تابعنا
بعد أن خاضت البلاد لفترة طويلة غمار أزمة اقتصادية طاحنة، رحب طيف من الشعب التونسي بقرارات قيس سعيد بحل الحكومة وتجميد عمل البرلمان، لتحميلهما المسؤولية الكبرى في تصاعد الأزمة، في حين وصفها مخالفوه بالانقلاب على إرادة الشعب.

يبدو أن الطبقة السياسية في تونس وبقية البلدان العربية أغفلت جزئية هامة في البدايات التي أشعلت فتيل ثورات الربيع العربي بالمنطقة سنة 2011، فحادثة حرق البوعزيزي لنفسه وهو خريج الجامعة التونسية الذي يقتات على عربة خضار بسيطة، تؤكد أن الحاجة إلى الغذاء والعمل والأمن والسكن مقدمة على بقية المطالب التي تقف في هرم الاحتياجات العادية والطبيعية لكل مواطن. ولم يكن الشعار الذي رفعه التونسيون في الاحتجاجات التي أطاحت بحكم نظام بن علي منادين بالكرامة الوطنية، إلا مطلباً أساسياً يتطلع الجميع لتحقيقه على يد من سيتولى الحكم بعد ذلك.

وأمام ارتفاع سقف التوقعات والآمال، انزلقت تونس في أزمة سياسية لم تتخطَ آخرها، واستمرت فترة طويلة بين كل مكونات المشهد السياسي ومؤسسات الحكم، غلبت فيها التجاذبات والحسابات الشخصية والصراعات الإيديولوجية، على المصلحة العامة. ففشلت في الاستجابة لمطالب الشارع، وعصفت بالبلاد إثر ذلك أسوأ أزمة اقتصادية تفاقمت حدتها في الفترة الأخيرة، لتثير سخطاً شعبياً حاداً.

ولم يكن الغضب الشعبي إلا فرصة ومحفزاً للرئيس التونسي قيس سعيد لإعلان حل الحكومة وإعفاء رئيسها هشام المشيشي من منصبه، وتجميد عمل البرلمان، وسط ترحيب وتأييد طيف من الشعب التونسي ومؤسسات المجتمع المدني، الذين يعلقون آمالهم من جديد لإيجاد حلول عاجلة تطوق الأزمة الاقتصادية التي أنهكت البلاد.

ضغط مالي وتحديات اقتصادية

يعيش الوضع الاقتصادي التونسي في الفترة الأخيرة أزمة غير مسبوقة، زادت في حدتها التداعيات السلبية للوضع الوبائي العالمي، والذي كلف البلاد خسائر تتراوح بين 7 و8 مليارات دينار تونسي خاصة مع فترة الإغلاق العام الذي شهدته البلاد في شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان سنة 2020.

كما شهدت نسبة الاستثمارات تراجعاً من 26% إلى 13% وتراجعاً في نسبة الإدخار إلى نحو 6% وتراجعاً في العملة الأجنبية، إضافة إلى تراكم للدين السلبي الموجه للاستهلاك. وذلك وفق ما صرح به محافظ البنك المركزي في وقت سابق.

وأشارت في الوقت ذاته إحصائيات رسمية إلى ارتفاع معدل البطالة إلى حدود 17.4% سنة 2021، فيما ارتفعت نسبة الفقر في بعض المناطق من 20% إلى 53%. فتصاعد بذلك الحراك الاجتماعي، وارتفع عدد الاحتجاجات الذي قدر بحوالي 7610 احتجاجات منذ بداية سنة 2020 إلى موفى شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وذلك وفق إحصائيات نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

أدى ذلك كله إلى انهيار في مختلف القطاعات وشلل اقتصادي تسبب في هزات مالية، أوقعت البلاد تحت عجز مالي بلغ سنة 2020 نحو 11.5% وانكماش اقتصادي قدر بحوالي 8.8%. فتفاقمت بالتالي قيمة المديونية، لتبلغ خلال العام الجاري حوالي 35 مليار دولار.

لم يكن أمام الحكومة التونسية حينها إلا التفاوض مع صندوق النقد الدولي في مايو/أيار الماضي لاقتراض مبلغ بقيمة 4 مليارات دولار لتخطي الأزمة الاقتصادية أو التخفيف من حدتها. ولكن الأخير اشترط بدوره، ضرورة القيام ببعض الإصلاحات وتوفير نوع من الاستقرار السياسي وتوافق بين جميع الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي والوطني للتمكين من القرض.

ويبدو أن هذا الشرط أصبح اليوم غير ممكن، وخاصة في ظل الظروف الحالية التي تعيشها البلاد، إثر قرارات قيس سعيد الأخيرة.

هل يتمكن سعيد من طمأنة المانحين؟

في ظل ما تعيشه تونس من أزمة سياسية على خلفية القرارات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس التونسي، أكدت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في بيان رسمي بأن هذه القرارات ستخفض من حظوظ تونس في تلقي الدعم من الشركاء الغربيين، وقد يؤدي فشل التفاوض مع صندوق النقد الدولي إلى استمرار الاعتماد الشديد على التمويل المحلي، حيث أكد خبراء اقتصاديون تونسيون أن المفاوضات بشأن القرض الذي طلبته تونس لا تزال تشهد تعثراً، دون أي مؤشر على حل قريب، خاصة أن تونس سبق أن طلبت قرضين سنة 2013 و2016 مقابل إجرائها مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، إلا أنها لم تتمكن من النجاح في ذلك لاحقا.

ورغم ذلك، يسعى قيس سعيد إلى طمأنة حلفائه والدول المانحة على قدرته على تعيين رئيس حكومة جديد وتشكيل طاقم وزاري في أقرب وقت يتمكن من إدارة شؤون البلاد، وأكد في الوقت ذاته أن هناك مساعدات مالية خارجية ستصل إلى تونس قريباً، وبالتالي ستتمكن من الإيفاء بتعهداتها المالية الخارجية.

إلا أن وعود قيس سعيد لا تكفي لتشجيع الحلفاء والمستثمرين، في ظل غياب خريطة طريق واضحة، وتداول واسع على وجود أزمة سياسية حادة، لم تتجاوز بعد.

وقد رجح محللون وخبراء في هذا السياق أن الأزمة ستشهد مزيداً من التعقيد، خاصة مع اقتراب آجال سداد الديون الخارجية، الذي يهدد بتراجع احتياطي البلاد من العملة الأجنبية. ويكاد يجمع الجميع على أن الحل لن يكون إلا سياسياً في هذه المرحلة، حيث إن الاستقرار السياسي هو أحد أهم دعائم الاستثمار المحلي والأجنبي.

TRT عربي