تابعنا
يواجه بوتفليقة معارضةً قوية تتمثل في المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشارع بأعدادٍ متزايدة، وهم قد لا يملكون بالضرورة تقرير مصير بلدهم، لأنّ مستقبل البلاد قد يحدّده الجيش الوطني الجزائري مرّةً أخرى، في تكرارٍ أسود للتاريخ.

في الثاني والعشرين من فبراير الماضي، لجأ الشعب الجزائري إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها نزل إلى الشوارع للتعبير عن نضال أجيالٍ عانت من تبعات الفساد والحُكم الاستبدادي.

وجاءت هذه المظاهرات في أعقاب إعلان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ترشُّحه لفترة رئاسية خامسة، وهو ما اعتبره الكثيرون اعتداءً على كرامة الشعب، خاصّةً وأنّ بوتفليقة نادراً ما شوهدَ منذ تعرّضه لسكتةٍ دماغية عام 2013، وهو الآن حبيس كرسيه المتحرّك.

مرضُ الرئيس الجزائري البالغ من العمر اثنين وثمانين عاماً، لم يمنعه من إجراء تغييراتٍ جديدة على مستوى قيادات أجهزة الاستخبارات والقوات المسلّحة، وذلك خوفاً من حدوث أي انقلابٍ عليه، مع العلم أنّ هذه الأجهزة تملك قوةً مطلقة، وتُعتبر دولةً عميقة وقادرةً على منافسة حتى سلطة الرئيس نفسه.

وإذا كان بوتفليقة يواجه معارضةً قوية من المرشحين السياسيين المنافسين له، فإنّ هناك اليوم معارضةً أقوى من ذلك، تتمثل في المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشارع بأعدادٍ متزايدة، بالرغم من أنّهم قد لا يملكون بالضرورة قراراً في مستقبل بلدهم، لأنّ مستقبل البلاد قد يحدّده الجيش الوطني الجزائري مرّةً أخرى، في تكرارٍ أسود للتاريخ.

اللعبة العظمى

ليست المظاهرات شيئاً غريباً عن بلدٍ كالجزائر. ففي سنة 2014 اجتاحت الاحتجاجات الجماهيرية البلد بسبب ترشّح بوتفليقة لولايةٍ رابعة، وهي التي فاز بها بأكثر من 80 في المائة من الأصوات.

بالإضافة إلى ذلك، استطاع بوتفليقة النّجاة من الانتفاضات العربية الشعبية التي عصفت بالدول المجاورة للجزائر عام 2011.

يرجعُ ذلك بشكل رئيسي إلى تلك الذكريات الحية للعشرية السوداء، وهي أحداث الحرب الأهلية الوحشية التي شهدت انقلاباً على الجبهة الإسلامية للإنقاذ. هذه الأخيرة كانت قد فازت في أول انتخابات متعدّدة الأحزاب جرت في الجزائر عام 1991.

غير أنّ الأشخاص الذين ولدوا في بداية الحرب الأهلية، وصاروا الآن في العشرينيات من العمر، ليست لديهم سوى ذكريات وقصص ضعيفة عن تلك الفترة، وعن الرواية الرسمية المتوارثة عبر الأجيال حول ذلك القتال الشرس الذي خلّف200 ألف قتيل، وأعداداً لا تُحصى من المفقودين.

التطهير

تتزايد التكهّنات حول موقف الجيش الجزائري من الاحتجاجات، إلا أنّ هناك أمراً مؤكداً، هو أنّ الجيش الحالي ليس هو نفسه جيش العشرية السوداء. ففي أواخر أغسطس من عام 2018، أقيلَ أربعة من قادة النواحي العسكرية الجزائرية الست. وهي خطوةٌ جاءت بعد إقالة قائد الأمن العسكري، وخمسة من قادة النواحي الست في قوات الدرك، وبعدَ الإطاحة بأهمّ القادة العسكريين والأمنيين في البلد.

قبل ذلك بسنتين فقط، كان بوتفليقة قد أمر بإلقاء القبض على الجنرال محمد مدين، أقوى رئيس استخباراتي في الجزائر، والذي عُرف باسم "ربّ الجزائر" أو "توفيق"، وذلك بعدما قضى 25 عاماً زعيماً للمخابرات، ويُقال إنه كان واحداً من أكثر رؤساء الاستخبارات بقاءً في منصبهم لأطول فترة، كما أنّه سبق وتدرّب على يد جهاز الاستخبارات السوفياتي خلال الستينات من القرن الماضي.

بعد إلقاء القبض على مدين، قام بوتفليقة بتفكيك دائرة الاستعلامات والأمن التي كان يرأسها "رب الجزائر"، والتي نمت لتصير قوةً سرّيةً مترامية الأطراف. بدلاً منها، شكّل الرئيس الجزائري هيئةً جديدة موالية له سُمّيت بدائرة المصالح الأمنية، بقيادة جنرال متقاعد.

لم ينجُ من هذه الإقالات سوى أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش، وهو أحد الموالين المخلصين لبوتفليقة، وآخر بقايا حرس الثورة القدماء، كما أنه يُسيطر على القوة الكاملة للجيش الجزائري.

هذا الرّجل الموالي لبوتفليقة خرج بتصريحاتٍ تهديدية ملمّحاً إلى إمكانية تدخُّل الجيش لمواجهة الاحتجاجات إذا خرجت عن السيطرة، وسط مخاوف من أنَّ أي تدخل قد يثير صراعاً وحرباً أهلية صريحة.

وفي يوم الأربعاء 6 مارس، قال قايد صالح للقادة والضباط العسكريين أنّ الجيش الجزائري مستعدّ "للوفاء بكلّ مسؤولياته"، وذلك في أكاديمية شرشل العسكرية التي تقع على بعد ساعتين فقط بالسّيارة عن العاصمة الجزائرية التي شهدت الاحتجاجات الشعبية.

في نفس السياق، أضاف صالح أنّ "القضاء على الإرهاب أثار استياء بعض الأطراف التي تنزعج من رؤية الجزائر آمنة ومستقرّة"، مؤكّداً أنّ "هناك أطرافٌ ترغب في إعادة الجزائر إلى سنوات العنف"، وأن "الشعب الذي هزم الإرهاب يعرف كيف يحافظ على استقرار أمّته وأمنها". وكلّها تصريحات لها أهمية سياسية بالنسبة لمستقبل البلاد.

أما المنظمة الوطنية للمجاهدين، التي تضمّ قدامى المحاربين الذين قاتلوا في حرب الاستقلال الجزائرية بين عامي 1964 و1962، فقد انحازت، في تناقض صارخ، إلى صفِّ الشعب.

وذكرت نفس المنظمة في بيانٍ أصدرته يوم الثلاثاء 5 مارس/آذار: "يجب على المجتمع الجزائري بشرائحه المختلفة الخروج إلى الشوارع".

في هذا السياق، قال جليل بوقرة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قسنطينة لـTRT عربي "موقف المنظمة الوطنية للمجاهدين ضربةٌ لشرعية الائتلاف الحاكم".

وأضاف أنّ "الجيش ما زال باقياً في ثكناته حتى الآن، لكن من المؤكد أنه سيتدخّل متحججاً بإعادة الاستقرار إذا قرَّر الحزب الحاكم أنَّ الأوضاع خرجت عن السيطرة. فالنخبة الحاكمة تعمل الآن على تحقيق توازنٍ دقيق، بينما تحاول استنزاف الزخم في مقابل تغييراتٍ أو تعهُّداتٍ متزايدة، مع أوامر صارمة للأجهزة الأمنية بالحرص على عدم قتل المتظاهرين أو إصابتهم خوفاً من إثارة ثورة"، مضيفا: "هم أدرى، لقد كانوا آباء الثورة الجزائرية في الأساس".

عقيدٌ جزائري متقاعد رفض الكشف عن هويته، وكان مسؤولاً سابقا عن برنامج تصنيع الأسلحة في البلد، أكّد لـTRT عربي أنّ "الجيش لن يتدخّلفي الوقت الحالي، لأنَّها ليست قضيته. لكنْ يبقى لديه تفويضٌ دستوري لدعم السلام والاستقرار، ويمكن التذرُّع به بسهولة. وفي الوقت الراهن، يُركِّز الجيش على منع محاولات تهريب الأسلحة عبر حدود إفريقيا جنوب الصحراء وحدود ليبيا من جانب الانتهازيين والمتطرفين الذين يريدون إثارة نزاعٍ مسلح".

وأضاف المتحدّث ذاته أنّه "حتى ولو تمّ القضاء على زُمرة بوتفليقة، إلا أنّ الحاكم القادم سيضطرّ إلى نيل رضى السلطة"، مُشيراً في الوقت ذاته إلى الاسم المشهور لنخبة الجزائر السّرية، التي يُزعم أنها تمثل الدولة العميقة في البلد.

بالنسبة للعقيد، "لن يكون هناك تغييرٌ، والتغييرات الوحيدة ستكون لتهدئة مطالب المتظاهرين، أمّا أصحاب السلطة الحقيقيون فسيبقون في أماكنهم".

دماء جديدة

تدخّل الجيش قد لا يكون بسيطاً كما يصوّره قادته. في هذا الصّدد، يرى المحلّل السياسي الجزائري مسعود لعربي أنّ "معظم الكوادر الجديدة في ضبّاط الجيش الجزائري أتوا من الطبقات الدنيا أو المتوسطة، ويشعرون بألم الشعب".

ويضيف، في تصريحه لـTRT عربي أنّ "الضباط العسكريون يعرفون أن الجيش قد يشهد انقساماتٍ داخلية إذا طُلب من ضباطه الهجومُ على الشعب، خاصّة وأنهم مقتنعون بدورهم الأساسي في الحفاظ على مصالح البلد وحماية شعبه".

هذا الأمر لن يمنع تدخّل الجيش بالضرورة. فبالنسبة للمتحدّث ذاته "ما زال الجيش قادراً على ملء الشوارع بالدّبابات والجنود، وكلّ ما عليهم فعله هو التذرّع بداعش أو الإرهاب".

رمالٌ متحرّكة

يختلف الموقف الذي اتخذه الجيش في بداية الأزمة السياسية بالجزائر عن استعداده للتدخّل اليوم. ففي يوليوز من العام الماضي، رفض نفس الجيش فكرة التدخّل، وذلك حين دعا عبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم ـ الحزب الإسلامي الرئيسي في الجزائرـ الجيشَ إلى "حلّ أزمة البلد"، وإتاحة الفرصة "لانتقال ديمقراطي".

آنذاك ردّ قايد صالح قائلا: "من المحزن، بل ومن الغريب وغير المنطقي وغير المقبول أن نرى بعض الأشخاص والأحزاب عشية الانتخابات يستبعدون أنفسهم عمداً من العملية السياسية".

هذه الدعوة كانت تحمل مفارقةً صارخة، إذ أنّ انقلاب الجيش على فوز الائتلاف الإسلامي في التسعينات هو الذي تسبّب في الحرب الأهلية الوحشية التي عُرفت لاحقاً بالعشرية السوداء.

صُنّاع الملوك

في مذكراته المعنونة بـDans les arcanes du pouvoir (في غموض السّلطة) الصّادرة في الجزائر في منتصف عام2017، تناول رشيد بن يلس، الجنرال المتقاعد والأمين العامّ السابق لوزارة الدفاع، التغيير الذي طرأ على السياسة الجزائرية.

ويؤكد بن يلس في كتابه أنّ"بومدين ( أول رئيس جزائري) لم يُشرِك الجيش قَط في صنع القرار، حتى أنَّه منع السّاسة من الاقتراب من الجيش". هذا دون أن يذكر أنّ بومدين كان القائد الأعلى للقوات الثورية الجزائرية نفسها.

ويضيفُ الجنرال المتقاعد أنه "عندما نتحدّث عن الجيش الجزائري، فإننا لا نعني الجيش ككلّ، بل مجرّد عدد قليل من كبار الضباط والجنرالات، فالجيش هو الذي خلق هذه الأمة، وهو المؤسسة الأقوى والأقدم، مما يجعله الطرف الأقدر على تقرير مصير بلدنا".

وبغض النظر عن الموقف الذي سيتخذه الجيش، فلا يمكن التقليل من دوره في تقرير مصير الجزائر.

دخان ومرايا

ضابط حالي في المخابرات العسكرية الجزائرية رفض الكشف عن هويته خوفاً من الانتقام، انتقد، في تصريح له لـTRT عربي فكرة أنّ الجيش يمتلك قوة مطلقة في البلد.

وأكّد الضابط في نفس التصريح أنّ"هذا جزءٌ من سرديةٍ غربية تقول إنَّ الجزائر تُدار بواسطة جنرالات فاسدين سِمَان مُسنين. إنَّهم لا يروننا سوى عَرَبٍ يلتهمون بعضهم بعضاً، فيُرضي ذلك أوهامهم العنصرية. ولا يتقبلون أي وجهة نظر أخرى".

وعن الصّف الذي ينحاز له الجيش الوطني الجزائري بالفعل، أكّد الضابط أنّ "الجيش قوة تسعى لمصلحة البلد"، مُضيفاً أنّ "الجيش الوطني الجزائري مرتبطٌ باستقلال الجزائر مهما كلَّفه ذلك. لقد تشكَّلت ثقافته من خلال واقع حرب الاستقلال والطريق المؤلم نحو الاستقلال. إنَّه ليس صانع قرار، بل يخدم القيادة. لذا فالسؤال الصحيح ليس هل الجيش سيتدخل، بل هل سيأمره قادتنا بالنزول إلى الشوارع؟".

الجنرالُ المتقاعد خالد نزار قال في يونيو من العام الماضي عند صدور مذكراته: "لقد انجررنا إلى السياسة رغما عنا".

وفي ظلّ انخفاض أعمار نصف سكان الجزائر تحت سن الثامنة والعشرين، قد تشهد الأسابيع المقبلة قبل 18 أبريل، صداماً بين شبابٍ لم يسبق لهم أن عرفوا الحرب ولم يعرفوا سوى عدم الاستقرار، وجيشٍ متأهِّب يقوده مُسِنون يعتقدون أنَّه يحمي ثمار الثورة الجزائرية التي رُوِيَت بالدماء.

صورة من مظاهرات الجزائر الأخيرة (AFP)
مظاهرات الجزائر (Getty Images)
مظاهرات الجزائر (Getty Images)
صورة من مظاهرات الجزائر الأخيرة (Getty Images)
صور من مظاهرات الجزائر الأخيرة (AP)
TRT عربي