاح الحراك قد يُرغِم فرنسا على إعادة صياغة شكل علاقتها بالجزائر، وقد ينجر عن ذلك نتائج وخيمة على صعيد الاقتصاد والثقافة، وسوف يحدّد مستقبل النفوذ الفرنسي في الجزائر.

ورفع الحراك الشعبي منذ بداياته الأولى شعارات ترفض تدخُّل فرنسا في الشأن الجزائري، مثل "ماكانش الخامسة يا أولاد فرنسا" أو " و"لا تفرح يا ماكرون الجزائريون صامدون"، ناهيك بالردود الرافضة لأيّ تدخُّل فرنسي في الحراك.

ويعتقد المحلل السياسي إدريس ربوح في تصريح لـTRT عربي أن "الحراك الشعبي يستهدف فرنسا بالتحديد، إلى جانب تميز الجيش الجزائري الحالي بأن قيادته أبعد ما تكون عن فرنسا، في ظل توجهاته نحو العالم العربي والإسلامي"، مستدركاً بقوله "لا نمدح قائد الجيش، لكن هذه هي الحقيقة، والرجل مُعادٍ للتوجهات والمصالح الفرنسية".

مؤامرة

وندّد قائد الأركان صراحةً في خطبه بالتدخلات التي تحاول أن تفرضها دولة أجنبية على مسار الحل المرتقَب تحقيقه في الجزائر خلال مرحلة ما بعد الحراك.

واتهم قائد أركان الجيش خلال أحد خطاباته أطرافاً أجنبية بمحاولة ضرب استقرار البلاد، ملمحاً إلى فرنسا دون أن يذكرها بالاسم.

وقال "مع استمرار المسيرات سجّلنا للأسف ظهور محاولات لبعض الأطراف الأجنبية، انطلاقاً من خلفياتها التاريخية مع بلادنا، لدفع بعض الأشخاص إلى واجهة المشهد الحالي".

وفي 30 مارس/آذار المنصرم تَحدَّث قائد أركان الجيش القايد صالح عن اجتماع سرّي عقده أشخاص معروفون، وعن مؤامرة تقودها أطراف سيئة النية، تعمل على إعداد مخطَّط يهدف إلى ضرب صدقية الجيش، والالتفاف على المطالب المشروعة للشعب.

وقدّمَت وسائل إعلام جزائرية قائمة بأسماء الشخصيات المجتمِعة، وعلى رأسها سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق، ورئيس جهاز الاستخبارات السابق الجنرال المتقاعد محمد مدين، ورئيس الجمهورية الأسبق اليامين زروال، والجنرال بشير طرطاق رئيس جهاز الاستخبارات، إضافةً إلى عناصر من المخابرات الفرنسية.

واعتبر أن ما حدث يندرج ضمن سقوط اللوبي الفرنسي بسقوط بوتفليقة والقوى غير الدستورية التي توصف بـ"يد فرنسا الضاربة في الجزائر".

حسب المحلل السياسي عبد الكريم تفرقينت في تصريح لـTRT عربي، فإن مسعى قيادة أركان الجيش لا يحقّق "رغبة الأخطبوط الفرنسي في الجزائر".

ويعتقد تفرقينت أن "فرنسا باتت تشعر بأن كثيراً من الشخصيات التي كانت تعوِّل عليها قد بدأت في السقوط".

وتعرضت شخصيات سياسية للإبعاد عن الحكم، في حين اقتيدت وجوه بارزة من عالم المال والأعمال إلى المحاكم ثم لاحقاً إلى السجون، وهذا المشهد يزعج فرنسا ويقلّل تأثير نفوذها الخفيّ في دوائر القرار الجزائري، بل قد يقضي عليه حسب تفرقينت.

أدوات أخرى

وجَّهَت فرنسا سهامها نحو قائد أركان الجيش الجزائري بشكل لافت خلال الأيام الأخيرة، بعد ما كانت تنتقده ضمن سياق الأحداث الحاصلة في البلاد.

غير أن تصاعد اهتمام وسائل الإعلام الفرنسية بانتقاد قايد صالح منذ اتهام جهات أجنبية بمحاولة زعزعة استقرار الجزائر بتحريك الشارع وتوجيه الحراك الشعبي نحو الفوضى، واستمراره في تحذير الجنرال توفيق رئيس جهاز الاستخبارات، يكشف عن تَحوُّل مرتقَب لفرنسا في التعاطي "الحَذِر" مع الأزمة الجزائرية، بما يهدِّد البلدين بمواجهة دبلوماسية قد تعصف بعلاقاتهما.

وركزت وسائل إعلام فرنسية على لافتات وشعارات تستهدف قائد أركان الجيش الجزائري قايد صالح، رفعها المتظاهرون خلال الجمعة العاشرة، كـ"قايد صالح ارحل"، مثل ما جاء في تقرير لصحيفة "لاتريبيون" الفرنسية، في حين اتجهت أخرى إلى نشر أخبار تشكِّك في صلابة المؤسسة العسكرية وتماسكها، وتروّج لانشقاقات تهدّد قائد الأركان.

يُخفِي الحراك الشعبي صراعاً هوياتيّاً بين مكونات الحراك المختلفة، وإن ظلّ الهدف المشترك لملايين الجزائريين الذين يملؤون الشوارع في معركتهم الموحَّدة من أجل إسقاط منظومة الحكم الفاسد.

وقد تَكشَّفَت أوجُه هذا الصراع جليّاً في نوعية الرايات والشعارات المرفوعة، كما انعكست بشدة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تجري حروب طاحنة بين مكونات الشعب الجزائري.

وفي هذا الصدد يُعتقد أن فرنسا نفّذت "الحركة من أجل تقرير مصير القبائل" الانفصالية، المعروفة اختصاراً بـ"الماك"، لإيجاد نافذة للتدخل في شؤون الجزائر الداخلية.

العربي شريف أشار إلى أن فرنسا سعت لإدخال الحراك في متاهات من خلال تشجيع المطالب الفئوية واستخدام ورقة "الماك" من أجل تغيير مسار الحراك.

لكن البعض يرى أن الخرجة تندرج في إطار إلهاء الحراك عن مطالبه الحقيقية لا غير.

تعمل فرنسا لأجل المحافظة على نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في الجزائر باعتبارها أكبر وأهمّ مستعمراتها القديمة، وقد سعت منذ الاستقلال إلى إيجاد نخبة مؤدلجة تلتزم الولاء لها وتحظى بامتيازاتها الخاصة.

وليس خفيّاً نوعية العلاقات الجزائرية الفرنسية، بخاصة مع الرئيس السابق بوتفليقة، والامتيازات الكبيرة التي منحها للشركات والبنوك الفرنسية خصوصاً بعد مرضه كعربون لقبول ترشُّحه.

وبما أن مصالحها أضحت مهدَّدة بالانحسار، فإن تدخُّلها وإن لم يَبدُ علنيّاً فهو متعدِّد الأوجه والاتجاهات، فهي تحرِّك أذرعها المالية والحزبية والآيديولوجية لتنوب عنها في إدارة الصراع وتنفيذ مخططاتها.

يُعتقد على نطاق واسع أن نجاح الحراك قد يُرغِم فرنسا على إعادة صياغة شكل علاقتها بالجزائر، وقد ينجر عن ذلك نتائج وخيمة على صعيد الاقتصاد والثقافة (Reuters)
كان أول تمظهرات التدخُّل الفرنسي في بداية الحراك حينما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى "فترة انتقالية لمدة معقولة" (AP)
TRT عربي